حسان الحديثي
دخلت المقهى اليوم فلم أجد أحداً ممن اعرف فيها فجلست وحيداً ثم كتبت:
عجيبةٌ هي عاطفة الشعر؛ تنقلك من الحقيقة الى الخيال بيسر وتستل روحك من الواقع الى الوهم بلطف وتوهمُك أن الجماداتِ التي حولك لها أرواح وأكبدٌ وقلوب، فبعضهم مَن ودَّ لو سُقيَتْ بالغيث كما فعل جرير حين قال:
مَتى كَانَ الخَيَامُ بذي طُلُوحٍ
سُقِيتِ الغَيْثَ أيْتُهَا الخِيَامُ
أتَنْسَى؟ إذ تُـوَدِّعُـنَـا سُـلَيْمَى
بفرعِ بَشامةٍ، سُقىَ البَشـامُ
والبَشام عودٌ طيب الرائحة كان العرب يتخذونه سواكاً يطيّبون به افواههم ويجلون به أسنانهم، تخيل ان احداً يستاكُ بعودٍ ثم ما ان يراك راحلاً ويخشى التوديع خوف أعين الناس وتحسباً من الافتضاح فيحرك لك عود السواك، اي رحيل واي وداع.
وبعضهم وجد في الجمادات والاشجار أنساً وطيبَ صحبةٍ كمالك ابن الريب حين تمنّى لو سار بجنب شجر الغضى وواديه لا يفارقه ولا يتقاطع معه حين قال:
فَليتَ الغضى لم يقطعِ الركبَ عرْضُه
وليت الغضى ماشى الرِّكابَ لياليا
ولقد وجدتها مكتوبةً بالرفع “الركبُ” على الفاعل ولكني لا استطيع قراءتها الا بالنصب “الركبَ” على المفعولية واني اكاد اجزم ان مالك ابن الريب جعل “عرضُه” مرفوعاً اذ اراد ان يجعل من الوادي والغضى فاعلاً متحركاً كي يصلحَ ان يكون رفيقاً، الم ترَ انه قال: ليته ماشى الركاب ويقصد “الوادي والشجر” فجعل المماشاة من صنع الجمادات والاشجار.
ولم يكتف الشاعر بذلك بل جعل لبعض الشخوص الثابتة احاسيسَ ومشاعرَ كما فعلت الفارعة الشيبانية في رثاء أخيها الوليد ابن طريف الشيباني حين أنكرت على الشجر عدمَ جَزَعِه على موت اخيها فسألته وكأنه يرى ويسمع ويعي القول:
أيا شجرَ الخابور مالكَ مورقاً؟
كأنّك لم تجزعْ على ابن طريفِ
بل تعدى معروف الرصافي في رثائه للشيخ محمود شكري الألوسي كل ذلك حين أبكى العراق عليه وجعل دجلة والفرات سطرين للدمع على خدي العراق فقال:
أما العراقُ فأمسى الرافدانُ به
سطرين للدمعِ في خدّيه قد سالا
وأذكر انني قرأت مرةً لاحدهم قوله:
وبحثتُ عن خلٍّ وفيٍّ في الورى
وخبَرتُهم جيلاً يقفّي جيلا
حتى اذا انكرتُهم وأصابَني
يأسٌ تَخِذْتُ من العراقِ خليلا
لكنني لم اجد أحداً حاكى الجماد مثل محاكاة عبدالامير جرص في أبيات أربعة يخاطب بها الوطن حين جعل العراق صاحباً ثم قريباً ثم أخاً ثم أباً ، وعلى الرغم من أنّه -رحمه الله- لم يُحكمْ بناء الابيات كما ينبغي، وبالرغم من أن الوهن اعترى بعض ألفاظه حين جاءت متخلخلة الأطراف غير متماسكة العُرى، إلا أنّ العاطفة التي بثّها والدفء الذي حفّها والحنين الذي لفّها أعاض عن الارتباك الذي اعتراها….يقول جرص:
حبيبي، أَما زلتَ العراقَ تُحبّه؟
أَليس بكافٍ ما ترى من متاعبِ
فقلتُ: شبيهي بالأَسى وشبيهُهُ
كما أَنه بالجوعِ والموتِ صاحبي
إذا سرتُ يوماً والعراقُ بصحبتي
يظنّون مَنْ لمْ يعرفوه أَقاربي
يقولون: هل هذا أَخوك؟ نعم أَخي
يضيفون: هل هذا أَبوك؟ بلى أَبي
ساقول لكم شيئاً: نعم أنا عراقي أحب العراق ولكن ليس كما يحب الناس أوطانَهم ، وأحب الشعر ولكن ليس كما يحبه اهل الذوق والفن، غير أنني -وهذه أمانة أدبية تأريخية- لم أجدْ مَن ناجى وطنه بالشعر والنثر وحاكاه حقيقةً وخيالاً، مجازاً وواقعاً كما فعل العراقيون، وان اردتم ان تعصبوها برأسي وتقولون تحيّز لعراقِه فافعلوا فذاك ليس بضائر الحقيقة شيئاً.
.