القائمة السوداء…
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
تسعى الدول العظمى دائما الى محاربة الاقتصاديات الناشئة في الدول النامية بشتى الطرق والوسائل، بهدف قتل روح المنافسة في الانتاج السلعي العالمي، وضمان سيطرتها على السوق العالمية، وتامين استمرار تدفق راس المال الاجنبي اليها، الذي يساعد في تنشيط الاقتصاد المحلي، ويخلق فرصاً اضافية للعمل، والإبقاء على الدول النامية سوقا استهلاكية من الطراز الاول تعاني من عقم في الجانب الاقتصادي الانتاجي.
ان شهوة التفوق الاقتصادي ونزعة التدمير للآخر تدفع الدول العظمى الى خلق الحجج وتوجيه الاتهامات الى الدول النامية بامتلاكها للأسلحة النووية والكيمياوية والجرثومية التي تهدد الامن والسلم العالمي، الى جانب خلق الازمات والصراعات فيها، لإيجاد واقع مرتبك ومضطرب مشحون بالعنف، يمهد الى اجراءات فرض العقوبات الاقتصادية والعسكرية عليها من خلال مجلس الامن الدولي واللجان التابعة له، والذي من ضمن صلاحياته اجازة شن الحروب تحت ذرائع مفتعلة في كثير من الحالات يمهد للتدخل المباشر في شؤون الدول والتحكم بإرادتها سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
ويعد انهيار الدول من خلال الاحتلال المباشر بمثابة حجة لقيام الدولة المحتلة للضغط باتجاه وضع كافة المؤسسات الاقتصادية للقطاعين العام والمختلط والعسكري في “القائمة السوداء” في مجلس الامن الدولي/ لجنة العقوبات، ولمدة تتراوح بين (٥-٢٥) سنة او طويلة الأمد، تعمم لاحقا على الدول الاعضاء في الامم المتحدة تحذرها من عدم التعامل مع هذه المؤسسات لكي تندثر بالتقادم الزمني، وغالبا ما يجري ذلك عن طريق طلب سلطة الاحتلال الحاكمة أو السلطة المحلية وعن طريق القنوات الدبلوماسية ليكتسب الاجراء الصفة القانونية القطعية، تحت ذريعة منع التصرف بالأموال المنقولة وغير المنقولة لهذه المؤسسات في الداخل والخارج، او حال كونها مؤسسات للتصنيع العسكري ويجب حظرها.
وتنص شروط “القائمة السوداء” في اغلب الاحيان على تجميد اموال المؤسسات في الخارج ومنعها من الانتاج والتصدير، ولا يجوز للدولة اعادة تشغيلها او طرحها للاستثمار الا بعد تقديم طلب رسمي الى مجلس الامن الدولي عن طريق القنوات الدبلوماسية لرفعها من القائمة السوداء، والذي يشترط انتهاء المدة القانونية المحددة في طلب الدولة او سلطة الاحتلال الذي وضعت بموجبه مؤسساتها الاقتصادية في القائمة السوداء، مع امكانية رفع عدد قليل جدا من المؤسسات “غير الانتاجية”، كالبنوك وهيئات التنمية الاقتصادية المدرجة في القائمة قبل انتهاء تلك المدة، لغرض تمشية الامور الادارية والمالية المتعلقة بالجانب الاقتصادي القائم على استيراد البضائع والسلع من الخارج.
ان استمرار وضع المؤسسات الاقتصادية والشركات الانتاجية في “القائمة السوداء” للفترة القانونية المحددة في طلب سلطة الاحتلال او نظام حكم الدولة المحتلة الموجه الى مجلس الأمن، والتي لا يمكن تغييرها، سيؤدي بالنتيجة الى تهالك المؤسسات الانتاجية، ورفع نسبة البطالة بسبب غلق هذه المؤسسات وتسريح العاملين الفنيين فيها، الامر الذي يجعل اقتصاد الدولة وحيد الجانب ومعرض للهزات والأزمات الاقتصادية، بعد ان تتجه الدولة عن قناعة الى الاستيراد الخارجي لسد حاجة السوق المحلية من السلع الاستهلاكية، والذي ينتج لوبي اقتصادي من التجار الجشعين المستفيدين من عملية الاستيراد، لهم حضوة وتأثير في مطابخ صنع القرار السياسي والاقتصادي للدولة، خاصة حين تصبح المؤسسات الانتاجية قديمة ومتهالكة وبحاجة الى اموال طائلة لإعادة تأهيلها بعد ان عفى عليها الزمن وتم تسريح موظفيها، مما يؤدي الى استشراء البطالة الفنية وغير الفنية في المجتمع، وتكثر البطالة المقنعة في المؤسسات الاقتصادية الاستهلاكية، وأصبح سعر السلعة المستوردة ارخص بكثير من سعر المنتج المحلي.
وبذلك يتحول اقتصاد الدولة من اقتصاد انتاجي الى اقتصاد ريعي احادي الجانب، يعتمد على استخراج المعادن في الدول النفطية، والتمويل المالي الخارجي كالقروض التي تكبل الدولة بالديون وتحجم حركتها الاقتصادية، والذي ينتج وضع اقتصادي داخلي خارج عن سيطرة الدولة لعدم قدرتها على اعادة تفعيل عمل المؤسسات الاقتصادية الانتاجية لاستيعاب اعداد البطالة التراكمي على مر السنين المنصرمة، بسبب انهيار القطاعين الصناعي والزراعي، والذي ينذر باندلاع صدام بين الشعب الذي يطالب بحق العيش والنظام السياسي المرتبك بسبب شحة الحلول، والذي يهدد بانهيار منظومة الدولة واستقرارها السياسي والاقتصادي والأمني.
وهنا لابد أن يبرز دور المؤسسة الدبلوماسية بالتحرك الفعال من خلال قنواتها الدبلوماسية في البحث والتحري القانوني، وتقديم الحجج القانونية، التي تؤكد بان الدولة كانت في فترة ادراج مؤسساتها الاقتصادية في القائمة السوداء ترزح تحت الاحتلال الأجنبي، ولم تكن كاملة السيادة وذات شخصية قانونية ومعنوية بالمعنى القانوني العام والعرف الدولي، الذي يؤهلها اتخاذ مثل هكذا قرارات مصيرية تضر بالمصلحة العامة للبلد، والتي تعد مسوغات قانونية تساعد في رفع مؤسسات الدولة الاقتصادية ذات الانتاج المدني من “القائمة السوداء”.
حيث يتطلب ذلك التنسيق المسبق مع النظام السياسي الحاكم لإعطاء الضوء الاخضر للتحرك بهذا الاتجاه، خاصة بعد ان تبدا الدولة تشعر باستقرار الوضع السياسي والأمني من ناحية، وبدء بوادر تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي من ناحية أخرى، والذي ينذر بعواقب وخيمة، باعتبار ان النشاط الاقتصادي من اهم مرتكزات العمل الدبلوماسي للبعثات في الخارج لتنشيط اقتصاد الدولة من خلال تشجيع دخول المستثمرين ورؤوس الاموال لإعادة تأهيل المصانع الانتاجية وإنشاء المدن الصناعية “الممولة ذاتيا” التي لها القدرة على استيعاب البطالة التراكمية والمساهمة في تعظيم موارد الدولة.