محمد فاضل نعمة
لم يخطر في بال أهل بغداد يوما ان يتعاملوا مع مصطلح التهجير كأمر واقع بعد ان كان مرتبطاً بمخزون ذاكرتهم التاريخية التي تنشطها بين الحين والاخر كتب التربية الاسلامية او خطب الجوامع او فيلم تاريخي يتحدث عن بداية دعوة الرسول (ص) عندما اخرج كفار قريش المؤمنين من ديارهم ظلماً ،ولم نكن نتصور ان تنهار الروابط الاجتماعية بهذا الشكل الدراماتيكي ونحن نراقب مجاميع الغوغاء الملثمة وغير الملثمة وهي تجوب شوارعنا ، تكسر سكون المجتمع بصرخات حقد او اطلاقات غدر يسقط بعدها في بركة من الدماء جسد حار سرعان ما يبرد …ومعها تعلمنا الاحتفال بالموت من خلال التلاشي ،حتى اصبحت رؤية الناس وهي تهرع مسرعةً إلى الاختباء خلف أبواب دورهم يحكمون اغلاقها ويسدلون ستائرهم يتمنون ان تنقلهم ظلمة المكان الى عوالم اخرى . ..أكثر ايلاماً من منظرالموت البشع نفسه..أو عندما نفتحها من جديد نبدأ في البحث عن مبررات لتغطي على ضعفنا وعجزنا وذلنا… بان نصنع للجريمة شرعية مزيفة..فيُطمئن احدنا الآخر أن الشيعي المقتول هو أحد أعداء مجتمعنا الذي ينتمي الى فصيل سياسي لم يسمع به المرحوم من قبل، أو أن السني المقتول من العناصر الارهابية وهو خبير متفجرات على الرغم ان المرحوم لم يستخدم سلاحا في حياته… وعندما نسمع في جوف الليل او مطلع الفجر اصوات قبيحة تصرخ على جارتنا الارملة وبناتها الصغار ليتركوا دارهم خلال ساعة دون ان يحملوا اي من متاعهم الذي استنزف من حياتهم عشرات السنوات من الكد والعوز الاقتصادي ليؤمنوا مسقبل اولادهم، نراقبها من طرف الستارة وهي تمشي مع اطفالها مرعوبة وقد احتضنتهم خوفا من ان يسرقهم زوار الليل … وعندما نفتح ابوبنا في الصباح نسلم خائفين على غرباء ينظرون الينا بتحدي قاتل اصبحوا جيراننا عنوة بدل من ام البنات…وبعد أيام نلمح غرفة استقبال جارنا في الجهة المقابلة التي طالما جلسنا عليها في امسياتنا الماضية وغرفة نومه التي ساعدناه في تركيبها قبل عرسه بأيام تحمل على عربة بائع الاثاث المستعمل بعد أن باعها بسعر بخس جيراننا الغرباء الجدد … وهم يرددون بفرح يشبه الهستيريا انها غنائم احلها لهم شيخ الجامع القريب باعتبارهم يشبهون من وجهة نظره الفاتحين الاوائل من صحابة الرسول.
اكثر من ثلاث سنوات أنقضت على هذه الفوضى واكثر من سنة على بدأ الخطة الأمنية في بغداد …وأكثر من أربعة اشهر على بدأ خطة إعادة المهجرين إلى دورهم وخصوصا في المناطق التي تدعى بالساخنة … وما زالت نسب المهجرين المسجلين لدى الاجهزة الرسمية عالياً جدا،وما زال العديد من القلائل الذين استجابوا لحملة العودة يتعرضون بين الحين والاخر لعمليات تهديد وابتزاز طالت حياة بعضهم ..على الرغم من ان المؤشرات تشير الى انحسار نشاط المجاميع المسلحة وعدم قدرتها على العمل كما كانت في السابق…المشكلة الحقيقية أن جريمة التهجير ولدت انماطا من الجريمة المنظمة المستحدثة في مجتمعنا ،فحوالي 70% من اولائك الذين استولوا على دور المهجرين لا يمتلكون دور سكن يعودون إليها…ولا يتمكنون اقتصاديا من دفع بدلات الايجار التي ارتفعت بشكل جنوني في الاونة الاخيرة في معظم مناطق بغداد، او انهم لايرغبون الدفع بعد ان تعودوا السكن دون ثمن في دور كبيرة وحديثة لايستسيغون معها العودة الى جحورهم الخانقة التي كانوا يسكنون بها قبل ذلك…كما إن بعض المجاميع وخصوصا التي كانت تتعاون مع المجاميع المسلحة امتهنت منذ سنوات المتاجرة بدور المهجرين من خلال فرض اتاوات على عمليات البيع والشراء لهذه الدور بحجة تمويل عملياتهم المسلحة لكن الحقيقة ان الكثيرين منهم اثروا بشكل فاحش ويشغلون جيشا من المرتزقة اغلبهم من القاطنين الجدد … وأيضا هناك العديد من الاشخاص المطلوبين امنيا او عشائريا في مناطقهم لارتكابهم جرائم وجدوا ملاذات امنة لهم في مناطق اخرى بصفة مهجرين ، وطبعا لاننسى بقايا المتطرفين الذين آمنوا بمبدأ العزلة الطائفية او القومية ويحلمون بخلق كانتونات منها داخل بغداد، او بقايا خلايا نائمة من المسلحين ما زالت تحلم باستعادة دورها السابق تنتظر اوامر مموليها وثغرة امنية للاستيقاظ …هؤلاء جميعا يتحالفون اليوم في جبهة لايستهان بها من حيث القوة والامكانات والتاثير …استطاعت لحد الآن تعطيل إجراءات المصالحة المناطقية وعودة المهجرين الى دورهم….
من خلال الرجوع الى التاريخ من جديد فان من اكرهوا على ترك ديارهم ظلما عادوا اليها من خلال منطق واحد وهو شعور كفار قريش بقوتهم والتي ترجمت في حملة الرسول(ص) على مكة وارغام ابو سفيان بقبول الإسلام…السؤال الذي يلح علينا الان هل اتخذت الحكومة كل ما بوسعها لمعالجة هذه الازمة الخطيرة؟ وهل استطاعت ايصال الاحساس بقوتها وسطوتها الى كل الخارجين على القانون من مختلف المناشىء؟ ..الشواهد تشير إلى ضعف الأداء الحكومي في هذا المجال ويمكن ان نؤشر اربع جوانب سلبية اولها استخدام سياسة عدم الاعتراف بوجود المشكلة والتعتيم على العديد من جوانبها وبالتالي عدم القدرة على فتح قنوات مقنعة مع المواطنين للمشاركة في ايجاد الحلول من خلال مناقشة مفتوحة لجميع المسببات والنتائج ،وثانيها التعامل مع المشكلة باعتبارها مشكلة سياسية في حين ان الواقع يشير الى انها جريمة منظمة استغلت سياسيا وبالتالي فان المعالجات تختلف بين الاثنين فالحالة الاولى تميل الى استخدام الحوارات وتغيير القناعات اما الحالة الثانية فتحتاج الى تشريعات حازمة وقبضة حديدية لاجبار الخارجين عن القانون للامتثال له تصل احيانا حد علانية العقوبة لايصال الرسالة وهذا في حقيقته لايناقض حقوق الانسان كما يدعي البعض بل ينسجم معها على اعتبار ان حقوق الضحايا هي اولى بالاعتبار من حقوق القتلة…والجانب الثالث هو استخدام الحكومة لسياسة المساومة في علاقتها مع القوى السياسية وخصوصا تلك التي تعلن بشكل واضح دعمها لهذه المجاميع او التستر او الدفاع عنهم من خلال تسييس جرائمهم ،اما الجانب الرابع وهو حالة الفوضى الدينية وانتشار سياسة الفتوى واستخدام اماكن العبادة كمقرات لقوى وجماعات مسلحة او داعمة لها في ظل عجز حكومي واضح في السيطرة على هذا الجانب الخطير.
ما بين نشاط المسلحين وعجز الحكومة يبقى الموقف الشعبي هو الفيصل في ان يدرك المواطنين من مختلف الطوائف والقوميات انهم ضحايا لاصحاب مصالح سياسية واقتصادية وجدت في اكتافهم متكئاً لها لتحقيق اغراضها ، وان يوحدوا جهودهم لتصحيح الاوضاع الفوضوية واعادة بغداد الى سابق عهدها مدينة متحضرة احلى ما فيها طيفها وتنوعها الثقافي …وان يرغموا أبو سفيان أيا كانت توجهاته على احترام القانون والنظام الديمقراطي .