مظفر النواب..اسطورة عراقية
أ.د.قاسم حسين صالح
(يجي يوم انلم حزن الايام وثياب الصبر ونرد لهلنه..
يجي ذاك اليوم..واذا ما جاش ادفنوني علي حيلي وكصتي لبغداد).
وجاء اليوم ( 20 / مايس 2022) ليموت غريبا عن وطنه..وكانت لنا معه حكايات..نروي ثلاثا منها.
كنت في ستينيات القرن الماضي سجينا في القلعة الخامسة بسجن بغداد المركزي في مخزن بطول (3 في 4متر) وكان معي مكرم الطالباني الذي صار في السبعينات وزيرا للري،والمقدم عبد النبي قائد قوات المظليين،ومدير الخطوط الجوية العراقية،وصباح خيري شقيق زكي خيري..وما كان سياسيا!.وكنت انا مسؤول السجن مع انني كنت أصغرهم بكثير.وفي عصر أحد الأيام صاحني عريف السجن (ابو سكينه):عمو قاسم..اجاكم ضيف..(فمخزننا) كان يستقبل السجناء القادمين من (نقرة السلمان) الذين تستدعيهم المحاكم العرفية في بغداد.
فتح الباب فرأيت شابا اسمر ،فقلت له:
– اهلا بك..منو حضرتك؟
+ مظفر النواب
– نعم!
قلتها مندهشا غير مصدّق،فأنا منذ مراهقتي أحببت مظفر وكنت اكتب مقاطع من اجمل أشعاره في الغزل بقصاصات ورق وابعث بها الى (حبيبتي)..التي بعثت لي يوما بقصاصة ورق فيها سطر واحد:(حبيبي قاسم..هذا الشعر مو ألك..لمظفر النواب!)..فقلت:يا آلهي..وصل مظفر حتى الى بنات الشطرة!.ومن حبي له..اسميت ابني (مظفر) الذي صار دكتورا في الهندسة ثم في السياسة وشخصية اعلامية معروفة.
احتضنته وقبّلته وادخلته (غرفتنا!).
في الليل،اكتشفت في مظفر انه ليس شاعرا فقط بل انه يجيد الغناء والعزف بلسانه وكأن روحي الخماش يعزف على العود!..وكثيرا ما كنا نسهر ونغني لدرجة أن العريف (ابو سكينه ) حارس السجن كان يأتي ويشاركنا الغناء بطور داخل حسن ومظفر يعزف له بلسانه على العود..وكانت تلك من اجمل ليالي العمر..وان كانت في أقسى سجن!.
بقي مظفر يشاركني فراشي في الليل..عشر ليال كانت فيها حكايات عن الحب وقصة قصيدته (مرينه بيكم حمد ) التي نظمها في الخمسينات وختمها اوائل الستينات..وغادرنا عائدا الى (نقرة السلمان).
هافانا..بعد اربعين سنة!
ذهبت الى دمشق في العام 2008 واستعنت بطالبتي الفنانة هديل كامل والصديق كوكب حمزة لتأمين لقاء بمظفر،وكلاهما كانا في دمشق..وحصل،واجريت معه حوارا بدأته بالحب.
قلت له: مثل مظفر..الشاعر..والمغني..والرسّام،لا بد ان يكون للحب نصيب كبير في حياته برغم الغربة ومشاكل السياسة والنضال.
تورّد وجهه قليلا” واعترف ان أول تجربه له في الحب كانت في شارع الرشيد.
( كانت سيارتها زغيره..والشارع مزدحم..والدنيا حاره..التفت اليها فرأيت حبات من العرق تسيل على خديها..لحظتها تمنيت ان امسحها بمنديلي ).
– والى اين وصلت قصة أول حب؟
+ قطعها عام 63 ( يقصد الانقلاب البعثي )
– وهل صمت عن الحب ؟
+ ابدا”..فقد احببت كثيرات.
– اذن ،هل من المعقول ان لا تكون بين الكثيرات واحدة يختارها قلبك لتكون زوجتك ؟
صفن مظفر الذي لم يتزوج في حياته وقال لي ما يحتاج الى تحليل نفسي:
+ انا اهرب من التي تبغي الزواج مني أو تطلبه بلسانها!
وعزا السبب الى ان ” الشاعر يحتاج الى فراغ هائل وليس الى صخب “. وأكد لي انه ليس بنادم على عدم زواجه( واسّر لي بقصة حب مميزة طلب أن لا أبوح بها..وسأبقيها سرّا ) ، لأن الزواج ـ في قناعاته ـ صخب ووجع رأس.
وقد يكون لهذه الحالة أكثر من تحليل غير الذي قاله،منها: ان مظفر قد كرّس حياته الشبابيه للسياسة والنضال، وانه اراد ان يتفرغ لهما ولا يربط نفسه بأي التزام آخر. وربما يرجع ذلك الى انه يتمتع بـ ” يقظة ضمير ” تنبهه الى ان لا يحمّل الآخرين ” الزوجة تحديدا” مسؤولية ما يصيبه من الام ونكسات ولا يريد لهم أن يتعذبوا بسببه. أو انه وجد نفسه ان الذي يتزوج ” النضال ” لا يصلح لأن يتزوج امرأه تكون ” ضرّه ” متعبة. أو ربما انه كان في شبابه شخصية نرجسية..وهذه من خصائصها انها ترفض ان يتوحّد بها احد لأنها متوحده ” متزوجة ” بذاتها فقط . وقد يكون ـ لا شعوريا” ـ كالمعرّي ،لا يريد ان يجني على ابنه بما اصابه هو من ضيم ،وجد ان لا احد يطيقه غيره ، فاشفق على ابن احسن اليه بأن لا ينجبه!.
اجمل لحظة في حياته!
ومن الحب..انتقلت بالسؤال الى نقيضه..عن نفق سجن الحله كيف استطاع هو ورفاقه حفره والهروب منه عام 1966
اجاب:
“ان اجمل لحظة في حياتي كانت لحظة خروجي من هذا النفق..كان الليل لحظتها اجمل ليل..واجمل نجوم “.
واضاف “ان قصة حفر هذا النفق طويلة..استغرق حفره اكثر من عشرين يوما” بحسب ذاكرتي. وكان المخططون له اربعة بينهم الكاتب المعروف جاسم المطير ، فيما الذين خرجوا معنا بحدود 28 لم يمسك منهم سوى واحد بسبب الكلب الذي كان ينبح ونبّه الحارس، برغم اننا اعطيناه قطعة لحم فيها سم ولكنه لم يأكلها ، فعمد اثنان منا الى مسكه،فصارت فوضى واخذ الحارس يصيح فمسك احدنا وهربنا وكنت لابسا” دشداشة وعقال”.
العراق..اجمل وطن
يقول مظفر أنه جاب الدنيا وسافر في بلدان العالم فلم يجد بلدا” اجمل من العراق. ولما قلت له: أنا عائد الى العراق فحملّني رسالة لمن تريد، اجاب: ” رسالتي الى الشعب العراقي بكل فصائله في جملة واحدة : عظوا بالأسنان على العراق فانتم اينما ذهبتم في العالم لن تجدوا بلدا” مثله،وهذه ليست مبالغة “.
وقرأ لي آخر قصائده عن حبه للعراق الذي اضناه،وعن ثقته بأنه عائد اليه:
” يجي يوم انلم حزن الايام وثياب الصبر ونردّ لهلنا
يجي ذاك اليوم لجن انا خايف كبل ذاك اليوم تاكلني العجارب ”
وختمها ببيت موجع :
” يجي ذاك اليوم..واذا ما جاش ادفنوني على حيلي وكصتي لبغداد !!”.
حاولت وقتها أن اسعى الى تحقيق أمنيته فقلت له:
لو أن حكومة أقليم كردستان وجهت لك دعوة بالعودة الى العراق،فماذا تقول ؟
اجاب : لقد حصل هذا فعلا” ،فالدعوة وجهت لي من قبل جلال الطالباني.
وعلمت ان الراحل الكبير..السيد جلال الطالباني كان قد قدّم له الدعوة من على شاشة احدى الفضائيات بصفته صديقا له لا بصفته رئيس جمهورية،وانه عرض عليه ان يوفر له كل احتياجاته وخيّره بين بغداد والسليمانية..واعتذر مظفر..
وفي اعتذاره هذا تفسيران متناقضان ،الأول يصاغ بتساؤل مشروع:كيف لمظفر ان يفضل العيش في الأمارات التي شتم حكامها ويرفض عرض صديقه ورئيس الجمهوريه جلال الطالباني في تأمين عيش كريم له في وطنه. والثاني..ان مظفر كان يرى بأن الذين حكموا العراق بعد 2003 جاءت بهم اميركا،وان بينهم فاسدون كبار ،وان له عزة نفس رفضت ان تقبل مبلغا كبيرا من السيد نوري المالكي الذي كان يبيع ما تعرفونه في السيدة زينب وصار ما تعرفونه ايضا!
ويبقى مظفر النواب..هور العراق المليء بالعجائب والغرائب،ونخلته الباسقه، وجبله الاشم في كبريائه واستقامة رقبته التي لم تحنها المصائب والمحن..وسيبقى لنا منه تاريخه الاسطوره التي سيحكيها العراقيون والعراقيات لأحفادهم،برغم أن مناهجنا الدراسية بخلت عليه حتى في تضمينها واحدة من قصائده في حب الناس والوطن.
طبعت على خديه قبلتين وثالثة على الجبين..وودعته.
وحين ابتعد عني أمتارا” برفقة الشاب السوري الذي يرعاه ..حازم الشيخ،شعرت بهاجس ارجف قلبي:أنني سوف لن ارى مظفرا” بعد الآن..فجادت العين بالدمع..وما اصدقه حين ينهمر وأنت في الشارع بين الناس في أمتع وأوجع أمسية دمشقيه عن مبدعي العراق في الغربه!..في أنموذجهم الأسطورة..مظفر النواب!
توثيق :
أمر الأخ مصطفى الكاظمي بنقل جثمان مظفر النواب من الشارقة الى الوطن،وجرى له تشييع في الساعة العاشرة من صباح السبت (21 /5 /2022) من امام مبنى الأتحاد العام للآدباء والكتاب في العراق ليدفن في النجف حسب وصيته كما يذكرون. وكان من الأفضل ان يدفن في مدينته الكاظمية على ضفة نهر دجلة ليكون مزارا لمحبيه في مكان جميل تقام فيه امسيات شعرية وثقافية.