الدكتور زاحم محمد الشهيلي
فرضت جائحة كورونا واقعا اجتماعيا عالميا مؤلما، فصارت المصطلحات “خليك في البيت” و”بقاءنا مرهون بابتعادنا” و”افتراقنا هو عين اجتماعنا” و”القلوب عند بعضها” شائعة وتردد باستمرار، والتي بلورت فكرة التباعد الاجتماعي بين الناس بهدف الوقاية من وباء كورونا، حيث اضحى الاهل والاحبة حبيسي جدران البيوت ومن الصعب عليهم لقاء بعضهم البعض، وامسوا يتبادلون التهاني والتعازي في المناسبات المختلفة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل الالكترونية الاخرى.
حيث اثارت فكرة التباعد الاجتماعي وتأثيراته النفسية مخاوف الباحثين في مجال علم الاجتماع الاسري على العلاقات الاجتماعية للدولة، مؤكدين على ان الاواصر والعلاقات الاجتماعية بين الناس ستتأثر سلبا بالتقادم الزمني، اذا ما استمر الوباء واستمر معه الحجر الصحي لفترة طويلة كواقع حال في المستقبل، الامر الذي يهدد البناء الاجتماعي الاسري السليم القائم على الالفة والمحبة والتعايش السلمي بين الناس بالتفتت والانهيار.
وإذا ما اردنا تطبيق فكرة التباعد الاجتماعي- خارج اطار جائحة كورونا- على المكونات الاجتماعية للدولة ولاحظنا مدى تأثيره السلبي على انصهارها في بودقة واحدة للخروج بنتيجة التعايش السلمي بين المكونات وكيفية التفاعل من اجل طرح الافكار والرؤى التي يستطيع النظام من خلالها النهوض بالواقع السياسي والاقتصادي والثقافي للدولة، فان ذلك سيكون اخطر من وباء كورونا وأكثر فتكاً بأمن الدولة ومكوناتها ومستقبلها السياسي وتفتيت نسيجها الاجتماعي.
وعليه فان فصل المكونات الاجتماعية للدولة عن بعضها البعض حسب القومية والعرقية والطائفة، كما يُفصل التوأم المتلاصق عن اخيه، وجعلها تعيش في “كانتونات” حجر مغلقة دون الاختلاط مع المكونات الاخرى سيؤدي بالنتيجة الى تشويش في النشأة والتفكير والرؤى بين ابناء المجتمع الواحد ذات المكونات المختلفة، والتي تزيد من فجوة التباعد الطردي بين الأجيال، الامر الذي يؤسس الى نشوء فكرة العدائية والانفصال غير المبرر بعد بلورة الشخصية الادارية التي تبدو مستقلة شكلا لكنها مندمجة مضمونا لذلك المكون او تلك العرقية او الطائفة في رقعة جغرافية معينة داخل حدود الدولة الأم.
لذلك فان بناء الدولة العصرية لا يقوم قطعاً على اساس فكرة التباعد الاجتماعي بين المكونات الوطنية للدولة، وانما على اساس الاندماج والتعايش السلمي وتقليص الفجوة التي فرضتها الظروف القاهرة في زمن ما، وان الوصول الى الاندماج الحقيقي يحتاج الى ايمان وطني بالانتماء للأرض والمجتمع، والاتفاق السياسي الروحي غير المصطنع، الذي تبنى عليه قاعدة سن القوانين التي تحفظ للفرد كرامته وحقه في العيش الرغيد حيثما كان وأنى يشاء، ويضمن حقوقه ويحدد واجباته.
حيث تلعب البرامج التربوية التوعوية التي يتبناها النظام السياسي من خلال وسائل الاعلام والمؤسسات التعليمية، وتوفير شبكة مواصلات برية وجوية وسكك حديد حديثة يستطيع المواطن الانتقال من خلالها في ارجاء الدولة، وضمان حق العيش في ابعد نقطة في ربوع الوطن الكبير، دورا كبيرا وبارزا في تسهيل عملية الاندماج الانساني والروحي والثقافي والفكري بين المكونات والطوائف المختلفة، الذي يقلل من شدة الاحتقان والعدائية غير المبررة بين ابناء الوطن الواحد ويزيد من الالفة والمحبة والتعاون، وبذلك تستطيع الدولة ان تنتج مجتمعا معافى ينظر الى المستقبل بعين التفاؤل والطمأنينة.