لعل اللغة من أجل الاختراعات التي أبدعها الإنسان، وقد ألجأته الحاجة إلى أداة للتواصل بين أفراد المجموعة البشرية التي يحيا بين ظهرانيها، وهي مجموعة من الإشارات الصوتية تواضعت على دلالتها مجموعة بشرية معينة، كانت تعيش في فضاء مكاني متقارب، لتصير هذه الإشارات نسقًا رمزيًا من الأصوات التي تعبّر عن حاجات الإنسان المادية أولاً، ثم الروحية والمعنوية لاحقًا، وقد استمر الإنسان في تنسيقها وصقل نظامها ردحًا طويلاً من الزمن، حتى استوت وتكاملت، فقد بدأت مجرد أصوات تصاحبها إشارات مساعدة، ثم انتظمت لتكون مجموعة من الأصوات التي شكلت كلمة ذات دلالة، وبجمع الكلمات في سياق معين، استطاع الإنسان أن يعبّر عن معنى، وأن يبلغ رسالة من نوع ما.
ولكن اللغة لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزت ذلك إلى وظائف أخرى لتشبع نهم الإنسان للسمو والارتفاع، ولتحاول اللغة لاحقًا أن تقوم بوظيفة فوق توصيليه وتواصليه، ألا وهي الوظيفة الجمالية.
تعد اللغة العربية من أعرق اللغات الحية، بما تمتلكه من سمات خصائص وصفات، فما هو مستقبل هذه اللغة؟ وما هي المؤثرات التي قد تكون من العوامل المؤثرة في مسيرة تطور العربية؟
تعد اللغة وفق ما كتبه الأكاديمي غسان غنيم في جريدة «النور» السورية مظهرًا من مظاهر قوة الأمم، وقوة الابتكار فيها، وفي مجموع أبنائها، فإذا تراجعت قوة الابتكار، تجمدت اللغة أيضًا وانكسر خط تطورها، بل تراجعت حتى تصل إلى الموت والاندثار.
فثمة مبدأ لساني معروف وهو عدم وجود لغات متقدمة وأخرى متخلفة في حد ذاتها، وإنما يصيب التقدم والتخلف أهل اللغة الناطقين بها، وهذا الارتباط قد يؤشر إلى حالة اللغة العربية، ومصيرها، فالنظم التربوية في معظم البلاد العربية تقوم على التفاوت في التعليم بين الحكومي والخاص، حكومي يشكو من ثغرات لأبناء العامة، وخاص جيد لأبناء النخبة، مع تدريس بلغات أجنبية، بل إن التعليم الحكومي في بعض البلدان العربية، لا يستعمل اللغة العربية في مراحل التعليم جميعها، أو في التخصصات جميعًا، وعلى الأخص التعليم العالي، مثل هذا التعليم سيؤدي إلى تدني اللغة الأم (العربية)، بل إن المسؤولين عن التعليم في بعض البلدان العربية يستغربون استعمال بعض البلدان العربية للعربية وعلى الأخص في التعليم العالي، ويستهجنون ذلك زعمًا منهم بضعف اللغة العربية عن مجاراة العصر أو القدرة على استخدام المصطلحات العلمية أو مجاراة اللغات الأخرى في إبداعها وقولبتها لتدل على ما نتجه آلة الإبداع الحديثة.
إن من الآفات الكبرى التي تؤثر في مستقبل اللغة العربية، إذ إن المعلمين في المدارس العربية، وفي المستويات جميعها، لا يستعملون اللغة العربية الفصحى في تدريسهم، بل يفضلون استعمال العامية القطرية، إما لضعفهم فيها، وهذا الأرجح، أو استسهالاً للعامية، أو لعدم تلقيهم تدريبًا كافيًا، أو لعدم وجود القوانين التي تلزمهم بالتدريس باللغة الفصحى، المبسطة التي تستعمل في المنابر الإعلامية الرصينة.
ومن بين مشكلات اللغة العربية اليوم، إن كثيرًا من مناهج التعليم العربية ابتعدت عن الثقافة العربية المشتركة، وباتت تروج لثقافة قطرية ضيقة أو إقليمية مرضية، مما أغرى الناشئة بالابتعاد عن الثقافة الأم.
يضاف إلى ذلك قيام السلطات العربية بالسماح بإنشاء محطات إذاعية أو تلفزيونية تبث باللهجات المحلية بحجة تقريب المعرفة إلى فهم عامة الشعب، وهي حجة واهية، في حين إن كثيرًا من الدول الأخرى، كإنجلترا والصين وفرنسا وروسيا، قد أنشأت محطات تبث بالعربية الفصحى وليس بأية عامية، إدراكًا منها بأن هذه اللغة هي الأقدر والأحسن للتواصل مع الشعب العربي.
وفي إطار النقد الذاتي، لابد من الإشارة إلى أن موقف المتعصبين المتزمتين الذين يرون في اللغة العربية صنمًا مقدسًا لا يجوز الاقتراب منه أو مسه خوفًا عليه، وهم بذلك إنما يقومون بتحنيط اللغة وهي الكائن المتجدد بتجدد أبنائها وتأثرهم بالمستجدات وبالمعطيات الحضارية، مثل هؤلاء يعتقدون أن التشدد اللغوي، وعدم قبول إلا ما حوته المعاجم القديمة، وربما فاتهم أن اللغة تتطور بمفرداتها وأساليبها، فسلامة اللغة لا تتيسر بالجمود والمحافظة المتشنجة وإنما بالمحافظة على أصول اللغة ونظامها اللغوي، وقواعد صياغتها، مع مرونة في التعبير عن العصر وحاجاته.
إن المحافظة على ما هو حي لا يتحقق بوضعه في أقفاص تقطع عنه الهواء، فيتعفن ويموت، إذ برهنت اللغة العربية على مدى تاريخها، إنها قوية وقادرة على الصمود والبقاء والتجدد، على الرغم من الصعوبات التي مرت بها، فما بلت جدتها ولا أوهنت عزيمتها على البقاء والاستمرار.
إن ما يمكن أن يصيب هذه اللغة هو ما أصاب اللغات الأخرى من التحول دون أن يصيب نظامها النحوي وقواعد صياغتها الراسخة.
ومن أكثر العوامل محافظة على هذه اللغة ربما يكون في تبني الدول العربية سياسات إعلامية وثقافية، وتعليمية جديدة وسيلة لتدارك ما يمكن حدوثه، وذلك بالعودة إلى استعمال اللغة الفصحى المبسطة التي يفهمها الناس جميعًا، في المدارس والمنابر الإعلامية والجامعات، ومعاهد التعليم، وذلك عبر قرارات ملزمة يسهر على تنفيذها مع العمل على تبسيط القواعد وعدم التركيز على ما هو شاذ ونادر لصالح الشائع السائغ، مع العمل على رفع السوية الثقافية والمعرفية، والتركيز على استعمال الفصحى المبسطة، في مراحل التعليم جميعها.
ومن بين وجهة النظر هذه، إلزام المدارس الخاصة والجامعات الخاصة تدريب اللغة العربية وتطوير أساليب اللغة العربية في التعليم بمراحله المختلفة، وتنمية قدرات المتعلمين على استخدام اللغة لتصبح أداة سهلة الاستعمال في التعبير عن الذات وعن حاجاتها، تحدثًا وكتابة، والعناية بالترجمة العلمية والتقنية والأدبية، ومحاولة تسهيل تعلم العربية لغير الناطقين بها مع الحث على تعلم اللغات الأخرى.
إن مثل هذه الاقتراحات لا تعد جديدة، فمما لا شك فيه إن قيلت بأساليب متعددة، في مساحة أكثر من نصف قرن، وعقدت المؤتمرات والندوات للمجامع ولوزارات التربية والتعليم العالي العربية، ولكن توصياتها ظلت حبرًا على الورق، ولم تنفذ.
وبجانب هذا الرأي يشير بعض المتخصصين إلى مجموعة من التحديات التي تواجه اللغة العربية وفي مقدمة هذه التحديات اللغة الإنجليزية، حيث أصبحت هذه اللغة منافسًا قويًا للغة العربية، وإن متطلبات سوق العمل، والتطور التكنولوجي الضخم ومتطلبات العولمة، كل ذلك عزز اللغة الإنجليزية وتراجع اللغة العربية دون وعي لأهمية اللغة العربية كوعاء لثقافة المجتمع وإطار الهوية وبناء الشخصية، فهذه النظرة اختزنت اللغة في متطلبات سوق العمل، وأصبح التركيز على احتياجات سوق العمل دون النظر إلى بناء الشخصية والولاء والانتماء والذي يتعزز من خلال اللغة، والتحدي الآخر يكمن في أن أساليب وطرائق واستراتيجيات تدريس وتطوير اللغة لم تتغير، بل بقيت على ما هو عليه من تقليدية وجمود عفا عليها الزمن.