“العـين بـتـعـلاش ع الحـاجـب..!!”
الـدكتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
المواطن العربي حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد شخص عادي جداً …
فهو يصحو مع خيوط الفجر الأولى،
ويحرص على أن يؤدي صلاته في أوقاتها في المسجد القريب من بيته بانتظام…
يأكل ثلاث وجبات (إذا كان محظوظاً..!) ….
يتجول في الأسواق الشعـبية…
يقـوم بحركات مألوفة لدى كافة الناس البسطاء،
وان كانوا لا يظهرونها أمام بعـضهم…
يحترم الكبار جداً ، بل أنه ـ أحياناً ـ لا يستطيع رفع هامته في حضرتهم…
وهذا ما أورثه انحناءا دائماً في الظهر حتى أن من يراه يظـنه أحـدباً.
إذا اقتضى الأمر فإنه مستعد أن “يبوس” الرؤوس،
مبرراً ذلك بأن “اللقمة صعـبة المسالك”…
يحرص حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد على توصيل أبنائه الصغار بنفسه كل يوم إلى المدرسة التي تقع في طرف القرية. فهذه متعـته الوحيدة..
يمشي معهم خطوة خطوة حتى يصلوا بسلامة الله ورعايته إلى المدرسة.
وهو نيابة عـنهم، يتلقى تقريع المدير لأنه (حـامـد) هو الذي يؤخرهم .
فالوقـت يجري بسرعة على من يستخدم قـدميه ،
ولا يتعامل (أو ـ بالأحرى ـ لم يسبق له التعامل) مع السيارات ،
لذلك لا بد أن يأخذ جزاءه…
وهو يتقبل الجزاء بنفس راضية (!!) إحتراماً منه لذلك المعلم المبجـَّـل ،
“مُربي الأجيال”…الذي “كاد أن يكون رسـولا..!!”
مرَّة واحدة، ربما ، وقع المواطن حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد في مأزق.
مرضت ابنته الصغرى ، أمـل ، في الصباح الباكر ،
وقالت له زوجته ، وهي “تـرغي وتـزبـد” ،
أن “ذهابها إلى المستشفى في جانب وذهابه إلى عمله في جانب آخر”…
فـقـرَّر أن يجيء في صف ابنته ،
فـهـي “الأمـل” الـذي يـعـيـش مـن أجـلـه……
أخذها إلى المستشفى في المدينة الكبيرة،
فالمدينة الصغيرة المجاورة لقـريته لا يوجد فيها مستـشفى.
هناك ، وجد الطبيبات والممرضات في غـرفة يشربن القهوة ،
ويحرقـن اللفائف، ويقـرأن “الموعـد” و”الشبكة” …
ويتحدثن بآخر أخبار نانسي عـجـرم.
تـنحنح حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد….
واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم،
ودخل يـُقـدم رجلاً ويؤخـر الثانية…
انتـفـضـت فيه الطبيبة ،
فـقابل انتفاضها برحابة صدر …
فـ “الأكابر” و “أبناء الذوات” لهم عـذرهم…
وقال لها أنه “غـلطان” …
ولولا أنها “حـُرمة” لارتمى على رأسها و قـبـَّلـه..
كل ذلك لأنه قـطع عـليها وعـلى “ملائكة الرحمة” ،
متابعـتهن لقـصة تـنـشـر على حلقات مسلسلة ،
عن حياة أحدى راقـصات الدرجـة الثالثـة في تلك المجلة “الـفـنـية”.
لكن العاصفة مرت بسلام…
فقد وصفـته الطبيبة التي أقـسـمت “يمين أبـقـراط”
بـ “الجاهل” و “الفـلاح” و “المتخـلـف” …
وانهالت عليه بأقـذع الشتائم.
كل هذه الأوصاف لاكها حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد في باطنه ،
ثم لفـظها في مكمن اللعاب، وكأن شيئاً لم يكن….
لكنه، والحق يقـال ، كان يغـلي في داخله!!
أوصل صغيرته إلى البيت وخرج مسرعاً إلى عمله…
وهناك أبلغه ربّ العمل أنه مفـصول…
لـقـد قـرَّر المدير المحترم فـصله من عـمله،
لأنه “غاب عن العـمل دون عـُذر مقـبول” ،
وقال له المدير موبخاً:
“شو يعـني مرضت بنتك يا حـامــد ؟!”…
مـَرَتك في البيت شو بـتـسـوي…؟؟!!”
هـنا لم يجد حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد جواباً…
فهو ضعـيف دائماً أمام “الكبار” و”الأكـابر” ، و”أبـنـاء الـذوات”…
حتى لو كان على حق وهـم على باطل…
لأن “العـين بـتـعـلاش ع الحـاجب..!!”
عاد حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد إلى البيت…
وجـده “مقـلوباً” تماماً ….
لم يجرؤ على سؤال زوجـته الباكية …
كان كل شيء واضحاً للعـيان…
فـقـد توفـيـت ابنته أمـل …
في تلك اللحظة فـقـط ،
أحسَّ حـامـد حـمـدي حـمـد الله عـبـد الـحـمـيـد،
أنه بحاجة إلى أن يكون شيئاً آخر..
* * * * * * * * * *
في رواية “حياتي” للروائي الروسي الكبير أنطوان تـشيخـوف ،
وقـف صاحب الأرض على رأس الفـلاح المـُعـدم ودار بينهما الحوار التالي :
“الطـقـس غائم… أظن أنها ستـمطر؟“!
“فعلاً يا سيدي … إنها ستمطر!!“
“لا… أعـتـقـد أنها لن تمطر اليوم..!”
“فعـلا … إنها لن تمطر على الإطلاق!”