يمثل المفكر المصري الدكتور غالي شكري المولود عام 1935 اهمية كبيرة في تاريخ الفكر والثقافة المصري الحديث. أسس مشروعه الثقافي على مدى أربعين عاما منحازا للقيمة الجمالية الحية وارتباطها بالحياة والإنسان، فكان كما كتب الشاعر والناقد المسرحي المصري جرجس شكري في مجلة الإذاعة والتلفزيون المصرية ، ناقدا سوسولوجيا وضع الخلفية الاجتماعية والواقع العربي في مخيلته مستعينا بمناهج النقد المعاصر دون تقليدها أو تطبيقها تطبيقا تعسفيا كما يحدث في أغلب الأحيان، واستطاع أن يرصد ويقرأ واقع الأدب العربي من خلال خمس وأربعين كتابا، لم تكن فقط بمثابة النقد والتحليل للأدب والفكر ولكن ليؤسس مشروعا ليبراليا اسهم في الفكر العربي من الستينات وحتى رحيله عام 1998، لقد كان غالي شكري الذي اتخذ من علم اجتماع الأدب أداة لقراءة الواقع، ليس فقط ناقدا أدبيا متميزا بل ناقدا للفكر السياسي في المجتمع، فما قدمه على مدى أربعة عقود أقرب إلى وصف مصر، قراءة لعقل الثقافة المصرية، الأفكار و الآراء، القديم والحديث من الأعراف والتقاليد، فلم يكتب عن نظريات وأعمال أدبية بل عن وقائع وأحداث عاصرها وشارك فيها وفي أحيان كثيرة كان طرفا أساسيا، فجاءت أعماله بمثابة شهادة على العصر لاتخلو من معالجة درامية حافلة بالأحداث والشخصيات الحية. أدرك غالي شكري مبكرا هدفه ومنهجه كناقد ومفكر حين أعلن عن اصل الداء ممثلا في غياب الأرض الفكرية من تحت أقدام الباحث المصري، هذا الغياب الذي باعد بينه وبين الدراسات الفكرية، ففي اول كتبه الذي صدر 1962«سلامة موسى وأزمة الضمير العربى» حذر من خطورة عدم وجود خريطة فكرية واضحة ترسم خطا بيانيا للحركة الفكرية المصرية خلال الخمسين سنة الماضية أي النصف الأول من القرن العشرين وحدد ثلاثة عناصر للمكونات الفكرية، والمعايير المحددة لحركة الفكر في مصر والمفهوم الشامل المحدد لحركة التاريخ، وكانت صدمته كبيرة لأن لم تتوصل الحركة الفكرية في مصر إلى مفهوم علمي وشامل لحركة التطور الاجتماعي في تاريخ مصر الحديث، لذلك سعى في أعماله لرسم هذه الخريطة واكتساب مساحة جديدة في هذه الأرض من خلال تقييم الحياة الفكرية الحديثة، وأخذ على عاتقه رصد وتسجيل المادة الخام لهذا الفكر في صورتها الكلية الشاملة، فقد أقام مع معظم الشخصيات التي تناولها بالدرس والتحليل، فكان اقرب إلى المؤرخ الذي عاصر وشاهد الأحداث، لكنه لم يسجلها فقط، بل اخضعها لعملية شاقة من حيث البحث والدرس والتحليل، وكان من الطبيعي ان تجد صورة حية لتاريخ الفكر المصري في أعماله.
فإذا كان كما يقول الباحث كرس غالي شكري كل أعماله لكشف أمراض المجتمع المصري بروح الباحث الثائر والمتمرد، فهذا يعني ثمة مبادئ لايتخلى عنها في كتابته في الأدب والسياسة والاجتماع، في الشعر والقصة والمسرح ممثلة في انتمائه للثقافة المصرية، فهوية مصر الحضارية الممتدة عبر التاريخ من الثوابت التى لا يمكن التخلي عنها، أو النظر إلى قضايا اللحظة الراهنة بمعزل عن هذا التاريخ، وأن أي مساس بالوحدة الوطنية يعنى خطرا داهما على مصر والمصريين، فضلا عن إيمانه بالعروبة، وانحيازه للفكر الماركسي، فثمة ثوابت لا يتخلى عنها في كل أعماله، فقارئ غالي شكري لابد أن يتوقف كثيرا عند رؤيته العميقة للتفاعل بين الفكر والواقع الإجتماعي، فلا ينظر إلى الأدب إلا في سياق الواقع الإجتماعي وقضايا المواطن، وفي سبيل أن تصل أفكاره أختار لغة مسرحية يغلب عليها الطابع المشهدي من خلال بناء درامي محكم يلعب فيه هذا المواطن دور البطولة.
ويعتقد أن غالي شكري حين رصد النهضة العربية التي بدأت في القرن التاسع عشر وحتى مرحلة السقوط، وهي الأطروحة التي تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه من السربون حين أتخذ من التحليل الإجتماعي للثقافة منهجا ليستخلص القوانين الاجتماعية الثقافية المضمرة في ظاهرة النهضة والسقوط، ثم دراسته الجريئة عن الثورة المضادة في مصر، والتى تقرأ بدقة وشجاعة أسباب إنهيار المجتمع المصري في سبعينات القرن الماضي، فاجأ الجميع بأن تاريخ الثورة المضادة هو تاريخ الثورة نفسها، وكأن الجرثومة في الثورة، فثورة يوليو تحمل بذاتها بذور الثورة المضادة، والرئيس السادات نفسه جزء من التكوين السياسي المتناقض لعبدالناصر!، فعند غالي شكري النهضة والسقوط في التاريخ المصري الحديث، ظاهرة واحدة مركبة وليس الشعب ونظام الحكم بعيدا عن أسباب النهضة والسقوط! لذلك ترك الجذور القريبة للمشكلة وراح يبحث في الجذور الحضارية، في الهوية، ويدرس جيدا طبيعة الخصوصية الإجتماعية التاريخية الثقافية للشعب المصري في محاولة لقراءة خصائص الشخصية، ولم يقل كلاما منمقا بل اكد أن ماحدث في تلك الفترة، ماهو إلا اغتيال للعقل المصري، وترسيخ لمبادئ المجتمع الثيوقراطي المتعصب دينيا، وما حذر منه عام 1978 تعيشه مصر الآن وتعاني منه، ففي تلك اللحظة رأى غالي شكري الوطن عاريا!، وكشف عن تحولاته الخطيرة في العقل المصري التي تفاقمت فيما بعد.
ويكمل في مطلع التسعينيات محاولة التعرف على نتائج هذه التحولات من خلال دراسة هيكل الذاكرة التي تشكلت في سياق العلاقات الخفية والظاهرة بين تكوين المثقف وتجليات السلطة، في كتابه «المثقفون والسلطة» 1991، ليضع على طاولة التشريح نماذج حية لعبت دور البطولة في المشهد الثقافي نماذج منحها صفات دالة وشارحة فهناك صناع السلطة أو المثقف صاحب المشروع، وبناة الشرعية أو المثقف التقني الداعية، بالاضافة إلى القادم من الشارع السياسي، بل وهناك مطبخ الأيديولوجيا والطهاة هم التعادلي، والوضعي، والاشتراكي الديمقراطي، تذوق غالي شكري طعامهم وقدم الأطباق للقارئ، فطرح مائة سؤال على الطهاة والبنائين، وصناع السلطة،ليواصل بحثه عن الخريطة الفكرية التي بدأها قبل ثلاثة عقود. فلم يكن يطرح مجموعة من الآراء المتميزة لقراءة أسئلة اللحظة من خلال إصدار مجموعة من الكتب، بل كان يعمل في سياق مشروع يتطور في سياق التحولات التي عاشها المجتمع المصري. غالي شكري اول من وضع دراسة مكتملة عن نجيب محفوظ «المنتمي» عام 1964 دراسة في اعماله أعلن أيضا من خلالها عن قناعته بدور الكاتب، الذي مهما كان عظيما لا يمكن أن يتجاوز مقتضيات التاريخ، ولامكوناته الأصلية، مؤكدا من خلال هذه الدراسة على أن قيمة نجيب محفوظ تكمن في أنه أختار منذ البداية الطريق الصعب فلم ينقل إطارا روائيا جاهزا، بل حاول ان يختبر الصيغة الجمالية الصحيحة بإختيار شتى الأطر الفنية والمذاهب الفكرية في ارض الواقع المصري، وتلك كانت مبرراته لإختيار هذا الأديب لأنه في سياق مشروعه الفكري،وأيضا دراسته عن توفيق الحكيم «ثورة المعتزل» ثم «توفيق الحكيم الجيل والطبقة والرؤيا» والذي ناقش فيه انقلاب الحكيم على الحقبة الناصرية من خلال كتابه «عودة الوعي»، وبنظرة سريعة إلى ترتيب اعمال غالي شكري نجد أنها بدأت بثلاثة كتاب سلامة موسى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وثلاثة كتب حول القصة القصيرة والرواية والشعر حيث درس بعض الرموز الثقافية ثم الأنواع الأدبية قبل أن تكون الرؤية أشمل واعم من خلال أعماله سالفة الذكر التى تناولت الظاهرة الثقافية، وجذور الإرهاب الساسي باسم الدين في مجموعة من الأطروحات من بينها النهضة والسقوط، الثورة المضادة، ديكتاتورية التخلف العربي، ثقافة النظام الشمولي، وغيرها.