الدكتور زاحم محمد الشمري
قصة قصيرة مستوحاة من واقع مرير، حيث لا دين ولا قانون تحدد الاخلاق العامة للإنسان، وسط فوضى انعدام المثل والقيم والكرامة والأخلاق الانسانية التي كان يؤمن بها ويقاتل من اجلها الاسلاف. ان انهيار المنظومة الاخلاقية للإنسان جعلته يبتعد كثيراً ولا يعترف بالقيم السماوية ولا بالقيم الانسانية والقانونية المكونة لنسيج العلاقات الاجتماعية في دائرة التعايش الواحدة. وقد طال هذا الانهيار والتمرد نفوس ممن نضنهم “أنبياء” هذا الزمن الرديء، فالمصلحة الخاصة وحب أذية الاخر اضحت تعلى ولا يعلى عليها، سواءً بالحق أو بالباطل على حساب مصالح الاخرين الذين ليس لديهم من سبيل سوى التذرع الى الله الواحد القهار ليحق الحق ويزهق الباطل، و”ان ذلك على الله يسير” (صدق الله العظيم).
في زمن نراه بعيدا وهو عند الله قريب، حدث في احدى مماليك الشرق المندثرة، التي قامت على ركامها امبراطوريات عديدة على مر التاريخ، كان هناك حاكماً شديداً تطول يده كل الرعية، في مملكة مترامية الأطراف غارقة بالفساد، من خلال حاشية مكفهرة الوجوه، قساة القلوب، لا يميزون بين الحق والباطل، بعد أن اعمى الله بصرهم وبصيرتهم … لكنهم يدعون الورع والتدين.
وكان، في دهاليز هذه المملكة، قاضٍ عادل تقصده الناس لينصفها ويحل مشاكلها قدر استطاعته، فترى طوابير المدعين تنتظر عند بابه ليحكوا له قصصهم كي يقضي بها، فهو بالنسبة لهم قدوة للحق ومثال للنزاهة والورع والسمعة الطيبة … وذات يوم قامت حاشية القاضي بمصادرة حق لأحد الرعية كان قد أوصى به الملك إليه. ضل الاعرابي حائراً بين عدالة القاضي وفساد الحاشية وكرم الملك، الذي لا تستطيع قدمه ان تطأ حضرته بسبب نفوذ حاشية القاضي في قصر الملك. فنصحه الناس ان يذهب الى القاضي ليشتكي حاشيته، فعنده لا يضيع حق ولا يظلم إنسان.
اخذ الاعرابي بنصيحة الناس ودخل في طابور المدعين ينتظر اياماً وأسابيع حتى سنحت له الفرصة في مقابلة القاضي … وبعد ان سرد الاعرابي للقاضي شكايته، أخذ القاضي يبرر “كذباً” فعلة مقربيه النكراء ليسلب هذا الرجل حقه لحساب نفسه وحاشيته. وفي الوقت الذي يتحدث القاضي، سرح الاعرابي بأفكاره وقال مقولته الشهيرة: “والله لقد أغلقت ابواب الجنة وفتحت ابواب النار ولم تبق إلا رحمة ربي” ، وأخذ بعضه وأنصرف.
نستخلص من هذه القصة القصيرة الكثير من العبر منها كشف حقيقة ممن يخفون وجوههم القبيحة خلف رداء الانسانية والطيبة الزائفة ليضلوا بها الآخرين، لان مصلحتهم فوق كل المصالح. وعليه فان نصيحتنا لمن يهمهم الامر أن يجربوا الأخيار بأشياء تخصهم ليكتشفوا زيف حقيقتهم ومعدنهم الاصلي … فكثير منا يخفي وجهه القبيح تحت قناع أجاد الصانع في تزويقه ليضل به الآخرين!