فؤاد علي أكبر
في خِضم الزحام والفوضى الخَلاَطَة، التي تضيع فيها الحدود والمسافات بين المعقول واللامعقول وتتلاشى فيها كل المعايير والقيم الأنسانية والحضارية في العراق، تُهمل تفاصيل صغيرة كثيرة رغم أهميتها، وكم من صغيرةٍ هي أثمن وأهم بكثير مِن ما صَعُبَ حَملهُ وكَبُرَ حَجمهُ. أَزَمات وصِراعات سياسية حقيقية ومُفتعله تُكرِسُ الطائفية والعنصرية والحقد والعنف. عمليات أرهابية وتفجيرات تَنالُ الأبرياء وتُهدد حياتِهم بالكامل وتُحيلها إلى ساحات حَرب وسَيطرات وجُنود ونقاط تَفتيش وكتل كونكريتية ومتاريس ومواضع عسكرية وأختناقات مرورية أبتداءً من الأزقة والشوارع وأنتهاءً بالأوردة والشرايين الدموية والمجاري التنفسية للأنسان. جرائمُ خطفٍ وقتلٍ ومكائد تَبث الريبة والرُعب في القلوب وتَسلب الأحساس بالأمان من الجميع. فساد مالي وأداري وأخلاقي وتزوير وأحتيال يُعرقل كل محاولات البِناء والأعمار والأستقرار ويدفع بالمسؤولين الحمقى إلى وضع أجراءات وتعقيدات روتينية قاتلة يَدفع ثَمنها المواطن البرئ وتُسهل على الفاسدين أبتزازه بطرق مختلفة أخرى. فبالرغم من قانونية طلبات المواطن عَليهِ أن يَدفع الرِشى حفاظاً على حقوقه وصحته ووقته وربما حياته من الضياع. وضع أقتصادي عشوائي غير منظم يَسيل لهُ لُعاب الطامعين ويُثير الجَشَعَ في نفوسِهم ويُهدد ويَستنزف قوت الفقراء والمَعوزين. نَقصٌ واضح في الخدمات العامة والصحية بكل أشكالها تدمر حياة الأنسان وتجعل منها جحيم لايطاق، خرائب ومزابل وأنقطاعات في التيار الكهربائي، تُعيد به إلى زمن “المهفة” أو تجعل منه أنسان آلي وسط ضجيج المولدات المرعبة وتجعل من الحلاقين والمضمدين والعطارين أطباء وجراحين وصيادلة. خوفٌ شامل من ممارسة الحريات والثقافات والتعبير عنها بالفعل يُحيل المدينة الى كابوس لا مُتنفس فيه.
وسط كل هذه الفوضى وبالرغم من أن الأطفال هم الضحية الأولى لكل هذه الأوضاع المزرية تُرتكب جرائم كبيرة بحق الأطفال والصغار دون أن يُعار لها أي أهتمام من أحد.
فَبعد غربة طويلة عُدت فيها إلى بلدي الجريح والمُثخن بالجراح ولأني فَضلت أن أكون مُعظم الوقت بين الناس وفي المناطق الشعبية والفقيرة والتي أُحس بالأنتماء أليها أكثر من أي شئ آخر كنت دائما أصاب بالأعياء والصداع، وأنا أتجول في شوارع بغداد من هَول الأوضاع وحرارة الجوّ والعواصف الترابية وصعوبة التأقلم بعد عقدين من الغربة في بقاع مختلفة من الأرض أنتهت بي في بلاد الفايكينكس والصقيع، فكانت تَغيبُ عني تفاصيل مهمة كثيرة وسط هذه الدوامة الكبيرة حتى جاءت مناسبة أنعقاد القمة العربية في بغداد وتم قطع الطرقات والشوارع وتكثيف القوات العسكرية والأمنية وتعطيل الدوائر والحركة بالكامل لمدة عشرة أيام وصَرف مليارات الدولارات للأعداد للقمة التي كانت جبلاً على صدور العراقيين لكنها تَمخضت عن فأر. وحين خَلت الشوارع من السيارات والعجلات والمركبات برزت ظاهرة غريبة كشفت عن حقيقة مُرّة كانت غائبة عني في غمرة الأحداث فقد خرج آلآف الطفال، مثل معتقلين يعانقون الحرية لأول وهلَه بعد سنين فراق طويلة، من البيوت القديمة المكتظة بالسكان والأزقة الضيقة إلى الشوارع وشكلوا مجاميع على شكل فرق رياضية ووضعوا الأحجار والعلب الفارغة من المزابل المكومة على جوانب الشوارع وبدؤا يلعبون كرة القدم. وقفت مذهولاً بعد أن أغرورقت عيناي بالدموع وأنا أتسائل من أين جاء كل هؤلاء الأطفال واين كانوا يعيشون وكيف أستوعبتهم هذه الأماكن المتعبة الضيقة وماهي ظروف حياتهم؟؟؟ وتتابعت الأسئلة في ذهني وكدت أصاب بالدوار من كثرتها فجلست على حافة الطريق وأنا أتذكر المساحات الشاسعة الخضراء والملاعب الرياضية الرائعة والمسابح وقاعات الهوكي والتزلج على الجليد المنتشرة في كل مكان من بلاد الكفر والأمان وهي أكثر بكثير من المساجد والصوامع في بلاد الأيمان والعدوان. مالذي يجعل أطفالنا يعيشون كل هذه المأساة وهم أبناء بلد تضيق به الثروات والخيرات ومالذي يُميّزهم عن باقي أطفال العالم.. وكم ملعباً وكم منزلاً لائقاً كانت ستوفرها لهم هذه الأموال التي هدرت في القمة وماسبتقها من قمم وحمم وحروب؟؟؟. أسئلة كثيرة كانت تدور في خاطري في فسحة من الزمن وَفرتها لي قمةُ بغداد بعد أن أَغلقوا الطرقات وعطلوا الدوائر والحياة وأنقطعت مراجعاتي الى الدوائر لمتابعة المعاملات. تابعت الموضوع بأهتمام وبدأت أسأل من أعرفهم من الأصدقاء والمقربين حول وضع الأطفال وطريقة معاملتهم في ظل هذه الظروف فتكونت لدي فكرة لاتبشر بالخير بسبب عدم أهتمام الكثيرين بالموضوع كثقافة سائده وبسبب بعض ما سمعته من حوادث عن معاملات وحشية للأطفال من بعض الأصدقاء ومن بعض الأطفال أنفسهم والذين كنت أحاول الأقتراب منهم لِفَهم بعض الحقائق ومما أثارني كثيراً في هذا المجال هو أني أستطعت أن أكون علاقة طيبة مع طفل يعاني من حالة “داون سيندروم” وبسبب تميز هؤلاء الأطفال بالأفراط في الألفة واللطف والتقارب الأجتماعي بَدأ يتحدث لى عن سوء معاملة والده له بالضرب والأهانة دون أن يستطيع معرفة الأسباب والدوافع التي دفعت والده لأساءة معاملته فقد تحدث لي كيف أن والده يدخله الى حمام المنزل وينهال عليه ضرباً بقطعة من خرطوم المياه “الصونده” وحين حاولت عدم تصديقه ممازحاً ومتهماً أياه بالمبالغة لتحفيزه على الكلام أكثرتعصب وأدار ظهره لي رافعاُ قميصه ليُريني آثار الضرب وقد صدمت مما رأيت! فقد بانت على ظهره آثار تعذيب وحشية، كالتي كنا نشاهدها أو نتعرض لها من ممارسات همجية كانت تمارس ضد المعتقلين على يد جلاوزة صدام المجرم، فرغم ألتئام الجروح فقد تركت على جسده الضعيف تورمات مستديمة على شكل خطوط وأخاديد داكنه ومشوهه تختلف عن لون وطبيعة الجلد في المناطف الأخرى السليمة من الجسم لتدل وبوضوح على تمزق طبقات الجلد وأتلافها تماماً وحين بادرته بالسؤال فيما لو كانوا قد أخذوه الى المستشفى بعد هذه الأصابات الخطيرة ألتفت إليَّ مبتسماً ببراءة وعفوية تمزق القلب دون أن يجيب على سؤالي وحين توجهت بالسؤال لأحد الأصدقاء القريبين عن ذلك أجاب ربما كانوأ قد أخذوه إلى المستشفى وحين سألته ألا تتخذ المستشفى أجراءتها بأخبار الشرطة عن ذلك فأجاب مستهزءً بالأوضاع.. لا أحد سيهتم بذلك. حينها فكرت في زيارة طبيب صديق يعمل في قسم الطوارئ كنت قد تعرفت عليه عندما أصبت بحالة تسمم خطيرة من المياه والمأكولات الملوثة بكل المصائب دون أهتمام أومتابعة صحية تذكر من الجهات الصحية. وفعلاً ذهبت لزيارته بعد أن علمت أن المستشفى مازالت تعمل في ظروف القمة رغم عدم أستطاعة أغلب العاملين الحضور بسبب أنقطاع الطرق. فسألته عن دور المستشفى في حالة تعرض طفل لأصابة تثير الشك لديكم بأنها أرتكبت بفعل فاعل فأجاب في الحقيقة وفي الغالب ياصديقي(لاشئ..) وأستمر قائلاً حتى لو تم أخبار الشرطة بذلك فستكون الأجراءات غير مجدية بسبب أهمال واضح من الشرطة في هذه المسائل أما لأسباب ثقافية أو أمنية والمشكلة الأساسية تكمن في عدم تعاون ذوي الطفل نفسه والتستر على الفاعل والأدعاء بأنها حصلت بفعل فاعل مجهول أو تأليف قصة غير حقيقية عن الحادثة علماً أن الأغلبية لا يرغبون مطلقاً بوصول الأمر إلى مسامع الشرطة ولو قمنا بأجراءات مشددة فأني واثق بأن الكثير منهم سيمتنع عن جلب الطفل المصاب إلى المستشفى مما يعرض حياته لمخاطر أكبر… وبعد حوار طويل مع صديقي الطبيب خرجت بمعيته بخيبة أمل كبيرة مما سمعت من حوادث وقصص موجعة وغريبة ومرعبة تحكي وبجلاء بشاعة الأوضاع التي يمر بها الطفل في العراق. في الطريق المؤدي إلى الخروج شاهدنا طفلة بعمر ثلاثة أو أربعة أعوام ملقاة على أحدى المناضد بقرب غرفة التصوير الشعاعي وهي تأن وتصرخ لأدنى حركة وبجانبها أمرأة بسيطة وساذجة المظهر علمت بأنها أمها لما بدى عليها من قلق وتوتر شديد فأقتربت منها لأسألها عما تشكو منه الطفلة فقالت أنها تعاني من ألم شديد في ظهرها بسبب ضربة من والدها في الصباح الباكر لأمتناعها عن تناول الفطور والطعام منذ يوم أمس. وحين سألتها هل من المعقول أن أن يعامل طفل بهكذا وحشية؟ فقالت ماذا سنفعل أذا كان الطفل لايسمع الكلام ولايأكل؟ وكأنها تدافع عن تصرف زوجها وتبرره بالرغم من الأصابة الخطيرة التي تعاني منها الطفلة المسكينة ولهفتها عليها. هذا الموقف يلخص وبوضوح حجم المأساة التي يعاني منها أطفالنا في العراق ناهيك عن آلآف القصص عن جرائم مقصودة دامية! يتعرض لها الأطفال دون رادع أو وازع من ضمير أو ثقافة أو قانون وهكذا تمر جرائم بشعة ومروعة دون حساب وهكذا يتم تدمير مستقبل العراق مثلما دمر ماضيه ويدمر حاضره خصوصاً أذا علمنا أن الطفل، وبغض النظر عن الجوانب الأنسانية والأخلاقية، يعتبر أهم ثروة قومية مستقبلية في ثقافة وفكر المجتمعات المتحضرة وحتى في أعراف وتقاليد الكثير من المجتمعات الغير المتحضرة ففي أية مرتبة نحن من فصيلة البشر؟