رحيم حسن العكيلي
حينما يتجذر الفساد في مجتمع ما، تسود فيه قيم خاصة تختلف فيما عداه من المجتمعات، أخطرها ان يقدم صاحب الرصيد البنكي في الاحترام والتقدير على صاحب الرصيد العلمي، بل ان الرصيد العلمي يثير السخرية أمام رصيد السلطة ولو لمن زور شهادته الدراسية. وتتراجع قيم العمل والانتاج
أمام قيم الكسب السريع، وتتدهور قيم العلم والثقافة أمام قيم الربح والثروة حتى تصبح الاخيرة هي المحرك الأساس للطبقة السياسية الحاكمة ليس لأغراض جمع الثروات غير المشروعة فقط، بل لضمان البقاء في السلطة او لانتزاعها لاحقا.
ولكن ما هي العوامل الواقعية التي تؤدي الى تجذر الفساد في المجتمعات الى الحد الذي يغير قيمها؟
ان القيادات السياسية التي تمارس الفساد او تدافع عنه او تنكره رغم ادعائها امام الشعب محاربته، تلك القيادات المجروحة التي لا تكون فوق مستوى الشبهات لدى الشعب هي مدارس للفساد والإفساد ومعامل منتجة للقيم التي تحتضن الفساد. والممارسات الآتية تصنعها وتكون دليلا قاطعا عليها مظاهر معينة، هي – عينها – عوامل تجذر الفساد في المجتمع:
أولا: تقديم السياسة على القانون: فتصبح الحسابات السياسية بديلا عن الحسابات القانونية في حل مشاكل الدولة والمجتمع، بل حسابات السياسيين واتفاقاتهم ومصالحهم هي الفيصل في تقرير مصير الضالعين بالفساد، فتتقدم المصالح الحزبية ومقتضيات التوافق السياسي على حساب الدستور والقانون ومصلحة الوطن والشعب، فلا بأس اذا عطل الدستور ما دام الفرقاء السياسيون راغبين بذلك ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة.
وثانيا: تغلب القوة على الحق: فليس مهما ان تكون على حق او باطل لتنال ما تريد او يمنع عنك ما تريد، ولكن ان تكون قويا او ضعيفا، فاذا كنت قويا اخذت ما شئت ولو كنت على باطل. فذلك يؤدي الى انعدام سيادة القانون وشيوع الوعي بغلبة الأقوياء الذين يضربون بالقانون عرض الحائط، وتظهر منهم طبقة فوق القانون من رؤساء الاحزاب والكتل السياسية والمتنفذين ورجال الاعمال واصحاب الثروة، فلا يستطيع احد مساءلتهم ولو خرقوا الدستور او ارتكبوا ابشع الجرائم او نهبوا الاموال العامة علنا.
وثالثا: غياب عنصر المساءلة: فاذا أمن الفاسد بانه لن يحاسب عن أفعاله، فان نمو الفساد وتجذره يصبح امرا طبيعيا، وبلا عوائق او مصدات، وانما يضعف عنصر المساءلة حينما تكون الرقابة او المساءلة الشعبية منعدمة او ضعيفة، وحينما تحارب حرية الرأي والاعلام، وحينما تتبنى الحكومة إسكات أصوات المنتقدين والمعبرين عن آرائهم السلبية بها، عن طريق أدوات القهر وإنفاذ القوانين التي ينبغي ان تستعمل ضد الفاسدين وليس ضد المنتقدين.
ورابعا: حلول الولاء بدل الكفاءة: حينما تعتمد القيادات السياسية والادارية على معيار الولاء – سواء أكان الولاء للحزب او الكتلة او الطائفة او الولاء للقائد السياسي او الاداري نفسه – في التعيين في المناصب القيادية، حين ذاك يتسلق اليها الانتهازيون وماسحو الاكتاف والجهلة والفاشلون وانصاف المتعلمين، على حساب الكفاءات والمهنيين، فتغيب القدوة الحسنة، وتقدم النماذج السيئة – كقيادات مسنودة – لتقتدي الناس بها، فينتعش الفساد، وتتوالد مظاهره، وتتجذر قيمه في المجتمع، فانما الناس على دين ملوكهم، فاذا استقامت الحكومة استقام الناس.
وخامسا: انعدام الشفافية: فحينما تخفي الحكومة الحقائق عن الناس، وتعمل مؤسساتها خلف الاسوار العالية، وحينما تدار امور الدولة وتصرف مواردها بطريقة لا يسمح للشعب والاعلام بالاطلاع عليها، وحينما تخلط الاوراق عليهم، عن طريق تسييس ملفات الفساد، ومنع ملاحقة الفاسدين وتعطيل ومحاربة الرقابة والمساءلة بتوفير الحماية المباشرة وغير المباشرة لممارسات الفاسد، فإن ذلك إنما يلقن الناس درسا في الاحتيال والغدر، ويؤدي الى فقدان ثقة الناس بالحكومة، وشيوع مشاعر التذمر والتمرد والانفلات لدى طبقات المجتمع المغلوبة على أمرها.
وسادسا: ترهل القيادات السياسية والادارية: فاذا استمر القادة السياسيون او الاداريون في مناصبهم لفترة طويلة، فإن ذلك يؤدي إلى نمو شبكة المصالح من حولهم، فيورق الفساد وتنمو جذوره، ليصبح شجرة شيطانية عظيمة يصعب اقتلاعها.
ان تلك المظاهر والمعايير مؤشرات واقعية لقياس تراجع او تقدم الفساد في بلد ما، فاذا قامت تلك المظاهر فإنها مؤشرات على استمرار تعاظم الفساد ونموه وتجذره، اما اذا اختفت كلها او بعضها، فإن ذلك مؤشر على تراجع الفساد، فأين نحن في العراق منها؟
الرئيس السابق لهيئة النزاهة