طفلةٌ فقيرة مريضة، يحاول شقيقُها الموظفُ البسيط إنقاذَها من فتك الآلام وشبح الموت. ظل يكافح حتى يحصل على حوافز الشهر التي هي جنيهات قليلة لكي يشتري لها الدواء. الطفلةُ تحلم بألبوم “مدحت صالح” الجديد. لكن العين بصيرة واليد قصيرة. مفارقاتٌ ومصادفاتٌ جعلت ذاك الموظف يحضر حفل رأس السنة في أحد الفنادق الكبرى، وتتوالى المصادفات فنجد المطرب “مدحت صالح” يترك الحفل الفخم ويذهب إلى المستشفى ليغني لتلك الطفلة الفقيرة وحدها، التي كان حلمها مجرد “شريط كاسيت” يحمل صوته! تلك هدايا الله لجبر خواطر المنكسرين. ذلك المشهد الذي أجرى الدموع في عيوننا كان في “فوازير المناسبات” إنتاج عام 1988 بطولة الراحلة الجميلة “هالة فؤاد”، والجميلة “صابرين”، وعظيم المسرح والدراما “يحيى الفخراني”، أحد أهرامات مصر الحُسنى.
في رمضان هذا العام 2021، أمتعنا الدكتور “يحيى الفخراني” بمسلسل كوميدي مبهج: “نجيب زاهي زركش” مع الساحرة “أنوشكا” والمبدع “محمد محمود”. الدراما مستوحاه من مسرحية “جوازة طلياني” التي كتبها الإيطالي Eduardo De Filippo، ومثلها على خشبة المسرح القومي العريق عام 1998 “يحي الفخراني” أيضًا مع الجميلة “دلال عبد العزيز” التي ندعو لها بالشفاء العاجل. لكن مسلسل “زركش” الذي أخرجه “شادي الفخراني”، كتب لها المؤلفُ “عبد الرحيم كمال” معالجة درامية وفلسفية مختلفة عن المسرحية الإيطالية، عمّقت من جوهرها الإنساني وزادته ثراءً. حيث الكهل الثري العاطل العابث الذي يحيا في قصره المنيف حياةَ اللهو والفراغ، يتحول فجأة إلى رجل جاد رصين يمنحُ حبَّه ورعايته لثلاثة أبناء ظهروا فجأة في حياته، مع علمه أن واحدًا منهم فقط هو ابنه. وحتى بعدما حدَّد ابنه الأوحد على وجه اليقين من بينهم، عن طريق تحليل الحمض الوراثي DNA، إلا أنه حرص على حلّ مشاكل الشباب الثلاثة ورسم مستقبل حياتهم؛ ونجح في التحوّل إلى أبٍ حقيقيّ يمنح الحب والرعاية والمسؤولية، هو الذي لم يعرف معنى “الآخر” طيلة حياته الأنانية الممتدة عقودًا سبعة من الزمان. وهي ذات الرسالة التي أرسلها لنا في دراما “بالحجم العائلي” مع الجميلة “ميرفت أمين”، عام 2018 من تأليف “محمد رجاء”، وإخراج “هالة خليل”، وكذلك في دراما “يتربى في عزّو” التي قُدمت في رمضان 2007، تأليف “يوسف معاطي” وإخراج “مجدي أبو عميرة”، مع الآسرة الراحلة “كريمة مختار” أو ماما نونا. رسالة خطيرة يرسلها “يحيى الفخراني” إلى كلّ أب فوّت على نفسه متعة أن يكون “أبًا” حقيقيًّا. كيف يتدارك الأبُ الخاسرُ هذا الفوات ويصلحه قبل فوات الوقت وينخرط في نبالة “الأبوة” الحقّة ويصنع علاقة صحية مع أبنائه، ليغدو صخرتهم في مواجهة الحياة؟ تلك إحدى الرسائل المهمة التي قدّمها الفخراني في قالب كوميدي ساحر ساخر عظيم لا يشبه إلا نفسه. والحقُّ أنني مهما أهرقتُ من مداد على أوراق لأكتبَ ما شاءت لي الكتابةُ، لن أنجح في الحديث عن عبقرية “يحيى الفخراني” في النحتِ المدهش للشخصيات التي يلعبُها، والحقُّ أن الجميع في غنى عن كلامي لأن الجميع يعرف فرادة واستثنائية هذا العملاق الذي صنع تاريخًا جعل منه هرمًا من أهرامات مصر الفنية الشاهقة. مقالي اليوم ألتقطُ فيه بضعة لقطاتٍ إنسانيةً تقدمها درامات “يحيى الفخراني”، ليست فقط تمسُّ القلوب وتُجري الدموع في المآقي، وهذا في ذاته قيمة وهدف ورسالة من رسائل الفن الرفيع، لكنها كذلك تحمل رسائلَ تثقيفية وتربوية وتعليمية وتنويرية تساهم في النهوض بالقيم الأخلاقية والإنسانية لأبناء المجتمع. من تلك اللقطات حين دار حوار بين الأب “نجيب زركش”، وأحد أبنائه الذي كان يعمل في شباك تذاكر إحدى السينيمات. قال الشابُّ إن المرتب زهيدٌ جدًّا، لكن “البقشيش” يعوضه. فتعجب الأب متسائلا: “فيه بقشيش في التذاكر؟” فأجابه الولد البسيط بحكمة فيلسوف: (فيه بقشيش في الإنسان نفسه. البقشيش مش فلوس بس. ابتسامة الناس بقشيش.) وهذا ما تعلمناه من الحديث الشريف: “تبسُّمك في وجه أخيك صدقة.”
المطربُ الكبير الذي يزور طفلة فقيرة في غرفة العمليات ليغني لها وحدها، وبقشيش الابتسام في وجوه الناس، تلك مبادئ الأخلاق والحضارة. لأن “سعادة الآخر” يجب أن تكون جزءًا أصيلا من عملك اليومي لكي تكون “إنسانًا ممتازًا” يستحقُّ الحياة. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحملُ القيمَ لأبناء الوطن.”
***