الدبلوماسية والسلام المسلح
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
يلعب الحراك الدبلوماسي على مر التاريخ دوراً بارزاً ومهماً في تنشيط العلاقات الدولية وإرساء السلام والصلح بين الامم والشعوب، حيث تجسد دور الدبلوماسية الإنساني، باعتبارها السياسة الناعمة التي لا تؤمن باستخدام العنف لحلحلة القضايا، في انهاء حرب الثلاثين عاماً التي أنهكت اوروبا في القرن السابع عشر بين عامي (1618-1648) وتحقيق السلام بموجب معاهدة وستفاليا Westphalia الشهيرة التي وقعت في 24 تشرين الاول عام ١٦48بين الاطراف الاوروبية المتحاربة.
وتعد معاهدة وستفاليا اقدم المعاهدات الدبلوماسية التي أنشات الدولة الاقليمية ذات السيادة، وأسست بداية للنظم السياسية الدولية المعاصرة، وكانت فاتحة لدبلوماسية عقد المؤتمرات بين الرؤساء والملوك والأمراء، وأقرت نظام البعثات الدبلوماسية الدائمة بعد ان كانت مؤقتة، وبلورة فكرة توازن القوى، باعتبار ان الدول الأوروبية اخذت تنتهج عن قناعة السياسة الناعمة والفاعلة لإرساء السلام في القارة الباردة التي مزقتها الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت ورغبة الزعامات السياسية المتحاربة بالانفراد في قيادة أوروبا في تلك الفترة.
ونتيجة لتلك الاحداث عُدت الدبلوماسية في نظر المفكرين والباحثين في المجال السياسي والأدباء الغرب مصدرا من مصادر التطور والنهوض الحضاري والفكري للأمم الحية، رغم اعترافهم بان الدبلوماسية لا تستطيع في كل الاحوال تحقيق السلام في العالم دون ان تكون هناك قوة داعمة لمساعيها الحميدة، والتي دائما ما تكون سيف ذو حدين بين الدول القوية والدول الضعيفة، وعليه اعتبر شعار “السلام المسلح” واحداً من تلك الافكار التي طُرحت في الادب الالماني الحديث في القرن التاسع عشر من خلال المحاكاة الشعرية بأسلوب أدبي جميل، والتي كان القصد منها التركيز على أهمية ان تكون مسلحا بالقوة كداعم للحراك الدبلوماسي لكي تفرض السلام.
وطُبق هذا الفكر بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية، حيث رسخ البريطانيون والأمريكان والألمان والروس مبدأ التلويح باستخدام القوة في مناقشة القضايا العالمية بعيدا عن دور الدبلوماسية الناعم لتحقيق الأهداف. ومنذ ذلك الحين حل شعار “السلام المسلح” كبديل للحوار الدبلوماسي الهادئ والهادف لحلحلة القضايا العالقة بين الدول، وأصبح شعار التلويح باستخدام القوة هو السائد في تحقيق الاهداف التي يسعى اليها كل طرف من اطراف الصراع حسب ما يمتلكه من نفوذ سياسي وقوة اقتصادية وعسكرية ضاربة.
ولذلك أمست الكثير من القضايا الدولية بين بعض الدول المتكافئة نوعا ما من حيث القوة العسكرية معلقة ليس بمقدور الحراك الدبلوماسي حلحلتها، كقضية جزر (الكوريل) بين اليابان وروسيا، وقضية التداخل الحدودي بين روسيا والصين التي دامت اكثر من اربعين عاماً، وقضية كشمير بين الهند والباكستان بعد تقسيم الهند سنة 1947، واستمرار الصراع بين الكوريتين (الشمالية والجنوبية) بعد اندلاع الحرب بينهما للفترة من 1950 الى 1953 التي لم تنته بتوقيع اتفاق سلام لحد الآن، وقضية الجزر بين الامارات وإيران، وقضية جزر فوكلاند بين المملكة المتحدة والأرجنتين، جنوب غرب المحيط الاطلسي، حيث مازال الصراع قائما بين الطرفين بعد مرور 34 عاماً على انتهاء الحرب بينهما.
ونتيجة لما تقدم عُدت الاتفاقيات المعقودة بين “دولة الاحتلال” و”الدولة المحتلة الفاقدة للسيادة” على انها تفتقر للشرعية الدولية باعتبارها أُبرمت في ظروف استثنائية لم يكن احد اطرافها يتمتع بالأهلية القانونية التي تمكنه من التوقيع بحرية على المعاهدات والاتفاقيات الثنائية ومتعددة الاطراف التي تتعلق بمستقبل العلاقات الدولية لتلك الدولة مع دولة الاحتلال ودول الجوار الإقليمي، خاصة فيما يتعلق بحدودها الاقليمية البرية والبحرية ووحدة اراضيها الوطنية باعتبار انها وقِعت بإكراه احد الاطراف او عدم أهليته القانونية المعنوية لإبرام مثل هكذا عقود دولية.
وعليه يلجأ الطرف الضعيف في المعادلة، والذي يتمتع بالحنكة السياسية لكنه لا يمتلك القوة الضاربة للمحافظة على التوازن في الحوار لتحقيق المصالح المشتركة او المصالح الوطنية قدر الإمكان، الى المناورة الدبلوماسية وحرق المراحل في المفاوضات والعمل قدر الامكان على إدراج بند في الاتفاق يجيز لأحد الاطراف الطلب عبر القنوات الدبلوماسية بإعادة صياغة بعض بنود الاتفاق بعد مرور سنة او سنتين الى خمسة سنوات بهدف كسب الوقت والتمكين حين تكون الدولة قادرة على التفاوض في ظروف طبيعية تحفظ لها سيادتها وهيبتها وحقوقها بعيدا عن ارهاب الدولة المارقة التي تستخدم القوة المفرطة في العلاقات الدولية كداعم للحراك الدبلوماسي في المفاوضات لتحقيق الاهداف.
ولذلك يُحتم على الأنظمة السياسية في الدول التي تتعرض لاحتلال أجنبي أتى على سيادتها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والأمنية وحجم عمل هيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية او تعرضت لازمات سياسية واقتصادية جعلتها في وضع سياسي غير مستقر، أن تتجنب الدخول باتفاقيات ومعاهدات ثنائية ومتعددة الاطراف متوسطة وطويلة الأمد، والتي من شأنها أن تكبل الدولة في المستقبل وتهدد سيادتها وأمنها القومي ووحدة أراضيها وحدودها الاقليمية البرية والبحرية وتبدد ثرواتها الطبيعية، لأنها في تلك الحالة سترهق كاهل الاجيال المقبلة التي ستتحمل التبعات القانونية والمالية التي ستترتب على تلك الاتفاقيات والمعاهدات التي أُبرمت في ظل أوضاع سياسية واقتصادية وأمنية مرتبكة حُجم فيها دور الدبلوماسية في تحقيق السلام المسلح.