الدكتور زاحم محمد الشهيلي
دخلت المخططات الغربية حيز التنفيذ لاستعباد الشرق الأوسط العربي مع بدء الحروب الصليبية في القرون الوسطى بقيادة الكنيسة بعد افول نجم الإمبراطورية الإسلامية وتحولها إلى دويلات يحكمها مماليك ضيعوا الدين والدولة حين غرهم الجاه والسلطان، حيث أقيمت على ركام الإمبراطورية الإسلامية المملكة المسيحية المقدسة في الشرق (القدس)، والتي انهارت فيما بعد على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، الذي خاض حروبا داخلية دامية ليوحد المسلمين في الشرق الأدنى لمواجهة الغزو الغربي وتحرير القدس سنة ١١٨٧م . لكن الغرب لم يستسلم للهزيمة واستمر في وضع المخططات لاستعباد العرب، حتى قامت الحربين العالميتين الأولى والثانية التي انتهت بتقسيم الوطن العربي الكبير إلى دويلات مستضعفة عام 1916 لتسهيل عملية السيطرة عليها، بعد ان صنعوا لها أنظمة تدين اليهم بالولاء التام، عدوة لتطلعات الشعوب العربية في التطور والرقي والعيش الرغيد، وموالية ومنفذة لرغبات الغرب في التدمير والتخريب والقتل والإجرام والفساد الأخلاقي والإداري.
وانبرى الغرب في تنفيذ مخططاتهم في المنطقة العربية، فبعد ان اهدوا فلسطين إلى اليهود عام 1917 وهجروا العرب منها، احتلوا العراق عام 2003 ودمروا الدولة بشكل كامل، واطلقوا يد بلدان الجوار والمجاميع الإرهابية ( القاعدة وداعش) لتعبث بالنسيج الاجتماعي والموارد الاقتصادية والبشرية لتبقى الدولة العراقية خاوية على عروشها والشعب بين مطارد ومشرد في المخيمات ولاجىء في الدول. ولم تكن الدول العربية في منأى عن المشروع الأمريكي – مشروع الشرق الأوسط الكبير- الذي أطلقه بوش الابن، والذي سمي فيما بعد “بالربيع العربي”، فدمرت اليمن وليبيا وسورية وما تزال النيران تشتعل فيها واهلها بين مقتول ومشرد يفترش الارض ويلتحف السماء او مهاجر يسبح بين امواج البحار العاتية على أمل ان تقذف به إلى الضفة الأخرى حيث بداية الضياع، أو ان يكون وجبة طعام لذيذة للحيوانات البحرية.
ومن ضمن مخططات الغرب – الأمريكي في تدمير دول الجوار العربي المسلم على حساب ماساة العرب الإنسانية كان إطلاق العنان لإيران من قبل امريكا للتدخل في المنطقة العربية مستغلة بذلك ورقة الفكر الديني الطائفي المتطرف لتجد حججا ومسوغات قانونية لمحاصرتها بعد تحقيق عدة أهداف منها أولا؛ سلب المقدرات المالية لدول الخليج، ثانيًا؛ تدمير المجتمعات العربية صاحبة الحضارة العريقة، وثالثا؛ تدمير المجتمع الإيراني وإعادته إلى عصر ما قبل الصناعة كما فعلت مع العراق وسورية وليبيا واليمن. ولم تكن تركيا بمنأى عن المشروع الغربي- الأمريكي- الاسرائيلي التدميري، فاليوم جاء دورها لتلتحق بركب دول الشرق الأوسط التي طالها التدمير والفوضى. تركيا الحليف الاستراتيجي غير التقليدي للغرب والعضو في حلف الناتو تدخل رويدا رويدا في شبكة الصيد الغربية – الاسرائيلية، كما دخلت ايران من قبلها باتفاق أوروبي – أمريكي-اسرائيلي – روسي، بموجب مخطط ثمنه دماء الشعوب العربية التي ترزح تحت سوء القيادة والفقر والجوع والحرمان والخوف وانعدام الأمان.
جاءت أمريكا والصهيونية العالمية بأردوغان من خلف القضبان ليكون رئيسا لوزراء تركيا تحت مظلة حزب العدالة والتنمية التركي ليبدا رحلة استكمال حلقات مسلسل المخطط الغربي- الصهيوني التدميري في منطقة الشرق الأوسط، ولكي يصبح ذلك القائد التركي ذو البعد القومي والديني صاحب المنجزات الاقتصادية التي يستطيع من خلالها استعطاف الجماهير لتوجيهها حيثما يشاء، تم دعمه ماديا ومعنويا مقابل تنفيذ شروط داعميه من الأمريكان والصهاينة، حيث أخذ اردوغان يتسلق المناصب بدعم شعبي منقطع النظير ليصبح رئيسا للجمهورية التركية بعد تغيير الدستور، وأخذ يهتف كذبا باسم القومية التركية والإسلام وتحرير فلسطين، وانتقاد واحتقار قادة الدول العربية والتجاوز عليهم، ومن اهم ما قام به اردوغان تصفية كبار قادة المؤسسة العسكرية التركية، صمام امان الدولة، بحجة انقلاب مفبرك خطط له واخرجه اردوغان بنفسه، إلى جانب تنمية اقتصادية غير مسبوقة باموال اسرائيلية وامريكية، وأصبحت تركيا جزءا من التحالف الامريكي في سورية ومشاركتها في تدريب وادخال المتطرفين الإسلاميين من (القاعدة وداعش) إلى سورية والعراق بموافقة ودعم غربي بحجة دعم الفصائل السورية المعارضة في ضرب قوات النظام السوري والفصائل العربية والأجنبية الداعمة لها والتقدم في الداخل السوري والعراقي، فتحول اردوغان من صديق للعرب إلى عدو يهدد أمنهم القومي والمجتمعي في سورية والعراق وليبيا بمساعدة غربية وصمت أمريكي حالي.
وبعد ان تأكد الأمريكان من انغماس اردوغان في القضية السورية، وتوجهه إلى ليبيا لإدامة الصراع بين الفصائل المسلحة هناك، أعلنوا الانسحاب التكتيكي من سورية باتفاق مع روسيا، الامر الذي هيأ لدخول تركيا على خط المواجهة الساخنة مع نظام الاسد من خلال نقل القوات التركية إلى الداخل السوري ودعم الفصائل المعارضة للنظام السوري حيث يقتل السوريون أنفسهم بأنفسهم بمباركة تركية – أمريكية- اسرائيلية- وروسية، ويتم تهجير اكثر من ثلاثة ونصف مليون سوري إلى تركيا بعد تدمير مدنهم وبناها التحتية والصناعة الناشئة فيها، أما الحليف الروسي للأسد كعادته يقف متفرجا بعد ان قبض الثمن كما هو الحال مع كل حلفاءه السابقين من الدول العربية من حيث ليس لديه موقف دفاعي ثابت وإنما ينفذ ما اتفق عليه مع الأمريكان. ومن اجل تبرير موقف روسيا الداعم للنظام السوري يتم فبركة خبر وجود خلاف بين اردوغان وبوتين بشان التدخل التركي في أدلب، بعد ان طلب اردوغان من بوتين الابتعاد عن أدلب وكأنها ضيعة تركية، وهنا بدا اردوغان يتذوق السم الغربي- الأمريكي في سورية وسط رفض عربي خجول لهذا التدخل وموافقة أمريكية ومباركة اسرائيلية.
ومن اجل تمويل حملاته العسكرية العدوانية في الدول العربية أخذ اردوغان يساوم الدول الأوروبية على دفع مستحقاتها المالية السنوية إلى تركيا لإيواء اللاجئين السوريين للحيلولة دون عبورهم إلى اوروبا، حيث هدد اردوغان بالسماح لعبور ما يقارب ١٨ الف مهاجر سوري إلى اوروبا، رغم معرفته بانهم سيلاقون مصيرهم المحتوم إما غرقا في البحر او عذابا في مخيمات اللاجئين على حدود اوروبا، وسط تذمر أوروبي من وصول اللاجئين السوريين إلى سواحل اليونان وانتقاد حاد لسياسة اردوغان من قبل القادة الأوروبيين باستغلاله السلبي لمسالة اللاجئين بهدف الحصول على المال من الاتحاد الأوروبي لتحسين سعر صرف الليرة التركية المتدهور ودعم حملات توسعه المزعوم في الشرق الاوسط، وسط صمت وتشفي عربي بسقوط أشقاءهم العرب، وشعوب عربية تقتل بدم بارد وتهجر، ودول عربية تدمر بشكل كامل والعرب فرحين باجتماعاتهم في الجامعة العربية سيئة الصيت بمواقفها المخيبة لآمال الشعوب العربية التي تقتلها المخططات الاوروبية- الأمريكية في الشرق الأوسط لكي توقع خصومها في شرك الاتهام الدولي لتفرض عليها فيما بعد عقوبات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة كما حصل مع العراق سابقا عند دخوله الكويت بضوء اخضر امريكي، باعتبار هذه الدولة او تلك كانت قد هددت السلم العالمي وأخلت بالامن او قامت بعمل من اعمال العدوان، حيث يوفر الفصل السابع من الميثاق الإطار الذي يجوز فيه لمجلس الأمن أن يقرر “ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان” وأن يقدم توصيات أو يلجأ إلى القيام بعمل غير عسكري أو عسكري “لحفظ السلم والأمن الدوليين” وبموجب المواد ٣٩، ٤١، ٤٢ من الميثاق.
وبناء على ما تقدم، نرى ان تركيا مقبلة على مستقبل مظلم خاصة إذا ما استمرت بنهجها العدواني وعنجهيتها تجاه جيرانها العرب، وكذلك بسوء تصرفاتها مع حلفاءها الغربيين الذين سوف لن يسمحوا أبدا بتمادي اردوغان عليهم وابتزازهم من خلال قضية اللاجئين او ان يكون بديلا عنهم في الشرق الأدنى العربي، وأنهم ينتظرون بفارق الصبر حتى يستفحل داء العظمة في شخص اردوغان ويتبلور لديه حلم اعادة امجاد الإمبراطورية العثمانية التي كانت تهدد اوروبا إلى حقيقة على الأرض، والذي سيجعله يرتكب الحماقات والأخطاء الكبيرة التي ستكون مبررا للغرب- الأمريكي بإثارة النعرات في الداخل التركي ومحاصرتها بموجب القانون الدولي باعتبارها أضحت تهدد السلم والأمن الدولي، وعليه رب سائل يسال؛ هل يعي اردوغان مخططات الغرب- الأمريكي في الشرق الأوسط ام انه بدا يتلذذ بطعم السم الامريكي في سورية وليبيا، ولربما في العراق ايضا لتحقيق امله بالتوسع بعد مرور مئة عام على اتفاقية لوزان عام ١٩٢٣ بحلول عام ٢٠٢٣ والتي أشار اليها اردوغان في لقاءاته مع المخاتير الأتراك، والتي منها يمكن فهم أوجه الخلاف الدائر الان بين تركيا والغرب.
8-3-2020