يوميات نصراوي: تسجيلات من دفتري الخاص
1 – حسين مروة في موسكو
وصلت موسكو عام 1968، وقضيت سنتين في معهد العلوم الاجتماعية، المعروف اكثر بالمعهد الشيوعي.
تعرفت في المعهد على شخصيات شيوعية مختلفة خاصة من العراق ولبنان وسوريا، واكثر شخصية لفتت انتباهي المرحوم الدكتور حسين مروة، الذي كان يعد اطروحته لنيل شهادة الدكتوراة عن موضوع “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية “. حضر أيضا في عام 1969 الشاعر محمود درويش، وكنا نعقد حلقات كثيرة، عن مختلف قضايا الثقافة العربية والأدب العربي والواقع السياسي، واذكر حديث للدكتور حسين مروة عن محمود درويش بوصفة انه ابرز شاعر عربي في القرن العشرين.
طبعا كانت لقاءات يومية وأحاديث ثرية كثيرة، لكني مهما انسى، لا انسى ما رواه حسين مروة عن حادثة جرت مع الرائع مارون عبود.
جاء أديب عربي (للأسف نسيت اسمه) الى لبنان وتفاصح وهو يلقى خطابة من على المنصة، بانه لو لم يكن لبنان “لما جا ” (يقصد لما جاء) وكررها “لما جا” ” لما جا ” مرات عديدة.. فتململ مارون عبود بكرسيه وكان يجلس بالصف الأول، ولم يتحمل ذلك القول، وصاح به وهو بمقعده: “لطي” ” لطي” “لطي ” (يعني لطيزي) فانفجر الحضور بالضحك الشديد واسود وجه الأديب.
سئل مارون عبود بعد الندوة كيف قلت له لطيزي لطيزي وهو ضيف لبنان؟ فأجاب بالعكس قلت له لطي لطي لطي واعني لطيف لطيف لطيف مختصرة مثل قوله “لما جا لما جا لما جا” أي اختصرت الحرف الأخير كما فعل حضرته – طبعا مارون عبود اختصر حرفين!!
2 – درس في الأخلاق الشيوعية
أواخر عام 1969زرنا أذربيجان لمدة شهر كامل، للاطلاع على ما أنجزته الاشتراكية لشعوب الشرق. طبيعة أذربيجان ساحرة خاصة مناطقها الجبلية، وشاطئ بحر قزوين وعاصمتها باكو، وخاصة المدينة العائمة التي بنيت داخل البحر من اجل استخراج النفط.
أخذونا إلى كولوخوز نسيت اسمه، تفاجأت ان الشوارع الداخلية أزفت من الزفت. شوارع ترابية تصبح وحولا في الشتاء. لديهم نادٍ لا بأس به، عبارة عن قاعة مقامة من حيطان باطون جاهز، الأهمّ ان الفتيات اللواتي كن في استقبالنا يخطفن العقل، خاصة عقول ومشاعر شباب في العشرين كما كنا، طبعا رقصنا، تعانقنا وقبلنا. تواعدنا لليوم التالي لنعمل معهن (طبعا مع آهل الكولوخوز) في سبت العمل الشيوعي التطوعي، وهو تقليد بدأ بعد الثورة، يشارك بالعمل كل المواطنين القادرين على العمل خاصة في الحقول، بيوم عمل تطوعي.
كان يوم عمل في ارض الكولوخوز، وهناك تناولنا طعامنا على الأغلب وجبة معدة من لحم الخيل كما قيل لنا. عصرا كان لنا اجتماع سياسي في النادي. كُلِّفت بالحديث باسم وفد رفاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي. كان معنا رفاق أتراك ورفاق من أمريكا اللاتينية. كلهم ألقوا خطابات تافهة وشعارات تافهة. هاجموا الاستعمار “ونعلوا أبو أبوه” وضربوه بالنعل حتى كل لسانهم. وطبعا مدحوا النظام الاشتراكي الذي أحدث نهضة عظيمة لأبناء الشرق باتت حلما لشعوبهم.
كان أمين عام الحزب الشيوعي في اذربيجان الرفيق علييف (صار رئيسا لأذربيجان بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وورثه ابنه برئاسة أذربيجان) يجلس على المنصة، عندما يصفق تضج القاعة بالتصفيق. شعرت أني في سيرك، او مسرحية هزلية، الحضور لا يعرفون عما يدور الحديث، لا يعرفون ما هو الواقع التركي، لا يعرفون ما هي الحال في أمريكا اللاتينية ولا يعرفون معاناة الشعب الفلسطيني واحتلال فلسطين كلها وأراض عربية أخرى.
جاء دوري للحديث. قررت ان ألغي خطابي الجاهز عن فلسطين والصهيونية والاستعمار والعدوان .. الخ وأن أتحدث مباشرة عن انطباعاتي. تحدثت عن اذربيجان التي تنهض وتتطور وهذه حقيقة، عن زيارتنا للصخور السوداء – جزيرة صناعية لاستخراج النفط من بحر قزوين، والصخور السوداء هو اسم تلك المدينة العائمة في قلب البحر لاستخراج النفط ،يسكنها 5 آلاف إنسان فيها مطاعم ومسارح وسينما. تحدثت عن طبيعة بلادهم الجميلة وتمنيت ان أزور كولوخوزهم مرة أخرى وان تكون قد شُقّت لديهم طرقٌ حديثة. شكرتهم على الضيافة، وعلى “اعتناء” صبايا الكولوخوز بنا وعن الأمسية الرائعة التي قضيناها في ضيافتهم، وعن استعدادنا لتلبية دعوتهم لسبت عمل شيوعي جديد وتركت الامبريالية والصهيونية في حالهم وهتفت بحياة الاتحاد السوفييتي!!
لم اعرف ان كلمتي ستثير غضب الزعيم علييف، ويشتكي على خطابي غير الشيوعي وغير الثوري لإدارة المعهد، وان تصرفي لم يخدم الأهداف الشيوعية!!
عدنا بالطائرة الى موسكو. في اليوم التالي طلبت لاجتماع مع مسؤول في إدارة المعهد. انتقد تصرفي غير الشيوعي، وأنذرت بأني قد أطرد من المعهد. صديقي أستاذ الاقتصاد السياسي نصحني بعد ان حدثته بما جرى، ان اكتب انتقادا ذاتيا وامدح النظام الشيوعي والاتحاد السوفييتي وأوكد أني ارتكبت خطأ كبيرا لن يتكرر. فكتبته وترجم للروسية وقدمته للإدارة شارحا ان قصدي لم يكن ان انتقد أي قصور، بل اشدت بتطور أذربيجان وجمال البلاد وكرم الشعب الأذربيجاني المتمسك بنظامه الاشتراكي، وكنا سعداء جدا لمشاركتنا في سبت العمل التطوعي – الشيوعي. وكلمات هي شعارات تنفع لخطب الكنائس وهكذا صفحت الادارة عن زلتي الخطيرة. فيما بعد ابلغوا الرفيق صليبا خميس بجريمتي، الذي كان ممثلا للحزب الشيوعي في مجلة قضايا السلم والاشتراكية ومقرها براغ وكان يتردد على المعهد بين فترة وأخرى سألني ضاحكا عما فعلت، فحدثته ونصحني الا اكرر “زعرنتي” لأن عقولهم ضيقة.
كانت زوجته الرفيقة آرنا خميس، تدرس معنا في نفس المعهد واولاده يدرسون في المدارس السوفييتية كما أذكر. لأنهم غادروا تشيكوسلوفاكيا بعد الغزو السوفييتي واسقاط نظام الكسندر دوبتشيك عام 1968.
3 – فنانات عاصرن الرفيق لينين في النوادي الليلية!!
من الطرائف الساخرة للواقع السوفييتي التي كان يتبادلها الناس في موسكو، حكاية عدم نجاح النوادي الليلية السوفييتية. فقط قلة من المواطنون السوفييت يحضرون للنوادي الليلية رغم قاعاتها الرحبة وطعامها الجيد. برامجها الفنية لا تشد المواطن. اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بحثت الموضوع، اتخذت قرارات هامة لتنشيط النوادي الليلية حتى لا يقول الغرب ان الاتحاد السوفييتي متخلّف عن باريس وفييّنا ولندن وبرلين ونيويورك في النوادي الليلية.
رغم ان القرارات المتخذة نفّذت إلا ان عدد المترددين على النوادي تراجع!!
عقد اجتماع طارئ جديد لقادة الدولة والحزب. قدم التقرير وزير الثقافة، قال ان الموضوع غير مفهوم، على عكس الغرب الذي يشغل صبايا صغيرات يظهرن مفاتنهن فقط فتمتلئ نواديه لمشاهدة الفن الساقط، عروض أقرب للجنس الإباحي، نحن أحضرنا للنوادي الليلية مغنيات وراقصات لهن تاريخ مجيد في الثورة الاشتراكية، بعضهن عاصرن الرفيق لينين، عينّا لهنّ مساعدات لتساعدَهُنّ في الوصول إلى النوادي بسبب جيلهن المتقدم، بل وزودناهنّ بكراسٍ متحركة وسيارات نقل خاصة ورغم ذلك ساء الوضع ولم يتحسّن!!
طلبنا من أطباء علم النفس وعلم الاجتماع دراسة هذه الظاهرة المستهجنة وغير الشيوعية. لكنهم لم يقدموا أي حجة مقبولة، كل ما قالوه ان نجرب استبدال الفنانات العجائز بفنانات شابات، وبعدها سنعرف إذا كان للغرب الاستعماري يد بهذه الظاهرة المعادية للشيوعية!!
وقال وزير الثقافة: نحن أصحاب مبادئ ولن نتنازل ونقلد الغرب الرأسمالي الذي يستغل الشابات الفنانات في نواديه الليلية!!
4 – ثقوب في الثوب الماركسي
عشت فترة طويلة من الحوار الذاتي ومحاولة إغلاق الثقوب في قرص الجبنة السوفييتي. رأيت ان الثقوب تزداد اتساعا. إيماني بجوهر الماركسية الإنساني لم يتزعزع، هل هو تأثير الانتماء لحركة شيوعية منذ بداية وعيي؟ نشأتُ على فكرة أني شيوعي دون ان أعي ماذا تعني الشيوعية، وأوقفت دراستي في هندسة الميكانيكيات في التخنيون بحيفا لأدرس الفلسفة والاقتصاد الماركسيَّين. لم أكن أتخيل نفسي بدون معرفة ووعي نظري وفلسفي كامل. كان بيت والدي مقرا للنشاط السياسي والاجتماعات الشعبية في مواسم الانتخابات منذ أيام عصبة التحرر الوطني الفلسطيني (الحزب الشيوعي الفلسطيني العربي)، فكيف لي ان أفكر بوجود قصور في الفكر الذي سحرني قبل ان أدرسه؟ اعرف القيادات الطلائعية التي قدمت عمرها في خدمة شعبها، اختاروا حياة النضال الصعبة، ذاقوا طعم السجون والنفي والفقر؟ هل يمكن ان يكونوا على خطأ؟
مع تقدمي في الدراسة وخاصة في موضوع الفلسفة، بدأت أشبك الخيوط.
رأيت في البداية ان الخطأ ليس في الفكر والتأسيس النظري بل في جهاز الدولة الذي لا شيء ماركسي فيه، وفي الجمود العقائدي الذي يحصر نفسه بماركسية ستالينية، دون فهم التحولات الجذرية العاصفة في النظام الرأسمالي، في الاقتصاد، في المجتمع، في تطور النظام الديمقراطي، تطور حقوق الإنسان، تطور مستوى الحياة، عدم صحة نظرية لينين ان “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، سقوط نظرية البروليتاريا والحتمية التاريخية عن الصراع البروليتاري ضد الرأسمالية وانتصار البروليتاريا المؤكد لتبني النظام الاشتراكي. كانت قناعتي ان البروليتاريا هي ظاهرة أوروبية لم تنتشر في أي مكان آخر خارج أوروبا، وانها ظاهرة مؤقته تلاشت في أواسط القرن العشرين.
معلم الاقتصاد قال لي ردا على استفساري عن ظاهرة البروليتاريا انه سعيد لأني أفكر بشكل حر. ولم يقل لي رأيه!!
5 – الدولة الرأسمالية لبناء النظام الاشتراكي
ماركس لم يطرح رؤية او نظرية للدولة الاشتراكية تتجاوز دولة الكومونة (كومونة باريس)، حكومة عمالية يُنتخب مندوبيها بالاقتراع العام ويمكن اسقاطهم بسحب الثقة منهم. أجورهم هي نفس أجور العمال وحسب ذاكرتي كان رأي ماركس حذف إصطلاح الدولة. الكومونة الباريسية كانت ظاهرة في مدينة واحدة وليس في كل فرنسا. هذا الشكل الجديد من الحكم كانت بيده السلطة التشريعية والتنفيذية، لم يحاول ماركس ان يكتشف أشكال جديدة لتنظيم ما يعرف ب “الدولة الاشتراكية” في المستقبل. ولينين لم يقد نظرية عن مفهوم الدولة الاشتراكية.
إذن ماركس لم يقدم أي رؤية لمفهوم الدولة في النظام الاشتراكي من رؤيته ان الدولة في طريقها للاضمحلال بعد سقوط البرجوازية. لكن ماذا سيحل مكانها كإدارة لمجتمع؟
الماركسية علمتنا ان الدولة هي جهاز للعنف الطبقي، بعد انتصار الطبقة العاملة وقمع أو تصفية الطبقات القديمة، تنتهي ضرورة العنف الطبقي، بالتالي تنتهي ضرورة الدولة. فيما بعد طور السوفييت (لينين) نظرية ان بقاء الدولة هي ضرورة لقمع البرجوازية العالمية. أي ظلت الدولة بدون تغيير بعد الثورة الاشتراكية، واقع الدولة الاشتراكية التي عرفناها كانت أسوأ من مثيلتها البرجوازية بغياب أي مفهوم ديمقراطي، قمع حرية الرأي وحق الاختلاف، الحزب (او زعيمه) هو المفكر والمقرر، لا قيمة للفرد (البرسيونال) القيمة للجماعة (شكليا فقط، عمليا لا قيمة إلا للقيادات العليا، شيء شبيه بالسلفية الدينية، الشيوخ يفتون، وغرابة أفكارهم التي لا تليق حتى بالعصر الحجري هي الصراط المستقيم). للمواطن خيار “ديمقراطي” وحيد ان يصوّت لنفس الحزب.. لنفس الشخصيات، لنفس النظام، لنفس الفساد ولنفس طبقة الحكم المتسلطة.
لينين رأى الأمر من زاوية مختلفة عن ماركس، مجالها ليس هنا الآن، إنما بودّي التأكيد ان الماركسية افتقدت للمعرفة النظرية لمفهوم الدول الاشتراكية، وما طبّق عمليا هو مفهوم الدولة السائد في العالم البرجوازي بإضافة شعارات وتبريرات فارغة من المضمون… الدولة الاشتراكية كانت أكثر قمعا ليس للبرجوازية العالمية، إنما لشعبها ولطبقتها العاملة!!
هذا الواقع انعكس بشكل سلبي ومؤلم في المجتمع الاشتراكي من تمييز وفجوات اجتماعية – اقتصادية بحيث تشكلت طبقة سائدة قمعية بمستوى لا يخجل إي نظام قمعي استبدادي فاسد!!
عندما صعد غورباتشوف توسّمت خيرا، رأيت بغورباتشوف ما حاول ان يكشفه لي بصمت أستاذُ الاقتصاد السياسي. لكن يبدو ان الثقوب أصبحت أكبر من كمية الجبنة.
رغم ذلك كان الحلم بمجتمع عادل ونظام مساواة إنساني، أكبر من الواقع المؤلم الذي شاهدناه وبرّرناه بشكل صبياني متعصّب ومنغلق عن رؤية الحقائق. عندما انهار الاتحاد السوفييتي قال قائد حزبي مرموق في إسرائيل ان “السوفييت كانوا يكذبون علينا ونحن كنا نكذب عليكم، لأننا اعتقدنا ان هذا لمصلحة الجماهير!!”
أي ان اليسار الماركسي كان يمارس الكذب على جماهيره ويكذب على ماركس وهو في قبره؟!
6 – البروليتاري مديرا للبنك ..
بدأت اشك بكل مفهوم نظرية صراع الطبقات، كنت على قناعة من تحول النضال الطبقي من نضال تناحري إلى نضال حقوقي واجتماعي. أصلا لم تقم أي ثورة على قاعدة الصراع الطبقي. فهمي النظري حول تفكك نظرية الحتمية التاريخية، استغرقني وقتا طويلا لأخرج من مربعها. تبين ان الرأسمالية الجشعة تعرف كيف تطور دولها علميا، تكنولوجيا، إداريا وثقافيا وحقوقيا، وحققت ثروة هائلة تجاوزت النظام الاشتراكي، اشترت فيها الطبقة العاملة إذا صح هذا التعبير. لم يعد العامل رجل المطرقة، لم يعد الفلاح رجل المنجل، أصبح العامل مدير بنك، مدير شركة، طبيب، مهندس، باحث علوم وتقنيات، مختصا بالهايتك، محاضرا جامعيا، هل تنطبق صفة “البروليتاري” عليه؟ هل هم مستعدون لصراع طبقي تناحري؟ بعض “البروليتاريين” يربحون أكثر من أصحاب بعض المصانع. الفلاح أصبح مجهزا تكنولوجيا بكل ما يحتاجه لتطوير زراعته وجني محصولاته، الزراعة أصبحت صناعة متطورة بينما الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية ما زالوا يخيطون بالمسلة العتيقة. ما شاهدته في الكولوخوزات والسوفوخوزات مذل ومثير للألم والقلق على مصير الاشتراكية. كوسيجين رئيس الحكومة في ذلك الوقت (1970) طرح إصلاحا ثوريا للصناعة وأيضا الزراعة على أساس توزيع الأرض على الفلاحين وليس الملكية الجماعية والعمل الجماعي. رفض مشروعه بحجة ان الغرب سيتهم الاتحاد السوفييتي بالعودة إلى الرأسمالية في الصناعة والزراعة مما يعني فشل الاشتراكية. ثبتت صحة أفكار كوسيجين في تطبيقها في هنغاريا التي أحدثت قفزة زراعية هائلة ولم تطبق في الاتحاد السوفييتي لأنها تتناقض مع نصوص غبية ألصقت بالماركسية وبتفكير سلفي لم يستوعب ان الفلسفة، مهما كانت عبقرية، ليست مقولات دينية ثابتة. للأسف لم أستطع ترجمة مشاعري إلى مواقف ورؤية نظرية جديدة إلا بعد ان رأيت انهيار وتفكك حزبي الشيوعي في إسرائيل، القيادة الحزبية التي لم تعد تكليفا ومسؤولية، بل أصبحت مخترة ومكسبا شخصيا… وتحول التنظيم إلى تنظيم شخصاني!!
قدمت استقالتي عام 1992 متأخرا ونادما لأني لم انسحب قبل عقدين، الحزب بدأ يفقد تنظيمه وقدرته على تنفيذ قراراته، والأخطر إصابة الحركة الشيوعية كلها بظاهرة الجمود العقائدي، والشلل عن تطوير النظرية الماركسية بما يتلاءم مع التغيرات العاصفة في عالمنا وخاصة في مكانة النظام الرأسمالي والتغيرات الجوهرية التي غيرت الكثير من الأفكار القديمة حوله. لا انكر ان من يعرفوا بتيار “الماركسية الغربية” طرحوا أفكارا هامة لكنهم اتهموا بالتحريفية، ولم تقم الحركة الشيوعية بفحص للعمق لطروحاتهم ونقاشها بعقلانية وليس برفض اعمى وتعصب لمقولات بات واضحا ان التاريخ يتجاوزها.
صرنا حزبيا في حارة “كل مين ايده اله”!!
7 – آية الله الرفيق بريجنيف
أخبار الصحافة السوفيتية دائما قديمة، نشر الأخبار يتأخر بسبب الرقابة القوية على الصحافة وضرورة تزييف الحقائق للشعب السوفييتي. عملية تضليل مبرمجة لا تفسير آخر لها. أصبح لدي شك كبير بكل المعطيات الرسمية التي تنشر. صحافة الاتحاد السوفييتي لها صوت واحد ولون واحد، مجندة تثير امتعاض القارئ السوفييتي وسخريته. هذا ساهم بخلق الطرائف التي تسخر من واقع الاعلام.
من أجمل تلك الطرف ان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي قلق جدا لأن “البي بي سي” و”صوت أمريكا” والوكالات الأجنبية تنشر أحداث سوفيتية قبل ان يقر نشرها وصيغتها المكتب السياسي للحزب. الرفيق بريجنيف (كان الأمين العام للحزب الشيوعي، عمليا أعلى سلطة في الدولة، يمكن القول “آية الله الرفيق بريجينيف”) دعا إلى اجتماع أعلن فيه ان “أحد أعضاء المكتب السياسي يتجسس لحساب البي بي سي وينقل أخبارنا قبل ان تنشرها صحافتنا”.
من هو الجاسوس يا رفاق؟ كان الصمت شاملا. قال “لن نغادر الاجتماع قبل ان نكشف عن الجاسوس”. حاول البعض ان يقول ان الجاسوس ربما من هيئات حزبية أدنى؟ رفض بريجنيف الأمر. سوسولوف شعر بأن مثانته لم تعد تتحمل الضغط. طلب الإذن للخروج إلى الحمام. بالطبع هناك حدث جديد ستذهب يا سوسولوف لتبليغ الغرب والإذاعة البريطانية به. فتشوا الحمامات. لم يجدوا وسيلة اتصال بالامبريالية، عملها سوسولوف ببنطاله. عجوز آخر من قادة الحزب شعر أيضا ان الوضع بات حرجا، لم يجرؤ على طلب الإذن، أفلتها في بنطاله بتأني، هكذا مضى الوقت والرفاق العواجيز أعضاء المكتب السياسي يرطبون بناطيلهم، خوفا من اتهامهم بالعلاقة مع الإعلام الامبريالي!!
بريجنيف شعر ان المسالة لدية أيضا أصبحت غير محمولة، قال لهم “يا رفاق يبدو ان الجاسوس ليس من المكتب السياسي الاجتماع انتهى”. رد سوسولوف بغضب “هل ستذهب لإبلاغ الغرب عن آخر أخبارنا؟” طبعا الأكثرية مع سوسولوف بسبب البنطلونات التي رطبتها مثانتهم. بريجنيف حاول ان يقنعهم ان الجاسوس قد يكون حقا من هيئة أدنى. “أبدا يجب ان ننتظر “!! أصروا. الضيق وصل أقصاه لدى الرفيق بريجنيف، فجأة حضرت مساعدته الليلية تحمل له وعاء لتفريغ البول.
سألها باستغراب “كيف عرفت أني بحاجة للتبويل؟” ردت المساعدة “أيها الرفيق بريجنيف قبل قليل سمعت خبرا من البي بي سي يقول ان الرفيق بريجنيف في اجتماع مغلق وانه بحاجة ماسة ليبول!!”