علاقة التاريخ بالأقتصاد
هذا الموضوع من أخصب المباحث التي بحث فيها الكثير من الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين على حد سواء، ووصل الأمر أن البعض منهم أختصر العلاقة البينية بجملة (أن التأريخ ما هو إلا سيرورة الأقتصاد في المجتمع)، فالحتمية التأريخية التي يؤمنون بها هي أن المحرك الأقتصادي هو العامل لرئيس في ولادة وتطور التأريخ، وكأن هذا المحرك الذي لا يمكن تصور وجوده بدون الإنسان إنما كان قانونا سبقيا شرع قبل وجود الإنسان، وحين وجد الإنسان في الأرض أو ما تعلمه هو فهم وإدراك القانون على أنه طريقه لصنع التأريخ، المشكل هنا أن تغيب الإنسان ودوره الفاعل في الوجود أنقسم العلماء والمفكرين والفلاسفة في التمييز بين ما هو تأريخي أساسي وبين ما هو غير تأريخي هامشي وأعطوا للأقتصاد أهمية تأريخية كبرى كونه يتعلق بما هو تأريخي بظنهم صنعا وتأثيرا مستمرا .
لكن فيما يبدو لي أن أهمية علم التأريخ عند الاقتصاديين أكبر وأهم من أهمية عند المؤرخين لعلم الأقتصاد ولو بشكل توازن في ميزان الأهمية، يقول الدكتور جهاد صبحي القطيط في هذا الشأن (يعتبر الحاضر إحدى حلقات الزمن، ومرحلة من مراحل التطور المستمر. وعلى ذلك يكون من الضروري حتى نصل إلى تفسير صحيح للظواهر الاقتصادية الموجودة في الحاضر ألا ننزعها من حلقات الزَّمنِ، بل نربطها بالماضي، كما يكون من الضروري أيضاً حتى نحدد مصيرها أن نتوقع مستقبلها، حتى يمكن الوصول إلى قرارات سليمة تعمل على حلها. ومن هنا تتضح العلاقة بين علم الاقتصاد والدراسات التاريخية بصفتها أداة للتحليل، وهي تشمل ثلاثة عناصر هي: تجميع الوقائع، تحليل هذه الوقائع، صياغة القوانين التي تحكم تطور هذه الوقائع) .
صحيح وصحيح جدا أن الملكية لعبت دورا مهما في بناء النظام الأجتماعي للإنسان عبر التأريخ، كما يمكننا التأكيد أن تطور وسائل الأنتاج كما هو تطور مفهوم الملكية ساعد في بلورة وعي تاريخي لقوى محركة هامة داخل المجتمع (السلطة السياسية والسلطة الدينية بشكل خاص)، لكن من غير الصحيح أن هذه العناوين وبمعزل عن العوامل الذاتية للإنسان الفرد هي بجوهرها المجرد فعلت كل ذلك لأنها قوانين حتمية فوق إرادة الإنسان، جاء في الأدبيات الماركسية مثلا هذا الفهم المتجلي بالأسطر التالية (ان مادية ماركس التاريخية كانت اكبر انتصار احرزه الفكر العلمي. ..تبين كيف ينبثق ويتطور، من شكل معين من التنظيم الاجتماعي، ومن جراء نمو القوى المنتجة، شكل آخر، ارفع – كيف تولد الرأسمالية من الاقطاعية، مثلا وكما ان معرفة الانسان تعكس الطبيعة القائمة بصورة مستقلة عنه، أي المادة في طريق التطور، كذلك تعكس معرفة الانسان الاجتماعية (أي مختلف الآراء والمذاهب الفلسفية والدينية والسياسية، الخ) نظام المجتمع الاقتصادي. ان المؤسسات السياسية تقوم كبناء فوقي على اساس اقتصادي) .
التركيز على الفصل بين المعرفة الإنسانية وبين الإنسان بأعتبار أن الأولى وإن كانت إنعكاس لوجوده لكنها منفصلة عنه تأكيد على أن هذه المعرفة ولدت بشكل أما غيبي أو أنها نمت وترعرعت خارج وجود الإنسان بواسطة قوى ومحركات غير مرئية، إن فصل الإنسان معرفته هي تماما كفكرة فصل التأريخ عن محركاته وأسسه الأصلية، إنها خداع مثالي في موضوع مادي بن للباحث التأريخي أن المقولة المادية والتي تتلبس العلمية في منطقها، هي بالأصل إفراط بالمثالية الطوباوية التي ترى بمنظار خيالي تأملي بعيد عن الواقع وواقع الواقع بكل تجرد بحثي.
يصر الدكتور خليل في مقالته هذه على التمسك بهذه المادية المزيفة كعادة الماركسيين العرب الذين يحاولون فهم الماركسية وفقا لسياقاتها الكلاسيكية، ليؤكد على أن الظروف والمقدمات الأقتصادية هي العامل الأساسي ففي التطور التاريخي على أنها نهاية العلم وكل مخالفة لها هي مجرد قلب للحقائق فيقول (لذلك نرى ماركس يؤكد ويشدد على ان الظروف والمقدمات الاقتصادية هي الحاسمة في أخر المطاف في صنع التاريخ. لذلك نقرأ في رسالة من انجلس الى يوسف بلوخ (لندن 21 ايلول 1980) يقول: ” نحن نصنع تاريخنا بأنفسنا، ولكننا، اولا نصنعه في ظل مقدمات وظروف محددة جدا، الاقتصادية منها هي الحاسمة في أخر المطاف، ولكن الظروف السياسية وغيرها، وحتى التقاليد التي تعشش في رؤوس الناس، وتلعب هي ايضا دورا معينا، وان لم يكن الدور الحاسم)، فهو لا يفرق بين أن تكون المقدمات الأقتصادية تصنع اولا من خلال الإنسان بمعرفته الخاصة وبين أن تكون نتائج المقدمات تلك هي الحاسمة في أخر المطاف، هنا ماركس وانجلز يفرقون بين مرحلتين أساسيتين مرحلة صنع المقدمات والتي يعزوها أنجلز للنفس كما مر معنا سابقا، وبين مرحلة أخر المطاف وهو ظهور الصراع الطبقي المعتمد على التقسيم الأقتصادي.
العجيب أنك تجد المثالية التي ترى في الطرح المادي في تناقض مفضوح تفوح من خلال أتهام الأخر المخالف بها على أنها تحدي للعلمية المادية التأريخية، فيستمر الكاتب المذكور في نقض المنهج العلمي الذي يزعمه حين يقول (وهذا الطرح المادي ينفي المفاهيم المثالية التي تقول بان العامل الاول المحدد للتطور الاجتماعي ينبغي البحث عنه في افكار المجتمع ومؤسساته. فعند المثاليين يطور الناس اولا افكار معينة ثم يخلقون المؤسسات التي تتفق مع هذه الافكار. وعلى هذا الاساس يسيرون حياتهم الاقتصادية، وبهذه الطريقة فان المثاليين وكل فلاسفة من فريدمان الى فوكوباما وكل فلاسفة طبقة رأس المال يضعون الأمور مقلوبة رأسا على عقب. انهم يضعون كل شيء على رأسه. وبدلا من القول بأن الافكار والمؤسسات تتطور على اساس الحياة المادية للمجتمع يقولون ان الحياة المادية للمجتمع تتطور على اساس الافكار والمؤسسات) .
الحقيقة إن صح الكلام المنقول أو لم يصح لا يمكن للإنسان أن يصنع أفكارا ومؤسسات قبل ان يخوض تجربة الأستشعار بالحاجة، ويستجيب لهذا الأستشعار بفعل طبيعي ملبي لها على أقل تقدير ثم يتبنى الفكرة لاحقا، الأفكار وحدها هي نتاج عملية تمظهر الأستجابة وإنعكاس لها وتتطور على أساس ما تقدمه لا على أساس ما تؤمن به أولا، فالقانون هنا يبنى على (أن كل أفكارنا ومعارفنا هي نوع من أستجابة حتمية لحاجاتنا المتزايدة وتطورها عبر الزمن من خلال مصدر الكشف الأولي عن الحاجات وهي الأنا)، الأنا وحدها وبتفاعلاته مع الواقع هي من تنتج أفكارا بعد نضج التجربة وصولا إلى مأسسة الأستجابة بشكل ما.
فلا الظروف المسبقة ولا الحياة المادية المنفصلة عن الإنسان كونه العنصر الفاعل والمستجيب يمكنها أن تكون هي أساس التطور التأريخي لوجود الإنسان، بأعتبار أن المجتمعات الأولى كمثال هي من أكتشفت ومن خلال العامل الأقتصادي أنهم متساوون بوجودهم لذا أطاحوا بالنظام الإقطاعي المتجذر أو حسب ما ينقل عن أنجلز أنه قال (عادة ما يفترض ان اسلافنا طوحوا بعلاقات التبعية الاقطاعية السابقة لأن اذهانهم توصلت الى فكرة ان الناس متساوون. ولكن لماذا اصبح لهذه الفكرة فجأة مثل هذا التأثير؟ لماذا ابدت علاقات التبعية الاقطاعية فجأة – وهي التي ظلت طوال قرون تعتبر طبيعية وعادلة- امرا غير طبيعي وغير عادل؟ ان هذه الاسئلة تقودنا من مجال الافكار الى مجال ظروف الحياة المادية)، هنا الكلام المنقول في أضطراب كبير وتناقض مع إقرار الفكر المادي أن المجتمع الأول وهو ما يسمونه بالمجتمع المشاعي بدأ كما نعرف ومن خلال تعريف المشاعية ذاتها بأنه مجتمع المساواة، ثم تطور لاحقا بفعل العوامل النفسية التي لا ينكرها الفكر المادي بالتحول لمفهوم الملكية الخاصة التي أنتجت الأقطاع ونظامه السياسي والأقتصادي والأجتماعي في تحول تاريخي هام، بعدها لم يعد هناك شعور بالمساواة مطلقا ولا حتى في دعوة لها، وإنما أنحصر الصراع الطبقي بين أصحاب الملكية والذين لا يملكون في إطارات ومدارات أخرى لا علاقة لها بالحرية مثل الحصول على المزيد من الأمتيازات أو الحقوق أو في تطوير النظام السياسي والأجتماعي ليكون أقل وطأة وتكلفة مما هو عليه للإشباع أكبر قدر من الحاجات وليس من بينها النداء للمساواة.
فالنظام التأريخي في وجهه المادي يبنى على حقيقة مفادها أن الحاجات هي المحرك الأول لتطور التأريخ، وليس بالضرورة أن تكون الحاجات مادية حتى نطلق على التلبية لها العنصر المادي الأقتصادي، فجانب كبير من تلك الحاجات تتعلق بالحرية كما يقول هيجل، وهناك ما هو اكبر من ذلك هو الحاجات الغرائزية الطبيعية أولها حاجة البقاء في الوجود من خلال أبتكار وتطوير وسائل الحماية لها والحفاظ على الديمومة فيها، كما هناك حاجة أخرى تتمثل في الجانب الروحي لتكون الحياة أكثر قبولا وتعبيرا عن الوجود كالثقافة والفنون والموسيقى وحتى الطقوس والعبادات وما يقترن بالإنسان من سلوكيات تعكس رؤيته الكامنة في وجوده الكوني الأول.
هذه الحاجات التي تشكل محور التطور التأريخي لا يمكن للماركسيين قبولها أو حتى الأعتراف بها كونها كما يقولون، فهي قيم فوقية تنتج عن أسس مادية تتركز في الغالب على طبيعة النظام الأقتصادي وتطوره، فالقيم الفوقية كما يصفونها ليست نتاج وجود مباشر للإنسان بقدر ما هي تتبع التحول المادي، وهذا ما يتنافى أصلا مع الحقيقة التأريخية التي لم ولن تتغير من أن تلك القيم لا تنتج بمعزل عن الإنسان مجردا، والدليل أنها ما زالت تنتج وتتطور بنفس الكيفية والشكل الذي أنتجها تاريخيا بالرغم من تبدل العوامل المادية، ومنها شكل نظام الملكية والعلاقات مع وسائل الأنتاج وغيرها من قواعد الفكر الماركسي، ففي كتاب رأس المال لكارل ماركس المجلد الأول الجزء الثاني الفصل الثاني والعشرون يتحدث ماركس فيقول ليؤكد هذا الزعم الطوباوي المفرط في تطرفه اللا علمي (من هنا وبشكل عام، لا يمكن اعتبار ظهور أفكار جديدة تفسيرا كافيا للتغيرات الاجتماعية، إذ ينبغي دائما ان نفسر منشأ الأفكار ومصدر تأثيرها الاجتماعي، وينبغي البحث عن هذا التفسير في ظروف الحياة المادية للمجتمع).
إذا كانت الأفكار الجديدة مساهمة في بناء التغيرات الأجتماعية فما هو فعلها وأثرها الحقيقي، علما أن كل التغيرات الأجتماعية هي نتاج تجارب واقعية قادت إلى التطور والنضج المعرفي لتكون بالتالي مصدر للبناء عليها تراكميا مما شكل لاحقا ما يسمى بالتجربة الحياتية التأريخية للإنسان، وحتى إذا سلمنا بما يقول ماركس من إنكار لدور الأفكار الجديدة في التغيرات الأجتماعية فعلينا أيضا تطبيقها على الفكرة الماركسية ذاتها خاصة والفكرة المادية عموما كونها غير كافية وهي حقيقة كذلك طالما تتجاهل مصدر هذه الأفكار وهو الإنسان المبدع في تلبية الحجات والعامل على تنفيذها في سيرورة تأريخية طويله من الرغبة والأستجابة والفعل.
نعود إذا لعلاقة الأقتصاد بالتأريخ لنؤكد أن الأقتصاد وقوانينه تتخادم مع التأريخ كونها تتعلق بكيفية تنظيم الحاجات وتطورها لتكون شكل من أشكال التجربة التأريخية تفسر ونفهم منها مثلا لماذا ظهر الأقطاع بعد مرحلة الملكية الخاصة الناشئة عن مرحلة تأسيس العائلة، وتفسر أيضا كيفية نمو ظاهرة الملكية الخاصة لتتدرج من أطارها البدائي إلى الأطار المؤسساتي المتمثل بالطبقة الملاكية للأرض وللحيوانات أو لكليهما معا، الأقطاع مرحلة لاحقة تأريخيا لمرحلة لم يتبناها التأريخيون ولا المفكرون والفلاسفة، وهي مرحلة الصراع الأجتماعي بين الأسر المتطورة (قبائل) فيما بينها للحصول على أكبر تلبية للحاجات لها، مرحلة بدأت بصراعات صغيرة لتنتهي إلى مرحلة الصراع الحربي بين تلك الأسر الكبيرة النامية والتي تطورت بدورها إلى ما يمثل نظام سياسي وأقتصادي مميز حين أختارت مناطق للرعي والزراعة خاصة بها.
المرحلة القبلية (تأريخيا) هي أساس المرحلة الممهدة لنظام الأقطاع بشكله الأقتصادي المعروف الآن، فقد كان النظام الأقتصادي القبلية من حيث نظرته للملكية أن المجال الحيوي لوجود القبيلة وقوتها هو ما يمكن أن تحميه وتدافع عنه أولا، وثانيا من كونه ملكية جماعية للقبيلة وليست لفرد محدد وإن كان الزعيم أو رئيس القبيلة هو الذي يحدد شروط الأستغلال وحدوده، لكنه في الأخر يمنح نفسه السلطة السلطانية على هذه الملكية فيخرج بها من يشاء ويدخل فيها من يشاء دون معارضة من بقية أفراد القبيلة، كما كانت هي الملكية تتبدل وتتغير تبعا للظروف البيئية أو في التغيرات التي تنتج عن حروبها ونزاعاتها مع القبائل الأخرى.
هذا النظام لم يتغير ولليوم ولكن حدث أن تطور في أماكن وأزمنة حين أستقرت تلك القبائل في أمكنة محددة نتيجة أما لقوتها الذاتية أو لقدرة الأرض على منحها أسباب البقاء، فنشأت مع ذلك انظمة أجتماعية وسياسية جديدة مع الأستقرار وظهرت أول صور ما يعرف بدويلات المدن أو الأمارات القبلية، والتي تطورت بدورها إلى ما يشبه النظام الملكي وتم توزيع الأرض بين الزعماء فيها للتحول شكل الملكية من نظامها الجماعي السابق إلى نظام الإقطاعيات الرئيسية، حتى ظهور الملكية كنظام حكم سياسي وأجتماعي وأقتصادي مبني أساسا على فكرة الإقطاعيات المتحالفة فيما بينها وأن يكون الملك هو الإقطاعي الأكبر.
فنظام الأقطاع احتاج الكثير من التحولات التأريخية منها ما هو أقتصادي ومنها ما هو وجودي ومنها ما يتعلق بالقوة وأسبابها، ولكنه كان تحولا عن طريق تطور الأفكار الناتجة عن معادلة الحاجة والأستجابة، وليس تبعا للصراع الطبقي الذي لم يظهر حقيقة إلا في وقت متأخر جدا، نتيجة تطور الوعي الأجتماعي والفكري الناتج من تطور المعرفة وظهور الأفكار الإصلاحية الأجتماعية ومنها الدين، إن القفز على الحقائق التأريخية من أجل أثبات نظريات وأفكار جديدة لا يساعد المؤرخ ولا حتى من يرغب الإطلاع على التأريخ بأن يفهم ماهية السيرورة التأريخية التي أختطتها المجتمعات البشرية في سبيل الرقي والتطور عبر الزمن، كما لا يغير من حقيقة أن الحاجات الإنسانية بشتى أنواعها وأصولها هي التي ساهمت في تطور النظرية الأجتماعية كما ساهمت في صنع التأريخ وتفسيره وفهمه طبقا للقواعد العلمية والمنهجية المنطقية للأشياء.
علاقة التاريخ بالأقتصاد
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا