هذه القراءة إجابة عن موقف علمي معرفي بالخصوص والتساؤل: هل بالفعل يعود أصل الفنون الشعبية ودراستها إلى دراسات الأنثروبولوجيا؟ وهو ما يستدعي قراءة تاريخ العلم منذ تعزز وجوده في منتصف القرن التاسع عشر بعد سلسلة سابقة من المساهمات وكذلك أبعد منه يوم بات بإقرار أكاديمي علما مستقلا لجملة ميادين تتحد في القراءة والتناول لتصب في مخرجات فهم الإنسان سلالةً، بوجود منفعل متأثر ببيئته ومحيطه مؤثراً فيها، يطبعها بهوية مخصوصة على وفق تعددية المنحدرات الحضارية وتكوينية الإنسان واستدعاءات سمات كل سلالة ومنجزها..
كما لابد لي بالمناسبة من توكيد دور الفنون الشعبية في تجسيد حراك ثقافي ينطبع بالهوية ويجسدها في امتداها تاريخيا نحو الجذور وجغرافيا في امتداد وجود وطن ثقافة مجتمعية تخص سلالة أو حضارة أو انتماء لا ينقطع بالضرورة عن تجاور الوجود الإنساني بمجمله بل يكرسه ويثبّته، الأمر الذي يرد على كل أشكال قمع مسيرة مَنهجَةٍ حتميةٍ، تقوم على استثمار العقل العلمي ومنطق فعله وإنتاجه.
وبغية التحقق من العلاقة العلمية بين هذا العلم (الأنثروبولوجيا) وأحد أفرعه وميادينه (الفنون الشعبية)، أقول هنا: إنَّ الأنثروبولوجي بلفظه المستقى من اليونانية إنّما يؤكد العلم الذي يدرس الإنسان والأنسنة.. إذن، فالأنثروبولوجيا بهذا الأصل اللغوي المعبر بموضوعية؛ هو علم logos يتخصص بدراسة الإنسان Anthropos وبهذا فإنَّه علم الإنسان وصنع الحضارات وإشادة المجتمعات البشريّة، ومن ثمَّ ما يتبحر في سلوكيّات (الإنسان) وأعماله ومنجزه الذي يتأتى من طابعه بوصفه كائناً جماعي الوجود والاشتغال الأمر الذي يتناوله مصطلح الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة.
ومن أجل توفير قناعة باتساع الأنثروبولوجيا لمعطيات (ثقافية) لابد من تذكر أنّ هذا العلم، أي علم الإنسان، ينقسم على عدد من الأقسام كما يشير دارسوه. أولها: الطبيعيّة المرتبطة مباشرة بمناهج الكليات الطبية وتخصص علومها الإحيائية الطبيعية، مثل: الفيسيولوجي والأنتومي أو علم التشريح، بما يركز على مقاييس جسم الإنسان مروراً ببنيته واستفادة من جراحة تشريحية كما يقرأها العلم اليوم بدقة…
أما القسم الأنثروبولوجي في كليّات العلوم الاجتماعيّة فإنّه يتناول الإنسان بوصفه السلالة الحية في الأرض، بكل تفاصيل تميزه عن بقية الكائنات التي تشاركه الحياة على سطح الكوكب كما بانتصاب سيره وطريقة استعمال يديه وقدميه، والأهم والأبرز قدرة التعبير والإدراك والتفكير والكلام الأمر الذي يجعل هذا العلم بأقسام التخصص السوسيولوجي تبحث في متغيرات تطوّره، وسبل تكاثره وعيشه، كما يدفع هذا العلم لدراسة وجود الإنسان بين المجتمعات البدائيّة بمقابل الأخرى المعاصرة وما وصل إليه فيها من تنوع واختلاف، فردياً جمعياً حيث التشكيلات الاقتصااجتماعية ومنظومة الطبقات والتعبير الفكري السياسي عنها والآثار الإيكولوجية عليها ولابد هنا من التأكيد على أن الدراسات ركزت وتركز على الجوانب الوظائفية وتبادلها التأثير ومخرجات إدارة تلكم الشؤون..
إنَّ هذا المنعطف في توسيع قراءات الأنثروبولوجيا لتتبحر في آليات خلق الوحدة في النُظُم الاجتماعية واستقراء معاني تأثيراتها على السلالة وحاجتها لاستطلاع منجزها الثقافي وقدرته على البقاء والتوارث ليس من بوابة التاريخ بل من بوابة استكشاف الطابع والهوية الحضارية بمفردات الجماعات البدائية ومجتمعاتها وما استخدمت من أدوات عيش وما عبّرت عنه من فكر أو رؤى وضعتها أو صبتها وصاغتها في أساطيرها أو آدابها وفنونها وفي عاداتها وتقاليدها ولقد دفع هذا القسم من الأنثروبولوجيا لدراسة متعمقة فيها، فكانت موضوعات دراسة الفنون الشعبية جوهرة ثقافية حضارية في قراءة هوية الشعوب وامتداد تراثها من منطقة تواصله واستمراريته إلى الجذور والمراحل البدائية وانعكاساتها التي أورثتها بتأثير جدي ملموس طبع تلك الهوية ومنجزها المخصوص بهذا الميدان..
أؤكد هنا على حقيقة أنّ الإبداع الثقافي وحصراً في ذاك الممتد نحو الجذور بعمق القرون المنصرمة بتلك البداية في قراءة الأدب والفن البدائيين، إنما يتواصل ويستمر ليكشف لنا اليوم، عن درجة ارتباطه بوظائف عميقة مهمة في بنية المجتمع الحديث حيث تتجسد الرموز والدلالات الأنثروبولوجية لمفرداته العائدة إلى معطيات الهوية المنحدرة من تلك الأصول البدائية.
ومن أجل تفعيل الرؤية التي ترى وضع الفنون الشعبية في الأنثروبولوجيا، بوصفها جوهرا من جواهر الثقافة ومنطق الانعكاس الحضاري فيها، بات واجبا ولادة قسم يدرس الجوانب التطبيقية لكل أقسام دراسة علم الإنسان التي وردت معنا ومخرجاتها ومعطياتها ومن ثمّ آثارها وانعكاساتها الراهنة؛ بما اشتمل على ميادين اقتصااجتماعية، وسايكوسوسيولوجية وطبية وأيضاً مدت ميدانها نحو التربية والتعليم وعلم السكان والتحضّر وضمنا الآداب والفنون وبتفرعها الأعمق نشير هنا إلى الفنون الشعبية تحديداً كما يرد في عنوان قراءتنا..
إنّ ذلك الفعل المعرفي العلمي ينتمي للبحث في الارتباطات والعلاقات المولودة برحم تلك الدراسات كما العلاقة ذات الأولوية والأسبقية بين الأنثروبولوجيا والفنون الشعبية وقبلها حتماً بين الأنثروبولوجيا والثقافة والتحضر بصورة أعمّ بما يقرأ سجل الحضارة وتاريخها أو الأثنولوجي وبموازاتها ما يقرأ سجل الأمم والشعوب البائدة أو الحضارات المنقرضة عبر منجزها أو آثارها الباقية كما يشير علم الآثار (الأركيولوجي) لكننا مجدداً وفي ضوء تأكيد العلاقة الوطيدة بنيوياً بين الأنثروبولوجيا والفنون الشعبية نشدد على أهمية الإمعان بقراءة سجل الفنون الشعبية من منطلق الإنجاز الراهني القائم على استدعاء منظومة قيمية اجتماعية تدرسها سوسيولوجيا قوانين يجسدها علم الإنسان بأحد بوابته الأهم لتشخيص هذا العلم وفحوى مواده..
لابد لي أن أشير إلى تعدد المدارس والعلماء الذين بحثوا في هذا العلم وأثروا، أو أغنوا مواده ومعالجاته منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى يومنا الأمر الذي جعل منه العلم الذي يعكس حجم توجه الإنسان لقراءة مسيرة تطوره وطابع وجوده الأول كما تكشف الحفريات من جهة وسجلات أو وثائق ما قبل التاريخ المدون ثم ولادة السلالة التي أقامت أولى تشكيلات القبائل والشعوب ومنحتها فرص إنتاج هويتها الطبيعية والاجتماعية وانعكاسات كل ذلك في ولادة سلالة التحضّر والتمدن وإنجاز الإبداع الجمالي المخصوص المستقل وكيف تم توارثه وتناقله ليظهر الإنسان الذي سجل وجوده ومدنيته أو حضارته وخصائصها..
إن وجود الفنون الشعبية ليس مجرد إنجازات عارضة ابنة حال فردي لمبدع أو آخر، وهي ليست مما يقبل قمعاً بالازدراء والتهميش والتفريغ من المعاني العميقة السامية؛ ولكنها (أي الفنون الشعبية) تمثل سجل الوجود الجمعي للإنسان واشتراكه في استيلاد هوية مخصوصة تعبر عن ثقافة سلالة أو أخرى وتشير إلى موروثها وتداوله ومن ثمّ لدراسة الأمور بمنطق أو بنهج علمي دقيق التوصيف، موضوعي التحليل بما يعود باستمرار لهذا العلم ومفردات منهجه المتكاملة المتحدة..
وإذا كانت قراءتي لا تستطيع الاتساع لمجمل مفردات العلم، بما عرضته هنا وهي ايضاً لا تدعي التخصص الدقيق إلا أنها تزعم التمسك بخطاب معرفي علمي باتساع التعميم والمعالجة الإطارية الأعم تلك التي تخدم استثارة (حوار) يؤكد العلاقة الجدلية بين علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والفنون الشعبية، الفولكلورية العمق والانعكاس لما يتوافر من أداء ووظائف تعالج الموضوع الأساس الممثل لجوهريهما عندما نتحدث عن استقلالية كل منحى معرفي منهما ولكنه في الوقت ذاته المجسِّد لوجود واحد عندما نتحدث لا عن علاقة أو ارتباط خارجي، بل عن قراءة فعلية لمادة بعينها هي العلم الذي نحن بصدد الاشتغال عليه..
علينا دائما، ونحن ندرس الإنسان داخليا خارجيا، منع الفصل بين الكينونتين لأن ذلك سيشوه الوجود البحثي المنطقي القائم على تعريفهما بوصفهما أقسام (متكاملة متفاعلة في تجاورها) في نطاق أو في إطار وحدة ميادينها بعلم واحد هو الأنثروبولوجيا..
وعلينا باستمرار الاستناد إلى العمق العلمي في قراءة الفنون الشعبية بجمالياتها وبهوية خطابها التجريدية التي تمنحنا دلالات بهية في قراءة وجودنا فرديا جمعيا بما يحيلنا للإنسان بوجوده المجتمعي وحراكه الجمعي بانفتاح يحمل الأنسنة بعد كل ذاك التاريخ لتطور سلالته ما لا يسمح بمصادرته تحت أيّ ذريعة أو تبرير وما لا يخرجه من أطر قراءة العقل العلمي بكل ميادين الاشتغال..
فهل وصلت رسالة هذا التناول ومعالجتها مادتها؟