في الذكرى الـخـمـسـين لاستشهاده:
غـسان كنفاني مناضل وأديب ينال الشهادة عن جدارة
“صباح الاغتيال. يوم السبت 8 تموز 1972جلسنا أطول من المعتاد نحتسي فنجان قهوة على شرفة بيتنا في الحازمية. تحدث غسان كعادته في أمور كثيرة، واستمعنا كعادتنا باهتمام لحديث ذكريات عن طفولته في فلسطين مع أخته فايزة، وقبل أن يغادرنا في الساعة الحادية عشرة إلى مكتبه أصلح القطار الكهربائي ، اللعبة المفضلة لابننا فايز، وكان على لميس ابنة أخته أن ترافقه لزيارة أقارب لنا في وسط بيروت.
بعد دقيقتين دوى صوت انفجار هائل، تحطم على أثره زجاج النوافذ واهتز البيت بعنف. صرخت دون وعي: غسان… ونزلت بسرعة لأجد سيارتنا الصغيرة أشلاء ممزقة. كانت لميس ملقاة على بعد أمتار من السيارة جثة هامدة، ورأيت وسط الركام ساق غسان اليمنى مبتورة وملقاة على الأرض صرخت بفزع: غسان… غسان… علمت فيما بعد انهم وجدوا أشلاءه في الوادي وعلى أغصان الأشجار، نقلوها بعيدا عني. أيقنت أنني فقدت غسان للأبد”.
بهذه الكلمات البسيطة والحزينة أرخت آني كنفاني (المرأة العظيمة بكل المقاييس) زوجة الشهيد غسان الستار على رحلة زواجها القصيرة، ورفقتها لرحلة مرض طويلة، في بحر عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين سنة لرجل ترك أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة مشاعل مضيئة مازالت تغوص في معانيها ومعاناتها أقلام وعقول أكثر من أن تحصى، عملت بمباضعها الخبيرة كل صنوف التشريح وكتبت آلاف الصفحات دارسة ومفسرة لزخم إنتاج هذا الرجل.
استطاع غسان بنصفه الحي الذي طالما كتب عنه أنه يحلق ويبدع في ميادين شاسعة واسعة… فبالإضافة إلى التزامه الحميم بالعلاقات الأسرية الإنسانية المادية منها والمعنوية كعامل ربط مستمر لواقع أسرة (مثل أكثر الأسر الفلسطينية) فرضت عليها ظروف الحياة والتشرد أن تنتشر في أصقاع الأرض تنحت الصخر وتخرج منه نبل البقاء ¬. وهذا بالتحديد ، مثل إزميل نحت في شخصية غسان شعوراً عميقاً بالانتماء المطلق الذي ينسحب أيضا على ما يدور في دائرته من انتماء متكامل إلى مجتمعه وشعبه وبالتالي وطنه، استطاع في مساحة زمن ضيق أن يبدع في كل ما اتجه إليه، فكان كاتباً متميزاً في مجالات الرواية والقصة والدراسة والبحث والمقالة والنقد الساخر والمحاضرات وآلاف الرسائل واليوميات والخواطر.
وكان إلى جانب ذلك حزبيا منتظماً ومنظماً ومخططاً استراتيجياً، وكان مناضلاً ومقاتلاً ورساماً وخطاطاً ونحاتاً، وكان أيضا شغوفاً بما تصنعه يداه في منزله أو مكتبه أو حديقة بيته. واستطاع من خلال الأدب بكل أشكاله والذي جنده طيعا مطواعاً في خدمة السياسة وبالتالي النضال (وهذا إنجاز استثنائي) أن يصل بل أن ينطلق من القواعد إلى الأفق، مسخراً (بسلاسة الفهم لواقع الأشياء على الأرض) كل حرف كتبه لتأصيل الارتفاع والارتقاء بالفرد الفلسطيني المقهور والمسحوق واللاجيء إلى مقاتل وفدائي يفرض ما يريد، وينتهي باستمراره هذا إلى النصر والعودة إلى الوطن. مفهوم بسيط في حقيقة شرحه، محفور على كل لسان يقول إن التجارب علمتنا أن لا بديل عن الكفاح المسلح تحديداً، ولا بديل عن تراب الوطن ولا بديل عن فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر.
تقول آني زوجة الشهيد غسان : “عندما تعرفت على غسان أول مرة في أيلول 1961طلبت منه زيارة المخيمات الفلسطينية التي سمعت عنها الكثير في بلادي ¬ الدانمارك… ¬ أجابني بغضب: “هل تحسبين شعبنا حيوانات معروضة للفرجة في حديقة حيوانات.” ، ثم شرع يتحدث بهدوء أكثر عن شعبه. ومن خلال غسان وما تعلمته منه ما أزال حتى الساعة أعمل بكل طاقتي في سبيل فلسطين لأحمل بجدارة اسمي كزوجة للشهيد غسان وكأم لأولاده الفلسطينيين.”.
أي رجل هذا؟! لقد اقترح أحد الباحثين تقسيم حياة غسان إلى ثلاثة مراحل كل مرحلة تمتد 12سنة، الأولى منذ ولادته 1936وحتى عام النكبة 1948 ، وهي مرحلة الطفولة واللجوء. والثانية حتى 1960مرحلة الدراسة والعمل بين دمشق والكويت. ثم المرحلة الثالثة حتى استشهاده في 1972حيث اعتبرها الباحث المرحلة الأهم التي تألق فيها غسان إبداعيا وفكرياً وكفاحياً وأسماها بالمرحلة البيروتية.
إننا نوافق من حيث المبدأ على هذه المقولة، إلا أننا نزيد أن هناك عوامل هامة لا تنفصل عن الحالة الإبداعية لغسان ليس فيها مراحل وتقسيمات، ابتدأت هكذا دفعة واحدة، وتطورت وتهذبت وصقلت وصارت إلى ما صارت إليه، وأننا بادعائي هذا نعتمد بيقين على مخزون وافر من الذكريات التي بدأت مع بداية الوعي، وقبله من خلال مذكرات مكتوبة بيد والده رحمه الله الذي كان اشد ما يكون حرصاً على تدوين مذكراته اليومية منذ عام 1924وحتى تاريخ وفاته عام 1984بلغت أكثر من عشر مجلدات ضخمة مدونة فيها الأحداث، مختلطة بين سياسية وعسكرية واجتماعية وعائلية ليست عن غسان فقط بل عن كل فرد من الأسرة بما يخص كل واحد منذ نطقه الأول وحتى النهاية.
ما يهمنا من ذلك أن غسان الذي ولد عام 1936، مع بداية الثورة الفلسطينية على سلطة الانتداب البريطاني ومجموعات العصابات الصهيونية ورضع مع حليبه الأول كماً متراكماً من الصور الملونة لأحداث كثيرة خاصة وعامة، نعني اسرياً، وهو يرى والده ما يكاد يخرج من معتقل حتى يدخل في آخر، ووطنياً مع الرؤية اليومية لجثث المناضلين في الشوارع.
ونسوق مثالا جاء في مذكرات والده كما يقول عدنان كنفاني انه “بتاريخ الثلاثاء 26/4/1948صحونا صباحا على صوت الرصاص وقذائف الهاون التي تطلق باتجاه بيوتنا بكثافة من جهة محطة القطار في عكا ¬ وكنا وقتها مع بداية اللجوء قد أتينا من يافاـ مكان إقامتنا وعمل والدي ـ إلى عكا بيت جدي لامي والحادثة المذكورة جرت فيه ¬ فخرج ولدي، غازي واحمد السالم وفاروق غندور وأخي صبحي يحملون بواريدهم ويطلقون الرصاص من بيت الدرج باتجاه اليهود المهاجمين، وخرجت لاستطلع الأمر حيث رأيت بعيني جثة لرجل من السكان العرب¬ لم أتبين من هو¬ ملقاة في وسط الشارع وكان ولدي غسان حول أقاربه يجمع أغلفة الرصاص الفارغة الساخنة. في المساء لاحظت بعض الحروق على كفيه”.
وهذه بلا شك صور من المعاناة التي عاش غسان في أتونها. وحين استفاق اثر ضربة اللجوء القاضية وجد انه فقد مع جيله الوطن، لتبدأ معركة اشد حرارة وقهرا لا توازن فيها ولا قواعد.
فالمرء أمام قتال بالأظافر لمجرد البقاء على قيد الحياة وهي حياة عاشها غسان بكل أبعادها، كان في الخامسة عشرة من عمره يحمل على كتفه الطرية الطاولة والكرسي الخشبي ليقف ساعات أمام بناء العابد ¬ مجمع المحاكم في ذلك الوقت ¬ لكتابة العرائض مقابل قروش قليلة وعندما يعود منهكاً في المساء إلى البيت المزدحم يساهم مع البقية في صنع أكياس الورق أو طي ملازم الصحف والكتب، وفوق كل ذلك يدرس ويكتب، نعم كان يكتب في ذلك الوقت أيضا، وكانت كتاباته ¬ رغم طفولتها ¬ هادفة ومركزة وقادرة على إيصال الفكرة، وكانت على صورة قصص قصيرة أو تمثيليات إذاعية.
في السابعة عشرة من عمره بعد أن حصل على الشهادة الإعدادية صار مدرسا للفنون واللغة العربية في مدارس وكالة الغوث للاجئين وبالتحديد في معهد فلسطين (الاليانس) واستمر يكتب ويرسم ويقيم المعارض المتواضعة التي ليس فيها غير فلسطين. ثم ذهب إلى الكويت وكتب فيها أفضل ما كتب إنسانيا، رغم ضبابية الرؤيا منها قصة “علبة زجاج واحدة” إضافة لروائع أخرى جاءت امتداداً لفكر رجل لا يمكن أن يكون غير غسان الذي حسب أنه يخرج من العلبة في أول زيارة له إلى دمشق ليقضي عطلة بين أهله ليكتشفوا بحزن أنه مريض “بسبب الإجهاد وليس الوراثة”
بعد ذلك حط رحاله في بيروت وأعلن بإصرار سباقه الشهير مع الموت يقول غسان في واحدة من يومياته “إنه ثمن باهظ بلاشك أن يشتري الإنسان حياته اليومية، بموت يومي” من هذه الملخصة نستطيع أن نقدر ما عاناه غسان في رحلة عمره القصيرة والتي بزخمها وعطائها المذهل ¬ تستحق بجدارة الشهادة التي نالها، متوجا نضاله بخاتمة ملحمية، ناثرا الكثير من النجوم الساطعة التي ما يزال الباحثون يخوضون في مجاهلها، ونجمة لامعة لا تغيب، علقها بفخر على جباهنا وصدورنا شعباً وومثقفين.
كتب الأستاذ محمد دكروب يقول “ثلاث جبهات رئيسية ناضل عليها غسان: القتال من اجل فلسطين، والصراع ضد شراسة المرض، وجبهة الإبداع الفني وتنويع أشكاله وتكثيف الإنتاج فيه بتسارع يسابق الموت، فأي جهد بشري إرادي هائل كانت تتطلبه هذه الحرب؟”.
لابد لنا من تسجيل توقيع قبولي لما وصل إليه الأستاذ دكروب والكثيرون في دراساتهم وتحليلهم لشخصية غسان وكتاباته وإبداعاته ونضاله، ولابد أن نقول باختصار إن غسان ¬ بقدرة فريدة واستثنائية غير مسبوقة ¬ حلق في كل المجالات. ولن نستفيض بالتحليل فقد أكثر المحللون وأجادوا. بل نرغب أن نضيف ذكر بعض الركائز الأساسية لتفسير مفهوم النجاح الذي سعى حثيثا إلى غسان ولم يسع هو إليه، فلم يكن ينشد مجدا شخصيا “بدليل أنه اختفى طويلا وراء أسماء مستعارة متعددة” بل كان جل ما ينشد هو الوطن كطريق وغاية والعودة إلى الوطن مسخرا السياسة والنضال وسيلة لتقريب العودة وتحديد الطريق واتفق مع الجماهير للانتقال من صورة للاجئين قدرهم الاستجداء فقط إلى مقاتلين وفدائيين وأصحاب قرار، وهذه نقلة نوعية واسعة ساهمت بتكريس الاستحقاق الوطني والفلسطيني الشعبي لصالح فلسطين، وبالتالي لصالح محيطها القومي الضروري والأساسي. وكان الأدب بكل أطيافه وسيلته للتعبير والالتصاق والانتماء فاستخدم الفكرة الواضحة الجليلة “بعيدا عن الرمزية المفرطة” والجمل الرطبة التي تتمازج ويمكن أن تتمازج مع تذوق الجميع بما فيهم القاعدة العريضة المستقطبة للفاعلين الأهم على الساحة نضالا وقتالا والتزاماً، وهو أيضا لم يفارقهم، انتزع أبطاله من بينهم وحلق معهم عبر ثلاثة أقانيم هي مرادنا من الإضافة وهذه الأقانيم هي:
المعاناة، والإيمان، والصورة الوصفية. أما المعاناة فقد رأينا كيف كان حولها دور أساسي في صقله وبالتالي في ترسيخ إيمانه بكل رعشة عمل منها ولها وفيها. وانسكب بذاته كله في رسم هذا الإيمان بالقلم والريشة وكل وسيلة، فخرجت مستقيمة، جلية ، واضحة لا تقبل اللبس والتأويل.
أما الصورة فنجد أنها الأهم في أدب غسان فأنت لا تستطيع التوجه إلى شريحة ما دون المعرفة العميقة لهذه الشريحة وهذا لا يتأتى بغير الالتصاق والمعايشة، فعندما تحدث غسان عن أم سعد جعلنا نحن العارفين برائحة الريف نشم الصرة التي تحملها، وننتزعها من جانب التنور أو قن الدجاج، وعندما وصف رحلة العائد إلى حيفا كنا نعيش الطريق ونلمس كل تفصيل صغير أشار إليه، وهكذا في كل عمل نسمع إصطفاق الباب المصفح بالتنك، ونشم رائحة البارود، ونحس تماما أن بدن الأرض مثل بدن رجل مثقب بالرصاص يتضرج بزهر البرقوق.
هذه الصور الوصفية البديعة تجعلك تؤمن وأنت تعيش تفاصيلها أن كاتبها جزء منها، ينقل من خلالها بلا تعقيد ما أريده أنا وأنت والآخرون بعيدا عن أية سلطة، وأي ضغط لأنه نتاج إيمان خلقته المعاناة.