كان بين الحين والحين، يُفاجئنا بزيارة مباغتة. نُحبُّها، نترقّبُها، نخافُ منها، ونفرحُ بها. يدخل علينا “السيكشن” في كامل أناقته ورابطات العنق الفريدة ذات الألوان الصادحة، فيتنحّى المعيدون جانبًا ليسمحوا له بالتجوال في قاعة رسم طلاب السنة النهائية بقسم العمارة/ كلية الهندسة/ جامعة عين شمس. يمرُّ بعينيه على عيوننا، نحن الطلاب الشغوفين بزيارته القلقين منها، فيبتسم ابتسامته التي نعرف أن وراءها سيمفونية وشيكة من أربع حركات: أنشودةُ القلق، أنشودةُ التوقّع، الكريشندو، ثم أنشودةُ الفرح والحسد والرجاء.
في أنشودة القلق: تخفق قلوبُنا الصغيرةُ حين يمرُّ المايسترو جوار طاولاتنا خوفًا على مشاريعنا التي سهرنا الليالي في تصميمها بالقلم الرصاص ثم حبّرناها بأقلام الرابيدو السوداء في انتظار مرحلة التلوين. وفي أنشودة التوقع، كانت عيوننا تمرُّ على الطاولات حتى نخمّن أيَّ مشروع سوف يختارُ المايسترو ليعزف على ورقها معزوفتَه اللونية المُربِكة. ثم تأتي أنشودة الكريشندو حين يختارُ المايسترو مشروعًا لم يخطر ببالنا، نحن الطلاب، ثم يتوقف ويمسك باليتة الألوان وفرشاة الرسم. هنا يخفقُ قلب صاحب المشروع رعبًا. يُهرِقُ المايسترو الألوانَ على اللوحة فنكتم أنفاسنا وقد اختفت خطوطُ التصميم تحت موجات اللون السائل. يمسك المايسترو الفرشاةَ ويبدأ في توزيع الألوان في سرعة فنانٍ يعرفُ كيف يُخضِعُ اللونَ ويُطوّعه، وبعد دقائق نكون أمام قطعة فنية مبهرة. يبتسم المايسترو ويخرج من السيكشن، وقد عرفنا أن هذا المشروع سوف يحصد الدرجات الأعلى لأن رئيس القسم قد اختاره ليمنحَه ألوانَه. هنا تأتي الحركة الرابعة من السيمفونية: أنشودة الفرح بما نرى ونتعلم، والحسد لهذا الطالب المحظوظ، والرجاء في أن يقع اختيار المايسترو لمشروعنا في مقبل الأيام.
إنه المهندس المعماري الكبير، أ. د. “فاروق حافظ الجوهري”، أستاذ العمارة بهندسة عين شمس، الذي فقدته مصرُ قبل أيام. ولكنه خالدٌ عصيٌّ على الفناء، ليس فقط في مئات البنايات الأنيقة التي شيّدها في مصر والوطن العربي، وليس فقط في نجله المهندس المعماري د. عمرو الجوهري، زميل دفعتي وصديقي، وفي كريمته د. جيرمين الجوهري أستاذ التخطيط المعماري، بل هو خالدٌ في قلوب آلاف المعماريين الذين تتلمذوا على يديه، وأفخرُ أنني من بين أولئك المحظوظين.
حين كنّا في الصف الثاني بكلية الهندسة، طلب منّا د. “فاروق الجوهري” أن نتخيّل ونصمم “بوابة جهنم”! ثم جال بين طاولات الرسم ليمرّ بقلمه الأسود الغليظ ويشطب التصميمات التي خرجت متزنةً فنيًّا متناسقة معماريًّا! ثم راح يشرح لنا مفهوم “استاطيقا القبح” كأحد تيمات الخطاب “ما بعد الحداثي” في العمارة. تمامًا كما فعل “بودلير” شِعرًا حين مجّدَ الشيطان في “أزهار الشر”. وما فعله “ڤيكتور هيجو”، حين أجبرنا أن نرى كوازيمودو، في “أحدب نوتردام” جميلا وسيمًا، رغم ظهره الأحدب وجسده المشوّه وعينه العوراء وأذنه الصمّاء. تعلّمنا وقتها أن “القبحَ” قد يكون أداةً عبقريةً لاستدعاء “الجمال”؛ حين يكون الفنانُ، فنانًا، وحين نتخلص من معلّباتنا الجاهزة عن فكرة الجمال والقبح. تعلّمنا من أساتذتنا هندسة عين شمس أن نفتح مخروط الرؤية لنتأمل مفردات الطبيعة ونتعلّم أن الجمالَ كامنٌ في كل شيء، ومهمّة الفنان التفتيشُ عنه واستخراجه من بين الركام.
علّمنا المعماري “فاروق الجوهري” أن “العمارة فنُّ الأثرياء”. وفلسفة ذلك المصطلح الصادم المقصود بها أن حضارةَ الدول تتجلّى أولا في عمارتها، لهذا يجب أن يُصرَف عليها من أجل صناعة الجمال. وكان المهندس الكبير “فاروق الجوهري” بهذه الفلسفة في خصام فكري مع المهندس الكبير “حسن فتحي” صاحب كتاب “عمارة الفقراء” الذي يشرح فلسفة تعليم البسطاء أن يبنوا منازلهم بأيديهم بأبسط الإمكانيات. “انظر تحت قدميك وابنِ”، أي استخدم الرمال والأحجار في بناء حوائط بيتك دون خرسانات وأعمدة وكمرات. وكانت العقبة الأساسية لمثل تلك الأبنية هو “السقف”، الذي يتعرض لجهود الشد والانحناء التي لا تقوى على تحملها إلا الخرسانة المسلحة مرتفعة التكاليف. لهذا تبنّى المعماري حسن فتحي” فلسفة القُبّة والقبو” التي تتحمل وزنها دون انحناء أو تصدّع.
ولكل فلسفة من الفلسفتين: “عمارة الفقراء”، “عمارة الأثرياء” وجاهتها. ومن العسير في مقال قصير كهذا شرح وجاهة كلّ منهما. ولكن الشاهدَ أن ذلك الخلاف بين العظيمين: “حسن فتحي”، و”فاروق الجوهري” كان لصالح الجمال ولصالح الإنسان. ودائمًا ما كنتُ أنظرُ إلى تلك المعركة الفكرية بسعادة؛ لأنها دليلٌ على الثراء الفكري المصري والتنوع الجميل؛ الذي أؤمن أنه أصلُ التطور البشري. “دع ألف زهرة تتفتح”، فكلُّ زهرة فكرية وفنية لها جمالُها وحتميةُ وجودها؛ مادامت في صالح الإنسان ولأجل فرحه وسعادته وراحته. رحم الله أستاذي العظيم “فاروق الجوهري” وعوّض مصرَ عنه خيرًا. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يُشيّد صروح الوطن”.
***
فاروق الجوهري …. مايسترو الخطوط والألوان
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا