طبعة ثورة العشرين الثانية:سماتها؟/3
عبدالاميرالركابي
من اهم خواص التشكل الازدواجي الامبراطوري الرافديني انه لايتحقق وياخذ مداه الا بحالتين: الأولى سبقه في التبلور والنمو المجتمعي التاريخي على غيره من الكيانات المجاورة، والثانية توفر أسباب الامتداد خارج الحدود بفعل غياب القوة المضادة او القادرة على المقاومه، وهذان هما الاشتراطان اللذان تحققت ضمنهما الدورة الإمبراطورية الازدواجية الأولى في التاريخ البشري، حين قامت الإمبراطورية الاكدية وصولا الى البابلية، قبل أي تبلور كياني مجاور، وبالذات الكيانيه الشرقية والفارسية تحديدا، ناهيك عن الرومانية، ثم الثانية التي قامت وترسخت ضمن اشتراطات الفتح والتحاق المجال الشرقي الممتد الى الهند والصين، بالابراهيمة، وتحولها الى اطار من اطرها الأهم والاقرب والابقى، بعد الأول التاسيسي الرافديني الشرق متوسطي، والثاني الغربي الأوربي المسيحي ليحتل الموقع الثاني من حيث مستوى التطابق مع التوحيدية النبوية الابراهيمة مقارنه بالثانية الاوربية الاسبق زمنيا لاتكوينيا.
اليوم ومع الدورة الحالية وبدء عملية التشكل والصعود الثالثة التحولية والأخيرة، يحصل مالايتطابق مع تلك الاشتراطات والممهدات، وبينما تعود الاليات الازدواجية الإمبراطورية للعمل بعد الانقطاع الثاني المستمر من 1258، تتبلور على الطرف الاخر من المتوسط وفي مجتمع الانشطارية الطبقية، أسباب تفضي الى الحيلولة دون مواصلة الاليات الازدواجية لعملية تشكلها واكتمالها المطابق لبنيتها وكينونتها، هذه الموضوعه تاخذنا الى البحث في مسالة أساسية يجري طمسها بداهة للأسباب المكرر ذكرها، وبالاساس لغلبة وترسخ مفاهيم الأحادية المجتمعية في العقل البشري، تلك هي مسالة ثنائية الكيانية العراقية كما تكون متمثلة بظل ماقبل اكتمال التشكل الازدواجي، السابق، او المفضي الى اكتمال التشكل المقصود، الامر الذي يحتاج الى التنوية والتوقف التوضيحي، هو بالذات من دون مناحي أخرى اساسيه.
وللاختصار تدليلا على الفارق بين العراقين عراق الانقطاع، وعراق بدء التشكل، يمكن اخذ ” بغداد” ونوع انتسابها المتغير باعتبارها بالاصل عاصمة العراق الازدواجي الامبراطوري، وكيف صارت والى ماذا آلت، ولاي تصنيف، او انتساب، هل هي عاصمة العراق، ام العاصمة الإمبراطورية، ام المكان الرمزي المتبقي من الدورة السابقة الثانية والمستعمل كمكان توضع للدول والحكومات البرانية التي تتوهم حكم العراق من ” عاصمته”، التي لم تعد عاصمته، الامر الذي لم يحدث لا ابان فترة الانقطاع والفوضى العارمه، التي حلت على جنوب ووسط العراق بعد سقوط بغداد، ماجعل من المستحيل امتداد سلطة بغداد الى ارض السواد، وحكم على الدول والسلالات المتعاقبة على الحكم ابان تلك الفترة، ان تعيش في المدينه الباقية من الدورة الثانية، والمتوسطة الى الأعلى من ارض السواد، معزوله داخلها، بلا سلطة على بقية أجزاء العراق، وبالأخص جزءه الجنوبي، ودلتا النهرين منه على وجه الخصوص.
هذه الناحية كرست وتكرس واحدة من اكبر الأخطاء والضلالات، الباقية مستملرة الى اليوم، سواء لدى العراقيين انفسم، او لدى الدارسين وقراء تلك الفترة من التاريخ (1) وفي حين كان الواجب تقسيم العراق، الى عراق اعلى من متبقيات الدورة الثانية، وعراق اسفل في حالة تمخض فوضوي باتجاه الدورة الثالثة، ظل الاحاديون يصرون على اخضاع موضع له الياته الازدواجية الخاصة، لاشتراطات واشكال تحقق في التاريخ لم تعد قائنه اليوم، فما كان لهم ان يتصوروا بان “بغداد” ليست عاصمة العراق، وانها بالاصل وليدة الكوفه ضمن مسار اليات الدورة الثانية الازدواجية الامبراطورية، وليست أحادية عراقوية لاوجود لها، وكما هو القانون فان العباسيين اختاوا حكم الأفق الممهد امامهم الى الشرق خارج ارض الرافدين غير القابله للحكم، فارتكزوا لمفاعيل الفتح الجزيري الشرقي أولا كما الى الغرب، بدل العراق الأسفل المستعصي بنيويا وتاريخيا، والذي ظل محكوما من قوى وحركات واشكال ليست من نمط السلطوية المنفصله، واشكال تنظيم ملائم، ابرز وجوهه “مجلس العقدانية” القرمطي، عدا عن الحركات السرية المختلفة، والتيارات التي تشكل بمجموعها شكل تجل مجتمعي لمجتمع غير قابل للتجسد الارضوي الأحادي المعروف.
ووقتها حين اضطر العباسيون للهرب من الكوفة الى الانبار بداية، ومن ثم الى الهاشمية (2)قبل بغداد فان ماكان يحدث هو استجابه لقانون خاص بالمكان وبنيته، كما كان الحال مع لكش وبابل من قبل، مع بعض الاختلافات التي اقتضتها شروط الابتداء، وطريقة عمل الاليات الكلاسيكية ضمن مواضعات البنية الصرفة، من دون عوامل برانيه، عندما كانت دولة اللادولة المابين نهرينية تتشكل على وقع وبناء لقانون “العيش على حافة الفناء” اللاارضوية، والمانعة بالمقابل لاية تمايزات يمكن ان ينتجها المجتمع غير القابل للتحقق ارضويا للتعذر، حين تنزل الدولة الأحادية من اعلى بصيغة الغزو ابتداء، محملة بفكرة السيطرة بالقوة والغلبة الأحادية،التي سرعان ماتبدا تتبدد بمواجهة مجتمع حريته تعادل سلامة العملية الإنتاجية فيه، فلاخضوع مترافق، او يمكن ان يترافق مع استمرار الانتاجوية بصيغتها اللاارضوية شروطا، والتي تتطلب نوعا من التنظيم والاستجابة، يستحيل معها قبول ماهو خارج عن الذات والإرادة التنظيمه الملائمه لاشتراطات ونمط “العيش على جافة الفناء”، ماقد جعل السيف والرمح ومن ثم البندقية(3) بيد المنتجين المشاعيين العراقيين، ليس سلاحا دفاعيا او هجوميا فرديا، بل لازمة أساسية من لوازم سلامه العملية الإنتاجية وديمومتها، لابل وضمان وجودها، مثلها مثل المحراث والناعور والمنجل.
وضع مثل هذا كان سيولد بداهة لا مجرد قوانين عيش خاصة استثنائية، بل وديناميات كيانية تمثلت في تفاعلية الدول او السلالات الطامحة للسيطرة من خارج مجتمع ارض السواد التي اضطرتها دائما الى التحور وإعادة تشكل نفسها، واليات وجودها، عن طريق أولا التحصن خارج المجتمع المشاعي ( في أعلاه عادة)، في مدن تتحول الى “مدن دول” محصنة اشد تحصين، واشبه بالقلاع العسكرية، وفي أوقات لاحقة، مدن/امبراطورية، والى دول معسكرة من الداخل مع اشتراطات دولة مدينية مكتفية بذاتها، تصل ذروة تشكلها بعد زمن من محاولات حلب الريع عن طريق الغزو الداخلي، والعودة للانكفاء داخل المدن المحصنه والقلاع، الى ان تضطر لتعلم التلاؤم مع اشتراطات الازدواج، وتصير عنصرا مكونا منه فتسعى ال تملق الدولة الأسفل غير القابله للتجسيد، والى مصادرة الهتها باسم الايمان بها تملقا، كما محاكاة شرائعها ومفاهيمها ونزع الصفة الاستبدادية كليا عنها، ( 3) ووقتها تميل الدول المدن المذكورة للانكفاء الى حيث جاءت، وتصير معنية بإيجاد الريع المتعذر داخليا، من خارج الحدود، الامر الذي يفسر لماذا وصل سرجون الاكدي الى ليبيا وساحل الشام، والاناضول، بعد عيلام ليصرح: “انا حاكم زوايا الدنيا الاربع”، ان العظمة والسطوة المطلقة المفقودة والمتعذرة في الداخل، تتحول الى امتداد لخارج الأرض امبراطوريا(4) الامر الذي لم يعرفه مكان قبل ارض الرافدين في التاريخ، وهو من دون شك مولد نمط من الحكم والامبراطورية والدولة غائب عن مجال الفكر والمعرفة بنمطها الأحادي السائد لصالح نماذج معتبرة مثالية أساسها اوربي اغريقي اوربي حديث.
هل سيجد القاريء، فيما نذهب اليه نوعا من الاغراق في التفاصيل، قد يعتبرها بعيدة كثيرا عن المحور المفترض البحث فيه، أي ثورة العشرين العنوان، ان حدث شيء من هذا فاننا نكون بالأحرى امام ملمح من ملامح الأحادية، او استسهالها الذي ظل مهيمنا لازمان ليست قصيره في عمر التاريخ، لالي تبين وتوضح بقدر ما تطمس وتزور، وتغيب الظواهر والحقائق الحية الأصل، والاليات المتصلة بها، وكمها بالمقدمه بما يخص العراق، ثورة التحولية الرافدينيه الحديثة في 31/6/1920.
ـ يتبع ـ
وقفة توضيحية اضطرارية تحت عنوان:
“الدولة المنتقصة”؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)لاشك ان اول قراءة اجماليه من نمط التسيسية الكيانية التصورية “الحديثة” المقاربة لحدود الكمال الضروري كما كان متاحا في حينه، إنكليزية استعمارية استشراقية، كتبها الضابط الإنكليزي همفسلي لونكريك ( المفتش الإداري في الحكومة العراقية) والموسوم ب ” أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث” وضع بالانكليزيه، وترجمه “جعفر الخياط” وصدر بحسب الطبعة الخامسه التي بين أيدينا عن دار الكتاب.
(2) يراجع في هذا كتاب “بغداد” من كتب “دائرة المعارف الاسلاميه” بقلم ( شترك، عبدالرزاق الحسني ، عبدالعزيز الدوري) صص 21/22 من مساهمه المستشرق شترك/ دار الكتاب اللبناني/ مكتبة المدرسه.
(3) يقول الملك فيصل في ماقد عد نوعا من مذكراته متذمرا من حال الامتحان في حكم العراق، في الكلام المشهور له، والذي يصف فيه العراقيين كعادة حكامه على مر التاريخ ب ” السماعون للسوء، الناعقون وراء كل ناعق” الى ان يصل للقول: ” كل ذلك يضطرني للقول بان الحكومه اضعف من الشعب بكثير ولو كانت البلاد خاليه من السلاح لهان الامر لكنه يوجد في المملكة مايزيد عن المائة الف بندقية، يقابلها 15 الف حكومية، ولايوجد في بلاد الله حالة حكومه وشعب كهذه” عبدالرزاق الحسني/ تاريخ الوزارات العراقية/ مطبعة دار الكتب/ بيروت 1974/ الطبعه الرابعه، ج3/ صص 125 ـ 126 .
(4) في بابل”كان الملك يلعب دورا في الاحتفالات الدينيه اللاحقة دورا مهما حيث يدور في ارجاء المعبد ويلقي كافة شارات حكمه امام الاله، ثم يقدم تقريرا عن اعماله في السنة المنصرمه، ويعترف بذنوبه، وعليه ان يعلن براءته عن وقوع بعض الاحداث التعسه والمصائب، وبعد ذلك يتلقى الملك صفعة على وجهه من رئيس الكهنه، مع جر الاذنين منبها إياه بتادية كل الواجبات الدينية على اكمل وجه، وبعد ذلك يسمح له بحمل شاراته الملكية” رحلة الى بابل القديمه/ الدكتوره ايفلين كينكل ـ برندت / ترجمة الدكتور زهدي الداودي/ دار الجليل/ رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين/ ص 156/ ولا اظن اطلاقا ان هنالك حاكم على وجه الأرض، وعلى مر تاريخ البشرية، بما فيهم التافه “ترامب”الديمقراطي، ناهيك عن بريجينيف، ولاداعي لذكر متوحش مثل ستالين الاشتراكي، او حتى بابا الفاتيكان، قد حكم، او يحكم بمثل هذه الروح، ولا الاشتراطات النافيه للسلطة والمسقطه لاهم اركان هيبتها وجبروت رموزها الذي لايمس.
طبعة ثورة العشرين الثانية: سماتها؟/3
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا