أوربا وصراع الأمم
في عالم الصراعات الوجودية يشار لأروبا بأنها أكثر المناطق احتداما بتلك لصراعات من أسباب قومية إلى أسباب عنصرية ودينية، حتى وصلت مرحلة مهمة بشرت بميلاد العلمنة وعصر التنافس الأقتصادي، وهي مرحلة خروجها من حدودها الجغرافية نحو العام الجديد وبداية مرحة الاستكشاف والغزو الاستعماري الذي ظهر في أساسه لأول كنتيجة من نتائج حروب الصليبية وإنكفاء أوربا عن الشرق، فكان لا بد لها من عالم جديد تفرض فيها الأنا المشتركة المتضخمة بالصراعات والبحث عن متنفس لها بعيدا عن الأختناق الجغرافي التي عاشته في مساحتها المتضايقة بالقوميات والسلالات الأثنية والمذاهب والصراعات القومية والدينية، وقد تعلمت نتيجة الاحتكاك مع الشرق المسلم أن الصراع القديم بقوانينه الكلاسيكية لم يعد قادرا على توفير شروط الصراع الكوني بالصورة لتي يخدم هدفها المعلن لا فكريا ولا استراتيجيا.
ومن نتائج ذلك أيضا كدرس تعلمته أوربا أن العناوين الكبرى للصراع لا بد ان يحدث فيها تطور وتبدل في الشكل والمضمون كلما تغيرت الظروف أو عامل الزمن، فالصراع ليس واحدا دوما ولا من نوع وشكل موحد فهو أولا وأخيرا نتاج عوامل متحركة داخل المجتمعات ويتغير تبعا لتغيرات قواعد الحركة فيها وأسبابها، ولكي تكسب الصراع تحت شعار براق وتقنع به قطاعا واسعا من المؤيدين عليك أن ترسم عليه وشم أسمه الحرية، لكن ومن دون أن تعلن سيكون ذلك بذاتية متضخمة في الذاكرة وإسقاطاتها وساحتها حلبة الصراع، وعلية متزعم الصراع الجديد أن يتذكر هذه الفكرة أو الرؤية (لقد أعادت الذاكرة الإنسانية هذه الصورة من الحرية الأوربية مشهد الحروب الصليبية والصراع بين الشرق والغرب، الصراع الذي يدور بأدوات مادية وأسلحة فكرية ولكنه في جوهره صراع وجودي، صراع تزاحم وتنافس حضاري بين القيم المادية التي دوما يبشر بها الغازي الأوربي وبين القيم الروحية والأخلاقية التي يمثلها المحارب الشرقي. ).
لقد تحول الصراع الوجودي الحديث من صراع أوربي قومي ديني إلى أوربي أقتصادي سياسي أسبابه محلية وذاتية إلى صراع أوربي بالهوية إلى أوربي كوني عنوانه العالم الجديد عالم المستعمرات والمستوطنات، عالم ترى فيه أوربا نفسها رجل العالم المتحكم بمصدر القوة العسكرية والأقتصادية واللوجستية، وهي بمواجهة إمبراطوريتين متهالكتين تبحثان عن أسبب البقاء خارج مجالهما الصحيح وهما الإمبراطورية الروسية القيصرية والإمبراطورية العثمانية التركية، فكان العمل على إجهاض مشروعيهما لا يمكن أن يتم خارج حصارهما أولا في الحدود الجغرافية ومن ثم احتوائهما عسكريا وتقنيا.
هذا الصراع لم يعفي أوربا من امتدادات الحرية في داخلها ولا من نتائج تبنيها لفكرة العالم الحر خارجها، مع وجود فكر تنويري يقود الصراع داخليا ضد الكنيسة وأفكارها الأصولية، وميلها المحافظ مع بقاء ارتباطها بقوة وسطوة ملاكي الأرض وأصحاب السلطة من ملوك وأباطرة، هذا الحراك الفكري كان مدعوما من نفس القوى التي قادت التوسع خارج أوربا ودعمته بكل قوة لتخوض معه معركتها النهائية ضد الكنيسة وحلفائها، فكانت الثورة لفرنسية بمقدماتها ونتائجها عنون هذا الصراع، كما كانت صورة الحروب الصليبية تمثل فشل أوربي حقيقي قادته الكنيسة بعنوان الله يؤلب أوربا ويؤلمها كهزيمة تأريخية لها بشكل عام، إنه صراع العلم والفكر مع الإرث الديني الكهنوتي وانتقاما لكرامة أوربا من الكنيسة التي سوقت لها ولم تتحمل نتائجها على الأرض.
الثورة الفرنسية كحدث تعدى حدوث الجغرافيا والتاريخ وحتى الفكر والمعرفة والسياسة والدين لم تكن لفرنسا ككيان ولا للمجتمع الفرنسي كشخصية أجتماعية مميزة، بل كانت إنقلابا أوربيا شاملا تمثل بأولى ردات الفعل منه على الكنيسة، وعلى فكرها الكهنوتي واللاهوتي السلفي إن جاز التعبير، بما احتوت من قوة دافقة ودافعة نشطت الذاكرة وقلبت موازين القياس عند الشخصية الأوربية عموما نحو بحث وتأصيل منهج مغاير أخر، منهج يعتمد الواقعية الفاعلة والعقلانية الفارضة المتحدية بحرارة الفعل الثوري الإنقلابي بدل التسليم الأعمى لمقولة الكنيسة وترويج لمفهومية الحكم لمطلق وقداسة السلطة، وهذا ما يفسر قدرتها على تجاوز الجغرافيا والحد الأجتماعي الذي حدثت فيها، وأيضا قوة التأثير الصادم لها في العقل الأوربي الديني والفكري والسياسي وصولا إلى المحرك المدني العلماني وهو العامل الأقتصادي الذي كان ينمو ببطء في شمال غرب القارة، والذي سيتولى لاحقا جني كل المكاسب التاريخية التي أثمرتها الثورة الفرنسية.
إذن شهدت أوربا قدرا من الحراك التجديدي الذي لم تألفه من قبل مكنها من أن تستعيد الشخصية المتوازنة بقلقها وبحراكها المتواصل، حدثان مهمان قدما وصاغا مفهوم الشخصية الواحدة المستقلة التي نحاول اليوم أن نجعلها معيار حداثيا لنا ومقياسا للرقي الحضاري، وهما خروج أوربا من جغرافيتها الإقليمية وبالتالي من تعلق بالتاريخ وصراعاته المحلية، والأخر خروج الفكر الأوربي من قداسة الإرث الديني الكهنوتي الذي لم يعد قادرا على مواجهة الحركة التجديدية بشقيها الثوري العنيف والإصلاحي الهادئ، تمثل النمط الأول من الخروج بما يعرف بعصر الاستكشاف والأستعمار الأوربي خارج القارة والذي مثل تنفيس للذات الأوربية المتضايقة أن تفرز صراعاتها ومعاركها داخل البنيان الإقليمي المحدود، مما مكن من نشوء نوع من الأستقرار في العلاقات الأوربية البينية، والذي وفر بيئة جديدة تتجه نحو منهج مغاير من التنافس والصراع السلمي هذه المرة، وهو الصراع التقني والفلسفي المرتبط بنشوء عصر العلمانية والقومية والقيم التي أنتجها بداية مرحلة تصنيع أوربا.
والخروج الثاني بالثورة الفرنسية وامتداداتها ما مثله حصاد باريس الأوربية وليست باريس الفرنسية من نتائج (الثورة الفرنسية أسست لكينونة فكرية هي اكثر إنسانية طبقا لما في الواقع الأوربي من وقائع تشخصنت صيرورتها في الذات الأوربية، وهي وليدة حالة ثورية فكرية والعامل الروحي والشخصي بصفته الفكرية والفلسفية حاضر بقوة، فهي نتاج إنساني أجتماعي خالص، وليس فرض واقع أفرزته قوى مادية خارجية أو طارئة، لذا نجد أن مبادئ الثورة الفرنسية لا زالت تشكل مصدر مهم وحيوي يتعايش مع كل التقلبات والتحولات والتبدلات دون أن تفقد بريقها ولا تتخلى عن إنسانيتها) .
هذا التحول الأوربي لم يكن تحولا محدودا بتاريخ أو بجغرافية أو بواقع أجتماعي بحاجة لتطور وهو غير قادر على أنتاج تفاعلات هذا التطور، مما يستوجب عليه أن يخضع لعوامل ومؤثرات ومحركات خارجيه تساعده على ذلك، كما أن العنصر الثوري الذي ولدته الثورة لم يكن مختلا في جوانب من الواقع الأجتماعي ونشطا في جوانب أخرى، الثورة بالشكل الذي حدث في فرسنا هز الضمير الأجتماعي كاملا كما يضرب الزلزال منطقة جغرافية فيوزع أثره بشكل متناسق، فباريس وحدها كان يكفي أن تتأثر بزلزال الثورة وهزاته العنيفة لتطيح بالنظام السياسي مرة واحدة وينهار الترابط الوثيق مع المؤسسة الدينية الكنسية والمؤسسة الإقطاعية بكل مكوناتها، هذا وحده كان كافيا ليهز كل المجتمع الفرنسي والأوربي بقوة ليخلخل النظام الأجتماعي العام مرة واحدة.
هذه المقدمة الطويلة أفضنا في الحديث عنه توطئة وتقديم للسؤال الذي كثيرا ما نسمعه أ نتداوله كباحثين وكأفراد مجتمع، لماذا تطورت أوربا نتيجة الثورة الفرنسية وما رافقها من تحولات، بينما لم يتطور المجتمع العربي لا تأثيرا بها ولا بالثورات التي حدث في المجتمع العربي؟ هذا السؤال الذي كثيرا من حاول الباحثون والكتاب تبرير الإجابة عليه بشماعة الدين والبداوة وووو إلخ من العناوين، مع ملاحظة أن كل الأنتكاسات الأجتماعية في المجتمع العربي حصلت نتيجة هذه الثورات، ولنضرب مثلين أيضا في مصر والعراق، وتحيدا في أوائل وأواخر الخمسينات والتي أعتبر فترة الخمسينات هي الحد الفاصل في التغيرات الأجتماعية العميقة في هذين البلدين.
في 23 تموز عام 1952 حدث ثورة مصر الأولى التي أزاحت النظام الملكي وجاءت بالنظام الجمهوري ليحكم مصر، وبالرغم من الإيجابية التي يراها الكثيرون من حدوث هذه الثورة بقيادة الضبط الأحرار، لكنها لم تستحق تسمية ثورة بالمعنى الذي تطرقنا له في دراستنا للثورة الفرنسية، الثورة حتى تكون قادرة على التغيير لا يجب أن تتوقف عن الأطر السياسية والدستورية كما حدث في مصر، لقد كانت مجمل أنجاز هذه الثورة طرد العائلة المالكة وإجلاس الضباط والعسكر بدلا منهم في القصور الملكية، هذا الكلام ليس أستهانة بالتغيير ولا بمن يعتبر الحدث ثورة، لأنه لم تحدث تغيراتها المفترضة والقادرة على تحويل المسار الأجتماعي نحو التطور والتجديد.
من نتائج ثورة تموز في مصر كان محاربة البرجوازية الوطنية التي قادت قطاع التصنيع في مصر، وهي بالذات وتأثيراتها من قادت علمنة المجتمع المصري، حينما أنتهجت الفلسفة والخيار الاشتراكي لقيادة أقتصاد مصر، هنا أحست البرجوازية الوطنية أنها هي المستهدفة من التغيير وليست الملكية وعليها المغادرة والهرب، هذا التحول أيضا ولأسباب قد تكون غير طبيعية أبرزت نوعا من الصراع بين توجهات دينية مذهبية مدفوعة بعوامل خارجية بعنوان محاربة الشيوعية والأشتراكية، لتجذب طبقات ذات مناشئ فقيرة أو مهاجرة أو قروية تحمل معها روح الريف المصري لتكون نواة مغرر بها وجذبتها لمراكز المدينة وحولتها لأدوات في الجهاز التنفيذي للدولة ومؤسساتها بغرض السيطرة الحثيثة عليها، عندما تسيطر هذه الطبقة وتفرض قانونها وفهمها وهي الأقرب إلى الأمية المدنية ونصف جاهلة وغير متعلمة للإنخراط في أتون صراع سياسي وديني، لا تبالي بالنتائج ولا تتحسب لتأثيرات هذا الصراع على تطور المجتمع.
مشكلة مصر الأخرى والتي لم تنجح فيها الثورة بأن تكون فاعلة في التغيير الأجتماعي والحضاري العميق والجوهري والجذري هو أشتراك مصر في النزاع العربي الصهيوني، هذا الصراع وتأثيره العام أوقف كل المحركات الأجتماعية التغييرية لصالح حلم الأنتصار وهزيمة الكيان الصهيوني، مما أخر طبيعيا أي أهتمام أو الإنشغال بالصراع الأجتماعي بدل الصراع السياسي، خاصة وأن قادة الثورة كانوا هم من الضباط ومن المؤسسة العسكرية التي تتحمل بشكل أساسي وزر هزيمة عام 1948، فالثورة لم تكن ثورة أجتماعية حقيقية بل كانت تبريرا للهزيمة ومحاولة المؤسسة العسكرية أن تمسح أثار الهزيمة، لذا لم يكن بمقدورها أن تنجح فيما نجحت به ثورة تموز الفرنسية.
أما في لعراق والذي شهد نسخة أخرى من ثورة تموز المصرية فلم تكن النتائج تختلف هنا ولا المؤديات والأسباب تختلف، كل الذي حصل هو أيضا كان تحت تأثير ردة الفعل العسكرية التي ولدتها نتائج العدوان الثلاثي على مصر، وكردة فعل لأرتباط النظام السياسي العراقي الملكي مع بريطانيا أحد أقطاب هذا العدوان، فقد تحركت المؤسسة العسكرية العراقية للإنتقام من الملكية ومن بريطانيا، إذا ما حدث لم يكن زلزالا عميقا ولا محركا أجتماعيا جوهريا وجذريا في عمق روح المجتمع العراقي، والدليل أن ما حدث في الرابع عشر من تموز ليس إلا تغيرا سطحيا لم يلامس جوهرية المشكلة العراقية ولم ينجح في جر الواقع للتغيير المدني ولحضاري، وأيضا أنه وبالرغم من الخلاف السياسي مع ثورة مصر، إلا أنه سار على نفس النهج السلطوي العنفي ضد الخصوم والمنافسين السياسيين وبنفس التوجهات الأشتراكية المزعومة دون أن تحقق نتائج على الأرض، صاحب هذا التسطيح هجرة قروية رهيبة نحو العاصمة بشكل خاص وللمدينة العراقية بشكل عام، مما حمل معه تأثيرا عكسيا ونكوصا أجتماعيا ساهم في فشل الثورة كما يسميها قادتها ومناصريها، من خلال إبعاد ومحاربة العنصر العلماني المدني القادر على بناء دولة حديثة والذي كان جزء مهم من النظام الملكي وهو في طور النشأة والتجذر، وتم أستبدال الطبقة السياسية والإدارية والعلمية والتعليمية في بغداد ومراكز المدن بالمهجرين والمهاجرين ليمارسوا زرع القيم الريفية والقروية التي تتناقض مع جو ومنهج المدينة، ولتتحول مفاصل الدولة التي نشأت مدنية في العهد الملكي إلى محميات حزبية وعشائرية وقروية.
إذا في المجتمعات العربية والإسلامية ومنها العراق لم تشهد هذا التحرك والحراك الفرنسي الذي يقض مضاجع المؤسسات الثلاث ويعيد صياغة منهج ملائم مستجيب وفاعل، ولم تظهر نظرية مؤسسة ولا فكر نخبوي قادر على فعل كل ذلك في الواقع المتخلف والمتردي، مع غياب التحالف الجديد الأقتصادي الأجتماعي الفكري الذي يرفع الحرية عنوان تحت مطلب التحديث والحداثة، بل ظل مستوى أدائهما فعالا حتى متصف القرن الماضي كما أسلفنا، وما زال يمارس بقوة وشراسة الحفاظ على ركائزه المتينة، وهي نفس الفترة التي ظهر فيها الوردي مفكرا وباحثا ومعريا لواقع المجتمع العراقي ملتقطا الظواهر ومعلل لها بالنظرة المستقاة من استقراء نتائج وليس استقراء لأسباب عميقة، رابطا كل ذلك بنظرية ابن خلدون صراع البداوة والحضارة، الصراع الذي لم يكن له وجود حقيقي في المجتمع، بل هو صراع تاريخي جغرافي بين الأنا المستسلمة للماضي وحاجتها للعيش بالزمن الحاضر ودون أن يتمكن أحد من صياغة مخرج لهذه الإشكالية الأجتماعية ولليوم.
أظن أن مصطلح الازدواجية أو الأنفصامية السلوكية كان غير مناسب وغير حقيقي في استخدامه العام الذي أشاعه الدكتور علي الوردي، لا من حيث الدلالة ولا من حيث المفهوم الخاص به كمرض نفسي قبل أن يكون عاهة أجتماعية، فهو أصلا يمثل من الناحية العلمية مرضا سيكولوجيا يعني الشعور المتناقض بأثره السلوكي اللا مختار في وضع يصعب السيطرة أو التحكم به من المريض، وهذ ما لا ينطبق على الظاهرة التي درسها بالفعل وأراد لها أن تشكل وعيا مجتمعيا يشكل نقطة أولى في إيجاد الحل لها (ان الدكتور اراد من مصطلح الازدواجية في احيان كثيرة هو ذلك المعنى الذي يشير الى ان الفرد العراقي واقع بين معادلتين صعبتين في حياته الانسانية الاجتماعية).