في العراق.. شاب يعزف على المكنسة دعما لعمال النظافة
صلاح حسن بابان
يقف لساعاتٍ طويلة عند ساحة السراي الشهيرة بمركز مدينة السليمانية في إقليم كردستان العراق، حاملا على كتفه مكنسته ومجراده (الجاروف) مثل كل عمال النظافة، ولكن هذه المرة ليزيل بآنين آلة الكمان وأوجاع الناي همومَ الشوارع والأرصفة والطرقات المكتظة بهموم العاشقين والمرحلين والمهجرين وغيرهم.
المكنسة والمجراد
منذ 10 أعوام يُصادق عطا قانع (34 عاما) الموسيقى ويعزف يوميا لساعات طويلة على آلات المختلفة، إلا أن اشتغاله عامل نظافة لمدة قليلة، واستذكاره لبعض اللحظات المؤلمة والمشاهد الموجعة من حياته، دفعه إلى أن يبتكر آلتين موسيقيتين جديدتين مختلفين تماما في الشكل عن الآلات الأخرى، وإن تشابهت معها بحزنها وآنينها.
ابتكار الشاب جاء بعد تحويله مكنسة التنظيف إلى آلة كمان بوضع 4 أوتار فيها، وكذلك الحال مع المجراد الذي حوله إلى ناي؛ ليعزف بهما أنغام الأغاني الكردية التراثية والفلكلورية أمام المارة في الأرصفة والطرقات العامة في مدينة السليمانية.
صورة مغايرة
ويستذكر قانع معاناته مع مهنة التنظيف التي عمل فيها مدة وجيزة، ويُريد أن يقدم صورة مغايرة لعامل النظافة أمام المجتمع بأنه جزء لا يتجزأ منهم، ويجب النظر إليه مثل بقية البشر دون التقليل من شأنه أو مكانته الاجتماعية.
يؤمّن العازف الشاب من خلال عزفه على الأرصفة والطرقات العامة أمام المارة يوميا لقمة عيشه، وهو يعيش أوضاعا مادية صعبة مثل أغلب الفنانين في كردستان الذي يعيشُ أزمة اقتصادية خانقة منذ عام 2014، لم ترحم قسوتها الفنانين أبدا مثل الشرائح الأخرى، وزادت فيهم الفقر والمعاناة وأجبرت بعضهم على الهجرة أو الانتحار.
يطمح قانع أن يطوّر نفسه بابتكار آلات موسيقية جديدة بالإضافة إلى إقامة حفلات فنية خاصة به في صالات العروض الفنية مثل بقية العازفين المشهورين، إلا أنه يفتقر للدعم المطلوب من الجهات المعنية والنقابات والاتحادات الفنية كما هي حال أغلب الفنانين.
وشجعت البيئة الفنية لمدينة السليمانية -وهي عاصمة الثقافة والفنون في كردستان- قانع لاختيارها لتجربة موهبته وابتكاراته الجديدة، بترحيب الناس له ولموهبته التي رأوا فيها ظاهرة جديدة يجب أن تستمر وتتطور أكثر، لتتوسع الصورة الفنية للمدينة أمام المدن الأخرى.
السليمانية أولا
ويعد العزف أمام المارة في الطرقات العامة والأرصفة ظاهرة متحضرة منتشرة في أغلب دول العالم، سواء بشكل فردي أو جماعي على شكل فرق موسيقية تتنقلُ من مكان إلى آخر باستمرار، وهذه هي حال فنانين مشهورين ومعروفين أيضاً، إلا أن الظاهرة بدأت تتوسع في السليمانية أولاً بعد عام 2014 كما يقول رئيس جمعية الفنون الشعبية في كردستان جزاي ساز كريم.
ومثل الشرائح الأخرى، انعكست الأزمة الاقتصادية سلبا على الفنانين بكافة أصنافهم، مما دفع بعض الموسيقيين والعازفين للعزف في الطرق العامة والأرصفة أو المقاهي الاجتماعية لتأمين لقمة العيش لأسرهم، مع استمرار تدهور أوضاعهم المادية وشح رواتبهم الحكومية.
يشدد كريم على ضرورة أن تتوسع رقعة هذه الظاهرة التي امتازت بها مدينة السليمانية على مستوى العراق والإقليم أولاً وليس بغريب عليها وهي عاصمة الثقافة في كردستان، مع تقبل الناس لها والاهتمام بها باحترامها والنظر إليها بأعلى درجات الإنسانية.
ويقدم المواطنون غالبا مبالغ رمزية للعازفين المتجولين، لذلك فإن كريم يؤكد للجزيرة نت أن ما يحصل عليه الموسيقي بهذا النوع من العزف لا يكفي لسد حاجاته اليومية وتأمين لقمة العيش، ومع ذلك فإنها تحفزهم على الاستمرار فيه، كون الموسيقى هي لغة الحب والسلام والتعايش السلمي وتقبل الآخر.
عودة الأمل
ومع ما تحمله السليمانية من انفتاح على مختلف الأصعدة وتحديدا الثقافية والفنية، فإن انتشار العازفين المتجولين فيها خلال السنوات الأخيرة له تفسيران: الأول تأثر المواطنين بالموروث الأوروبي الخاص المتعلق بالعزف في الطرق العامة الذي يجذب إليه ذوق المارة الذي يدفعون -بعد انتعاشهم موسيقياً- مبلغاً بسيطاً من المال.
وأما التفسير الثاني -كما ترى عازفة الدف هازه باسط- فيعود إلى الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي أجبرت العديد من الشباب أصحاب المواهب الفنية على تأمين لقمة عيشهم من خلال العزف بهذه الطريقة في الأماكن العامة.
والعزف في الأماكن العامة بشكل عام يُعيد الأمل بعودة الناس إلى الموسيقى لتهدئة الروح، ويُشجع الشباب العازفين الجدد على ألا يستسلموا للمصاعب التي تواجههم في بداية مسيرهم، لكن النقطة الأهم في ذلك أن الفنان يعتمد في الأخير على فنه -بحسب حديث باسط للجزيرة نت- في تأمين لقمة العيش أولاً، ولإفراغ شحناته الفنية ثانياً.