اللحظة الهاربة:
في مدينة الفارابي الفاضلة، وقريبا من محطة اللغة، التقى المعنى بالمفهوم، قائلا له بتودد: قبل تزييف الحقيقة كنا أنا وأنت واحدا، نغني أغنية الوجود على ساحل القدر، ونستعين في صياغة لحنها العالي على إحساسنا بوهج الروح … كنت في عتمتي أقدرُ قيمة ما عندك من محمولات النور.. كلانا يا صديقي نعاني أزمة القلق الوجودي الذي هو ضريبة خروجنا عن نسق الدلالة وتحمل قسوة الزمن ولحظاته الهاربة من حياتنا، وتحويل صداها الباقي إلى نغمة تصاغ في الذاكرة، تكتبها بذوق رفيع يصل إلى ذروة المشاعر والإحساس بمتعة الحياة تلك التي ضاقت مساحة وجودنا فيها مع تسارع إيقاع الزمن وعدم توازننا في أمواجه المذهلة. حسنا من الممكن ألَّا نعود إلَّا ونحن قلم جف حبره عن الكتابة بعد أن خط أولى الكلمات. لذا فالكتابة تشبهنا تماما نقطر فيها من أرواحنا تفاصيل الوجوه، تسلبنا الكثير من الأقنعة التي لبسناها أمام مرآة الحياة وبكل تخفٍ وغموض. وأنا الآن أفعل الشيء نفسه حينما كنت طفلا ..كأن السنين توقفت.. كل شيء كما كان . كنت أمدُّ يدي في المساء لالتقط نجمة الثريا التي كنت أراها قريبة مني. كنت أعد النجوم ولا أحصي منها إلا عشرا. استنشق بعمق رائحة جدتي التي تنام بجانبي واستانس بسماع قلبها يغني. في الصباح الباكر أنهض مسرعا لأرى حدود كوني الذي لا يتجاوز البيت والفناء وبعضا من أشجار التين والعنب والتمر. عندها أعود إلى أمي واقفا متأملا فيها لاسترد حماسي ويقيني وإيماني بالآتي وأسمع من جديد جرس الحياة .
د.سامي محمود ابراهيم الجبوري
د.سامي محمود ابراهيم
رئيس قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة الموصل العراق