ليث العبدويس
لانسِكاباتِ الدَمِ السوريَّ خَطٌّ بيانيٌّ نَشِط، ما فَتئَ يَجنَحُ نَحوَ ارتِفاعٍ جُنونيّ مُنفَلِتٍ مِنْ أدنى حُدودِ التَعَقُّلِ مُنذُ تَعَطَّلَتْ إبرَتُهُ قَبلَ عِشرينَ شَهراً واقتيدَ عَدّادُهُ رَهينَةَ مُتلازِمَةٍ دَمَويَّةٍ تأبى الهُبوطَ عَنْ رَقمٍ ثُلاثيَّ المَراتِب، الموتُ في الشّامِ مَبذولٌ بِدَمغَةِ مَكتَبةِ الأسَدِ لأرشَفَةِ الموتى، وَفيرٌ فَلا يُخشى مِنْ شُحّهِ أو نَفاذِه، مَقصودٌ فَلا داعٍ لافتِعالِ مُناسَبَةٍ لِلُقياه، لَكنّهُ بَعدَ “حَلفايا” نَجَحَ في تَرسيخِ مَفهومِ “الموتُ العابِرُ للرَغيف”!!
الموتُ في “حَلفايا” جاءَ بِنَكهَةِ الخُبزِ الساخِنِ الخارِجِ لِتوّهِ مِن الفُرن، في عَوالِمَ أخرى غَيرَ عالَمِ الموتِ العَرَبيّ المَجّانيّ الباذِخِ يأتي الخُبزُ الطازَجُ عَلى أجنِحَةٍ مِنَ الاستِرخاءِ الحالِمِ والخَدَرِ الرومانسيّ اللَذيذ، فالباريسيونَ وَهُم عائِدونَ إلى أحضانِ حَبيباتِهِم اللائي ينتَظرَنَّهُم في مَنازِلِهِمِ الدافِئة لا يَنسونَ المُرورَ على الفُرنِ الكائِنِ في ناصيةِ الشارِع لابتياعِ رَغيفِ خُبزٍ وَقِطعَةِ جُبنٍ وَزُجاجَةِ نَبيذ!!
بينَما يُمشّطُ السوريُّ السَماءَ بَحثاً عَنْ “ميغٍ” مُتواريةٍ خَلفَ سُحُبِ الشِتاء المُخادِعة قَبلَ أنْ يَنطَلِقَ في جَولَةٍ جَديدَةٍ مِنَ “الروليت” مَعَ واقِعِ الحَربِ العَمياء، خَيارُ جَلبِ الخُبزِ لِعائِلَتِكَ المُحاصَرَةِ يَخلَعُ القَلبَ أمامَ ألفِ خَيارٍ لِميْتاتٍ شَديدَةِ البَشاعَة والعُنْف، مَناجِلُ الموتِ الاسوَدِ تَزرَعُ كُلَّ الزَوايا والمُنعَطفاتِ والأزِقّة، عَزيفُ أشباحِ الأسَدِ يَصفِرُ بينَ أطلالٍ أضحَتْ بِرُكامِها مَيدانَ اصطيادٍ مِثالي للقَنّاصَةِ المُرتَزَقَةِ وفِرَقِ الإعدامِ الميدانيّة الجوّالة.
وَحَدهُمُ السوريّونَ يَستشعِرونَ نِعمَةَ الخُبزِ إلى أقصاها بَعدَ أنْ صارَتْ العودَةُ سالِماً بِكيسِ أرغِفَةٍ ساخِنَةٍ يُعادِلُ في عُرْفِ أهلِ الشامِ حياةً جَديدَةً او وِلادَةً أُخرى طالما أنَّ الطَريقَ إلى الفُرنِ القَريبِ الذي كانَ سالِكاً وقَصيراً في يومٍ ما قَدْ انبَجَسَ عَنْ صُفوفٍ مُتزاحِمَةٍ مِنَ المُقاصِلِ القابِعةِ في انتظارِ “طابورِ الخُبز”.
تَدَخَلَتْ “ميغُ” الأسَدِ لِتُشوّهِ تِلكَ الأُلفَةِ الطَويلَة التي تَربِطُنا بِالخُبْز، قَمَعَتْ بِداخِلِنا ذَلكَ الحَنينَ الفِطريَّ الذي وَرِثناهُ عَنْ الإنسانِ الغابِرِ يومَ اكتَشَفَ دَهشَةَ التَذوّقِ الأولى لِدَقيقِ قَمحٍ مَبلولٍ لَوّحَتهُ النارُ فأكسَبَتهُ تِلكَ السُمرَةَ الشَهيّة الأخّاذة، أعادّتْ الميغُ رَسمَ حُدودِ العَلاقَةِ بينَ رَغائِبِنا الدَفينةِ وبينَ ما نُصِرُّ على اعتِبارِهِ “قوتاً” وَ “عيشاً” بحيثُ لَنْ يَعودَ للخُبزِ بَعدَ “حَلفايا” مَذاقَهُ المَعهود، تَباطَأتْ الثواني قَبلَ “حَلفايا” ليَتسَمّرَ ضَميرُ البَشَرِ
عَلى فَضاءِ فاجِعَةٍ هَطَلتْ مَعَ رُذاذِ ديسَمبَر.
لَمْ يَعُدْ أحَدٌ مِنْ مخبَزِ “حَلفايا”، بَقي اهلوهُم جَوعى وَنامَتْ الصِغارُ طاوية، لَمْ تَمتَلئ أكياسُ المُتَبضعينَ بِغير دِمائِهِم، يومانِ بَعدَ المَجزَرة، كَتَبَ أحدُهُم على اطلالِ المَخبزِ: بيعَ هُنا أغلى رَغيفُ خُبزٍ في العالم!!