الصراع الحضاري هو ما سيحسم الصراع في الشرق الأوسط
نبيل عودة
القوة العسكرية هي استمرار وغطاء للقوة السياسية. هذا منطق عقلاني بسيط. لكن السؤال الجوهري: هل باستطاعة قوة عسكرية ان تفرض ما تراه مطابقا لرغباتها وقمع مصالح شعب او شعوب أخرى؟ او هي، كما تعلمنا من التاريخ، حالة عابرة مهما طال زمنها؟ اين الامبراطوريات التاريخية التي لم تقف أي قوة او عراقيل في طريق انجاز سيطرتها الدولية؟ كيف صعدت وتلاشت حتى بعد استمرار سطوتها لأكثر من 200 سنة؟
في مفاهيم التطور العلمي والتقني والثقافي الشامل بجانبية الإبداعي الروحي والانتاجي للخيرات المادية، يبقى الرقي الحضاري الشامل بكل جوانبه وساحاته، هو الذي سيحسم نتائج الصراع والوقت ليس مقياسا بتاريخ الشعوب.
ورغم أن العالم العربي يتزود بأسلحة بمليارات الدولارات، إلا أننا لم نلمس أن السياسة الشرق أوسطية تأثرت قيد أنملة من هذه الأسلحة. أو أنها نجحت بتغيير المواقف السياسية، بحيث يميل الميزان السياسي لصالح المواقف السياسية العربية، والنموذج الأفضل للمقياس، هو الموضوع الفلسطيني، بكل ارتباطاته بما يجري في منطقة الشرق الأوسط.
صحيح أن مفاتن هيفاء وهبه تشغل العقل العربي أكثر من التخلف العلمي والتكنولوجي للدول العربية، خاصة بالمقارنة مع التحدي التاريخي والحضاري الذي تشكله إسرائيل. ان مسألة توريت السلطة في الأنظمة العربية، أضحت الشاغل الأهم في السياسة العربية. وموضوع النقاب ومحاولة حظره في فرنسا ودول اخرى يجعل عشرات الملايين يتوترون وينتفضون ويعلنون الغضب، لكن اعتبار المرأة ادني من الرجل واقل أهمية، وانتشار واسع للأمية بينهن لا يقلق المجتمعات العربية ولا أنظمتها. كذلك نجد أكبر دولة عربية، مصر، تنشغل بشبه حرب دينية، بحرق كنائس وتفجير باصات حتى لو كانت محملة بأطفال، ذنبهم انهم ولدوا لعائلات مسيحية- قبطية، وتشتعل الخلافات حول مسائل شخصية، مثل ايمان الشخص او الحاده، وكأنها قضية العصر.
كيف يمكن ان نفهم ان دولة مثل إسرائيل، سكانها ما دون العشرة ملايين توظف في الأبحاث العلمية والتكنولوجية أكثر من كل العالم العربي بعشرة اضعاف؟ هذا ينعكس سلبا على التطور الحضاري العربي بالنزوح الكبير والمدمر للعقول العربية للغرب. لذا العجز ليس بالعقل العربي، بل بالسلطة ومخططات التطور والتقدم.
والأخطر لماذا نجحت إسرائيل اقتصاديا ووصلت الى دخل للفرد الواحد من الناتج المحلي السنوي الى ما يقارب 40 ألف دولار، بينما الدول العربية المحيطة بها لم تتجاوز بأحسن الحالات ال 6 الاف دولار؟
ولا بد من العودة لموضوع السلاح في الشرق الأوسط.
كما أراه من وجهة نظري السياسية فأنا، والحمد لله الذي، لا يحمد على مكروه سواه، لم تلامس يدي معدن أي قطعة سلاح.
ان صفقات السلاح للسعودية ودول الخليج، بمئات مليارت الدولارات لم تقلق اسرائيل، ولكن صفقة صواريخ “ياخونت” الروسية المضادة للسفن الى سوريا، اشغلت في وقته السياسيين الاسرائيليين والاعلام الاسرائيلي، لدرجة أن عضو كنيست من الليكود هدد في وقته روسيا بتسليح جورجيا اذا زودت موسكو سوريا بصواريخ ياخونت.
يا خوف عكا من هدير البحر!!
ليس من الصعب أن نصل الى استنتاجات حول هذا التناقض.
من الواضح أن الفرق هو في سلاح يشكل انقلاباً في قدرة التمادي العسكري لإسرائيل. وسلاحاً يشكل تهديداً، لا يطول اسرائيل شيئاً منه، بل يخدم مشاريع لا علاقة لها بأي هدف استراتيجي عربي مثلا حرب اليمن، ولا اتردد من القول ان تكاليف هذه الحرب المجنونة تكلف السعودية وحلفائها أكثر من الاستعداد لمواجهة السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، ضد حقوق الشعب الفلسطيني وضم أراضي عربية محتلة، الجولان مثلا، وأكثر من أي دعم لقضية الشعب الفلسطيني، المسماة كذبا “قضية العرب الأولى”.
الاحتجاجات على تسليح الجيوش العربية تخلق وهماً في الشارع العربي، بأن التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل بات وشيكاً.
الحقيقة أكثر بعداً بملايين الأميال.
أفهم أن القلق الاسرائيلي ليس من تغيير أي توازن عسكري أو سياسي، صواريخ “ياخونت” لن تغير من السيادة العسكرية المطلقة لإسرائيل في الشرق الأوسط، وكل ما قد ينتج عن “الياخونت” والمضادات للطائرات، أو الصواريخ المتعددة الأسماء والاستعمالات، هو التسبب بخسائر مؤلمة أكثر، ولكنها في حسابات الجنرالات تظل خسائراً هامشية وغير حاسمة في الحروب التي تملأ خططها جوارير الحرب الاسرائيلية وعقول جنرالاتها.
لا أظن أن هناك انسان عاقل واحد، بغض النظر عن دينه أو قوميته أو جنسه أو لونه، يرى بالحرب طريقاً للخلاص.
حتى اليوم ثبت أن كل حرب، قادت الى حرب اسوأ، وكل انتصار قاد الى مآسي مؤلمة أكثر، وكل هزيمة قادت الى بناء قوة أعظم لدي الطرفان المتصارعان. وما شاهدناه في شرقنا يثبت أن الانتصارات لم تعد متاحة لأي قوة عسكرية، مهما ملكت من أسباب التفوق. سيكون هناك مهزومين فقط… والبعض مهزومين أكثر ليعيدوا بناء قوتهم بمقاييس ومفاهيم أعم وأشمل، وبتنا نعرف أنه لا حدود للقوة، الا الإبادة المتبادلة.
القلق الاسرائيلي من تزود سوريا بصواريخ، أو تزود إيران بصواريخ أخرى او انتاجها الخاص، يشير فقط الى أمر واحد لا يمكن تجاهله. ان اسرائيل تريد تخفيض خسائرها في الحرب القادمة…!!
أي أن كل فرص الوصول الى حل سلمي هي ثرثرة.
كما افتتحت مداخلتي، باني لا ألم بالقضايا العسكرية، الا بما تشكله من تعزيز للمكانة السياسية، وفي حالتنا للوقاحة الاحتلالية والشوفينية القومية المنفلتة بدون عقل، وقد باتت تقلق أوساطاً عقلانية واسعة جدا في المجتمع الإسرائيلي ايضا ومن كل الاتجاهات السياسية.
لست واهماً بقدرة صواريخ معينة على قلب التوازن الاستراتيجي. القوة ليست بقدرة أي صاروخ على اصابة هدفه.
من هنا رؤيتي أن الصراع في الشرق الأوسط، يجب أن يتجه نحو ساحات ابعد ما تكون، شكلياً على الأقل، عن مفاهيم القدرات العسكرية المباشرة لأي جانب في الصراع الشرق الأوسطي الذي تعددت رؤوسه وساحاته.
ما سيحسم الصراع الشرق اوسطي في أوضاعه السائدة اليوم، لن يكون الجانب العربي. ولا أقول الجانب الاسرائيلي مطلقاً. ولكن الحسم لن يكون بعيداً عن تلبية العديد من المصالح الاستراتيجية لإسرائيل، حتى لو لم يبرز ذلك في الاتفاقات الرسمية من دول لا شيء يربطها بقضايا العالم العربي، حقبة النفط اغرقتهم بأموال سهلة، لا تقلقهن فلسطين ولا مصير العالم العربي. المهم ان يتواصل التوريث من امير الى امير ومن شيخ الى شيخ ومن ملك الى ملك، ولا ابالغ بالقول من رئيس جمهورية الى وريثه بالرئاسة.
المحرك الأساسي لصراع القوى في الشرق الأوسط، هو “المحرك الحضاري”. لا أنفي أهمية تأثيره على بناء قوة الدول العسكرية. ولكن ليس شرطاً أن نرى بالمحرك الحضاري، الجانب العسكري فقط.
وأقول بوضوح أن التخلف العربي أمام اسرائيل، في العلوم والأبحاث والاختراعات هو “المحرك الحضاري” الذي يبقي العالم العربي بعيداً عن التوازن الحضاري مع اسرائيل، وبالتالي عاجزاً عن انجاز تطلعاته السياسية، بدون ضرورة للاعتماد على قوته العسكرية كعامل وحيد.