لم يطرح المدنيون والمنتفضون شعارات فارغة وعبثية منذ انطلاقة الحركة المدنية، حركة التغيير لواقع العراق المأساوي والكارثي، في أعوام 2011 و2014 وفي تشرين الأول 2019/2020، بل كانت كلها التعبير الصارخ عن وصول حالة العراق وأزماته المستفحلة إلى النقطة الحرجة التي لا يمكن الاستمرار بها، بل لا بد من تحقيق التغيير المنشود والاستجابة لمطالب الشعب العادلة والمشروعة والملحة، فالظلم إن دام دمَّر. ولم يكن نضال المنتفضات والمنتفضين البواسل عفوياً وعبثياً حين أجبروا على تقديم هذا العدد الكبير الذي تجاوز ألـ 700 شهيداً وأكثر من 26000 جريحاً ومعوقاً، بل كان تصميماً على رفض الحالة التي وصل إليها العراق، حيث سادت الطائفية الأكثر جموحاً وعدوانية، والتمييز الديني والمذهبي الأكثر شروراً وقسوة، وحيث ساد الفساد المالي والإداري سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها وهيئاتها المستقلة ومنشآتها المدنية والعسكرية، وحيث أصب ح العراق واحداً من أكثر دول العالم كمكب نفايات فعلي ورثاثة شاملة، مريعة وقاتلة.
لقد كانت ومازالت مطالب الشارع العراقي عادلة ومشروعة حتى وجد السيد السيستاني نفسه ملزماً، لأن الطائفيين والفاسدين من النساء والرجال يتعكزون على تأييده المديد لهم، على تأييد أغلب مطالب المنتفضين والتي أصبحت مطالب الشعب كله، وهي ضد إصرار انخب الحاكمة على مواصلة درب الصّد ما ردّ!
أربعة شهور في الحكم لم يتقدم السيد الكاظمي خطوة جادة وأصيلة صوب الاستجابة لمطالب الانتفاضة الأساسية التي تسمح برؤية البدء بعملة إصلاح وتغيير فعلية، استجابة للوعود التي قطعها على نفسه وتعهد بها للشعب وأقسم على تحقيقها. هذا الواقع جعل قوى الانتفاضة والتغيير تنظر بعين الشك والريبة ونشوء قناعة بأن الكاظمي ما يزال يدور في فلك النخب الحاكمة ولا يقترب من معسكر الشعب الطامح للتغيير.
من هنا بدأت قوى الانتفاضة الشعبية بالتحرك في أكثر من مدينة عراقية، لاسيما في البصرة والناصرية وبغداد … لتعلن عن رفضها لسياسة الكاظمي التي بدا فيه وكأنه راغب ولكنه خجول ومليء بالخشية الفعلية مما يمكن أن يحدث له ولحكومته إن تجرأ على فتح ملفات الطائفيين والفاسدين الكبار الذين أجرموا بحق الشعب العراقي.
وحين أعلن السيد علي السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى، تأييده لأغلب مطالب الشعب وقوى الانتفاضة الأساسية، وجد الكاظمي لديه الجرأة ليقول نعم لتلك المطالب ونعم لتنفيذها! ولكن ماذا فعل الكاظمي بشأن مسألتين مهمتين من مطالب الشعب العراقي وقوى الانتفاضة الشعبية، وأعني بذلك الموقف من المحاصصة الطائفية أولاً، والموقف من الفاسدين مالياً وإدارياً ثانياً؟
بصدد المسألة الأولى أصدر الكاظمي جملة من التعيينات في المناصب المهمة التي تلي مناصب الوزراء من حيث الأهمية. في هذه التعيينات لم يفاوض الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والسنية أو الكردية، ولكنه عين أشخاصاً اختارهم هو من أعضاء وممثلين فعليين من ذات النخب أو الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، أي اختيار طائفي أساساً وقائم على المحاصصة الطائفية غير المباشرة، التي قادت إلى ذات النتيجة المُرّة التي يعاني منها الشعب. والكثير منهم موغل بالطائفية البشعة التي يمكن ذكر اسم واحد منهم هو حسن الشمري الذي قدم المشروع البائس والرجعي لما سمي بمشروع الأحوال الشخصية الجعفري الذي يدوس على حقوق المرأة كاملة. إن هذا الأسلوب الالتفافي غير الذكي على مطالب الشعب لم يرض الشعب، بل هبَّ ضدها، ولكنه لم يرض الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الشيعية والسنية والكردية الحاكمة أيضاً، لأن الكاظمي لم يستشرها مباشرة في هذا التعيين. والغريب بالأمر أن الكاظمي لم يفكر بوجود كفاءات عالية جداً لتلك المناصب في صفوف الشعب والقوى المدنية والديمقراطية والقوى المستقلة النظيفة غير الطائفية وغير الفاسدة، بحيث يعمد إلى تعيينها مستفيداً من تأييد الشعب وقوى الانتفاضة والمرجعية الشيعية لمثل هذه الخطوة لو كان قد اعتمدها.
وبصدد المسألة الثانية عمد الكاظمي إلى تحريك ملفات شبهة فساد على بعض الوزراء والمدراء العامين الذين هم في المرتبة الثالثة أو الرابعة من حيث حجم الفساد المالي والإداري، في حين لم يحرك ساكناً إزاء كبار الفاسدين والمفسدين في الأرض والذين تحدثوا عن وجود فساد في أدراجهم يمكن أن تقيم الدنيا ولا تقعدها! فهل جاء هذا عفو الخاطر أم بتصميم مسبق؟
وبصدد مسألة ثالثة تحتل أهمية فائقة بالنسبة للشعب كله، لاسيما لقوى الانتفاضة وعائلات ضحايا الانتفاضة من شهداء وجرحى ومعوقين واغتيالات واختطاف وتغييب قسري. فقد أعلن القضاء العراقي الخجول عن اعتقال أو ملاحقة 49 متورطاً بالدم العراقي أو جرائم مماثلة، ولكن أين هم المتورطون الأساسيون الذين أصدروا الأوامر باستخدام القوة في ضرب تجمع الخريجين في الأول من تشرين الأول 2019 والذي كان شرارة الانتفاضة الأولى، ومن ثم ضرب المتظاهرين والمنتفضين في بغداد وبقية المدن المنتفضة في جنوب العراق ووسطه بالحديد والنار والذي أطلق على قوى الانتفاضة صفة المخربين. والسؤال مثلاً: أين هو القضاء العراقي من المسؤول الأول في فترة الانتفاضة الشبابية الذي اتهم بكونه جزار الشعب العراقي؟ ,أين القضاء العراقي ممن سلم الموصل ونينوى لعصابات داعش بسياساته الطائفية وإفساده للقوات المسلحة والشرطة؟
لم يكن الكاظمي صادقاً وصريحاً في إجراءاته، بل كان مخاتلاً إلى حد بعيد، وهو أسلوب مدمر لا يجوز الضحك على ذقن الشعب أبداً، كما لا يَقبل به من أراد ترضيتهم من الحكام الطائفيين الفاسدين الذين اعلنوا مباشرة رفضهم لتلك التعيينات، رغم أنها كانت لصالحهم ومن بطانتهم، لأنهم يسون إلى انبطاحه التام لهم.
إن المسائل الثلاث الواردة في أعلاه هي المحك الأساس وهي القادرة على تقطيع أجنحة القوى الطائفية الفاسدة وشل حركتها ضد التغيير المنشود، وهي السبيل لتوفير مستلزمات تعديل قانون الانتخابات بشكل عادل وسليم مشروع وتشكيل مفوضية مستقلة حقاً للانتخابات، أنها الشروط اللازمة لذلك. وبدونها يكون الحديث عن انتخابات عادلة وأمينة ونزيهة حديثاً عن السلاطين وألف ليلة وليلة!! إن أسلوب الكاظمي في ممارسة الحكم يهيء عملياً لانطلاق انتفاضة تشرين الباسلة ثانية في الأول من تشرين الأول 2020، لأنها الطريق لإقناع الحكام القدامى والجدد بجدية الشعب وإصراره على التغيير المنشود..
انطلاق انتفاضة تشرين ثانية ومأزق الكاظمي
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا