د. عماد الدين الجبوري
لم تخفي إيران تأييدها إلى بقاء نوري المالكي لدورة ثالثة في رئاسة مجلس الوزراء رغم كل الإعتراضات المتزايده ضد سياساته من قِبل أغلب الكتل الرئيسة في العملية السياسية: متحدون، مستقلون، التحالف الكردستاني، الأحرار وآخرين غيرهم. وعندما لاحظ النظام الإيراني أحتمالية تفكك مجموعته المتمثلة في “إئتلاف التحالف الوطني” الرافض بأغلبيته لترشيح المالكي، وبدأت بعض الإشارات من الحكومة الإيرانية على إمكانية تغييره، فإن المرشد الأعلى علي خامنئي أوضح موقفه تجاه هذه القضية في أوآسط حزيران/يونيو عندما قال: أن “إيران كانت ضد التدخل الأمريكي، والعالم يجب أن يحترم نتائج أنتخابات أبريل/نيسان وفوز تحالف رئيس الوزراء نوري المالكي”.
وفي يوم الأثنين الموافق 11-8-2014 كلف الرئيس العراقي فؤاد معصوم، حيدر العبادي نائب رئيس البرلمان تشكيل حكومة خلفاً لنوري المالكي؛ وسرعان ما لقي هذا التكليف ترحيباً عاجلاً من الولايات المتحدة والأمم المتحدة ثم بعض الحكومات الغربية والعربية.
ففي مؤتمر صحفي للرئيس الأمريكي باراك أوباما قال: “أجريت إتصالاً بالعبادي وهنأته على تولي تكليفه برئاسة الحكومة ودعوته إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع الأطياف في أسرع وقت”؛ وأضاف أن “الولايات المتحدة تدعم حكومة تلبي تطلعات الشعب العراقي”.
وعلى خطى أوباما رحب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من خلال متحدثه الرسمي إستيفان دوغريك، بمؤتمر صحفي في نيويورك، قائلاً: أن “بان كي مون أثني على قرار رئيس الجمهورية العراقي، ويحث العبادي على تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة مقبولة لجميع مكونات المجتمع العراقي”. وكذلك بالنسبة إلى المسؤولين الغربيين في فرنسا وبريطانيا وأيطاليا وغيرها.
أما في الجانب العربي فقد ذكرت “وكالة الأنباء السعودية” يوم الثلاثاء المصادف 12-8-2014 أن العاهل السعودي أرسل برقية تهنئة للعبادي قال فيها: “يسرنا تهنئة دولتكم على تكليفكم رئيساً للحكومة العراقية الجديدة”، داعياً له بالتوفيق في “المحافظة على وحدة العراق وتحقيق أمنه وأستقراره ونمائه وعودته إلى مكانته في العالمين العربي والإسلامي”.
وجاءت تهنئة دولة الإمارات العربية المتحدة للعبادي، بحسب وسائل الإعلام الإماراتية، في 14-8-2014، حيث بعث نائب رئيس الإمارات، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، برقية يهنيء فيها حيدر العبادي بمناسبة تكليفه بتشكيل الحكوة العراقية الجديدة، ولقد أعرب الشيخ محمد بن راشد في برقيته عن تمنياته لرئيس الوزراء العراقي المكلف بالتوفيق في تشكيل حكومة وطنية شاملة تمثل جميع مكونات وأطياف الشعب العراقي الشقيق؛ وعبر عن أمله في أن يسهم ذلك في تعزيز وحدة الشعب العراقي ودور العراق الطبيعي في محيطه العربي.
وإذا هنأ الكثير من قادة الدول الغربية والعربية حيدر العبادي، فإن الرئيس الإيراني حسن روحاني قد ألتزم الصمت ولم يبادر إلى تهنئة العبادي! إلا أنه، في مكالمة هاتفية لتهنئة طيب رجب أردوغان برئاسة تركيا، قال: “يجب تشكيل حكومة في العراق في أسرع وقت ممكن، وإيران تدعم من أختارته أغلبية صانعي القرار في العراق”.
وما قاله روحاني يأتي وفق سياق كلمة خامنئي إلى مسؤولي وزارة الخارجية ودبلوماسيين، حيث قال: “آمل في أن تعيين رئيس وزراء جديد بالعراق سينهي الأزمة، ويقود لتشكيل حكومة جديدة ويلقن هؤلاء الذين يريدون الفتنة في العراق درساً جيداً”.
وفي اليوم الذي أعلنت فيه السعودية وبعض الدول الأخرى عن تأييدها إلى حيدر العبادي، فإن إيران حذت على نفس المنوال، فقد صرح علي شمخاني سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهو أيضاً ممثل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في المجلس، في تصريحات نقلتها “وكالة فارس للأنباء” قوله: أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدعم العملية القانونية التي جرت لتعيين رئيس الوزراء العراقي الجديد”. وقال شمخاني: أن “الأطار الوارد في الدستور العراقي ينص على أن رئيس الوزراء يجب أن تختاره الكتلة التي تمثل الأغلبية في البرلمان”.
ولكن علي شمخاني قد زار بغداد في 18-7-2014 في إطار التوسط بين الأطراف داخل كتلة “إئتلاف التحالف الوطني” بغية التوصل إلى حل في أزمة إختيار رئيس وزراء جديد للعراق، وحينها ألتقى بالمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني. حيث كانت إيران من مؤيدي المالكي وأبرز داعميه، لا سيما وأن خامنئي يرى أن خروج المالكي يعني نجاح الضغط السعودي والعربي، وكذلك يُعدّ نجاحاً للقوى الثائرة في العراق.
فهل تراجُع إيران ينم عن بداية ضعفها في العراق؟ أم أن مجمل نتائج الوضع العراقي يتطلب من إيران مُراجعة سياسية!
أن الأدلة الواقعية تشير إلى أن إيران إنقلبت مئة وثمانين درجة في موقفها تجاه المالكي ليس بسبب مراجعتها السياسية نحو العراق، بل نتيجة تراجعها بالتحكم في المشهد السياسي العراقي، وللأسباب التالية:
أولاً: سعت إيران لإبقاء المالكي لدورة ثالثة، بينما الإدارة الأمريكية دفعت بتغييره، فتم للأخيرة ما أرادت. وهذا يعني إذا سمحت الولايات المتحدة الأمريكية لإيران أن تتحكم بالملف العراقي لدواعي المصالح المشتركة فيما بينهما، فإن المتغيرات والمستجدات تؤثر بصورة أو أخرى على مجريات تلك المصالح.
ثانياً: الضغط العربي الذي قادته المملكة العربية السعودية ضد سياسة المالكي الطائفية في البطش والتعسف لمكون رئيسي من الشعب العراقي، وكذلك لكي لا تأتي المصلحة الأمريكية الإيرانية على حساب المصلحة العربية في المنطقة، لذا جاءت الموافقة الإيرانية على تغيير المالكي جراء تراجع إيراني واضح.
ثالثاً: ثورة العشائر العربية التي حررت نصف مساحة العراق من طاغوت المالكي الموالي لسياسة إيران، فقد أجبرت النظام الإيراني أن يتراجع عن دعمه للمالكي، خصوصاً بعد الخسائر الفادحة بالأرواح والمعدات التي لحقت بالقوات والمجاميع الطائفية المسلحة وكتائب فيلق القدس الإيراني؛ رغم أن الثوار أعلنوا بأنهم لا يريدون تغيير الوجوه، بل تغيير العملية السياسية التي تديرها طهران وواشنطن.
رابعاً: أن تأخير إعلان إيران تأييدها إلى تعيين حيدر العبادي، يعني أن تصميمها على بقاء المالكي قد تراجع، وتراجع معها الفرض الإيراني كما جرى في نتائج إنتخابات 7-3-2010، عندما أصرت طهران على بقاء المالكي في دورة ثانية رغم خسارته أمام أياد علاوي 89 مقعداً مقابل 91 مقعداً برلمانياً.
خامساً: صراخ المالكي وإتهام الآخرين بالخيانة، والتآمر الإقليمي عليه، وتشبثه المستميت بالسلطة حيث نشر قواته وميليشياته في العاصمة بغداد، وحججه الواهية في خرق الدستور، وأنه ينتظر قرار المحكمة العليا وغيرها من الحركات، إنما تعكس مساندة النظام الإيراني له، وعندما تراجعت إيران مرغمة، أعترف المالكي بهزيمته السياسية، حيث بث التلفزيون الحكومي مساء الخميس الموافق 14-8-2014 خطاباً للمالكي يعلن فيه إنسحابه من السلطة وتأييده تعيين حيدر العبادي.
سادساً: فشل إيران بربط الملف العراقي في مباحثاتها النووية مع الدول الغربية، حيث رفضت الولايات المتحدة زج هذا الملف بالمفاوضات، وبالتالي خسرت إيران ورقة كانت تحسبها بيدها؛ وجاء فشلها في إبقاء المالكي تأكيداً آخراً على تراجعها في إمساك خيوط اللعبة السياسية في العراق.
سابعاً: تكرار إيران لأخطائها الحربية القائمة على النعرة الطائفية والحشد البشري للمقاتلين دون الكفاءة اللازمة لهم، فما جرى خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) تعيده إيران مرة أخرى ضد العشائر العربية الثائرة بوجه الظلم والجور الطائفي، وبما أن الدعم العسكري والتسليحي الإيراني أخفق في تحقيق قمع الثورة الشعبية، لذا فإن هذا الإخفاق قد أثر على القبضة الإيرانية وأجبرها على إتباع سياسة التراجع لا المراجعة السياسية.
على أي حال، فإن إيران سوف يزداد تراجعها مستقبلاً في العراق، ويمكن أستباط ذلك من خلال أستقراء الأوضاع المستجدة منها والمزمنة، فإن تأييد إيران إلى تعيين العبادي لا يعني أن الأخير لا يلبي أو لا ينفذ ما مطلوب منه إيرانياً، فهو والمالكي وجهان لعملة إيرانية واحدة؛ وأن أستمرار “حزب الدعوة” برئاسة الوزراء خصوصاً، وسيطرة أغلبية “إئتلاف التحالف الوطني” عموماً، يعني أن صناعة القرار السياسي العراقي إن لم يكن خاضعاً للسيطرة الإيرانية، فإنه سيستمر تحت نفوذ النظام الإيراني.
وبما أن العملية السياسية ستبقى قائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية، فرئيس الجمهورية فؤاد معصوم كردي، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري سّني، ورئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي شيعي، وإن توزيع مناصب الوزارات ستكون وفق النسبة العددية لكل قائمة فائزة بالإنتخابات، لذا ستتكرر إشكاليات سنوات الفشل الماضية لتعيد مأسآتها لأربع سنوات أخرى قادمة، حيث الإهتمام بالمصالح الشخصية والفئوية دون الإكتراث بمعاناة الشعب المتصاعدة؛ وإذا كان هذا الوضع يعمل لصالح توسيع الثورة الشعبية، لكنه سيجبر إيران على التراجع أكثر، كونها الداعم القوي لهذا النهج الطائفي في العملية السياسية.
خذ على سبيل المثال، ما قاله مرشح الحكومة حيدر العبادي على حسابه في الفيسبوك: أن السّنة أهل الكرم، والشيعة أهل النخوة، والمسيح (المسيحيون) أهل الطيبة، والأكراد أهل الضيافة، والعراق أهل الجميع. ثم قال: لا تجعلوا من فعل الأقلية يطغي على الجميع، وأنزعوا ثوب الكراهية والأنانية والطائفية من قلوبكم، وتستروا بثوب العراق ليسكن الله قلوبكم أيها الأبطال.
إن هذه اللغة التي يطرحها العبادي مشحونة بالشعور العاطفي والنصائح الأخلاقية والدينية، ولكن أين مشروعه السياسي الذي يخدم فيه الوطن والمواطنين؟ ولماذا يستخدم العبادي في خطاباته: أن يدعو العراقيين، دون أن يطرح لهم خططه السياسية والأقتصادية؟ أن العبادي من “حزب الدعوة” أحد إتجاهات الإسلام السياسي، ويسبح هذا الحزب في فلك جمهورية إيران الإسلامية، شأنه شأن الكثير من الأحزاب والتيارات الشيعية والإخوانية، ما يعني أستمرار السطوة الإيرانية، وبما أن إيران فشلت في تقديم النموذج السامي للإسلام السياسي، لذا فإن الفشل شمل كل مَنْ يقترن بها، وبذا فإن مستقبل إيران في العراق سوف يتراجع بشكل أكثر.
ثمة أمر آخر، عندما يشير وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن بلاده أحبطت محاولة إنقلاب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على الرئيس الجديد حيدر العبادي، يوم الإنتخابات الرئاسية التركية في 10-8-2014، قائلاً: “جاءنا إتصال من العراق في الساعة الواحدة ليلاً، لقد أتصل بنا الأكراد وفئات أخرى، وقالوا بأن الدبابات حاصرت القصر الرئاسي، وتحركنا على الفور وتواصلنا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسعينا من أجل صد المالكي”.
ونقلت “وكالة أنباء براثا” التابعة لجلال الصغير من كتلة “المواطن” بزعامة عمار الحكيم أن قوة يترأسها أحمد نوري المالكي نجل رئيس الوزراء حاول الهجوم على مقر إقامة الدكتور حيدر العبادي ودارت هناك أشتباكات بين القوة المكلفة بحماية العبادي وبين القوة التي يترأسها أحمد نوري المالكي أنتهت بأصابته بيده وهروب القوة المقتحمة. وبحسب المصدر المطلع أن قوة أمريكية شاركت أيضاً بالإشتباكات لحماية حيدر العبادي.
بلا شك أن هذه الصراعات التي وصلت حد المجابهات المسلحة التي أتبعها المالكي في تصفية خصومه السياسيين ومنهم العبادي وغيره، لن تندمل جراحها بسهولة ولها ردود أفعال مستقبلية تسارع في زعزعة السطوة الإيرانية على المشهد السياسي العراقي، وبالتالي تدفعها نحو التراجع بدرجة أكبر.
صفوة القول أن تأييد النظام الإيراني إلى تعيين حيدر العبادي لم يأتي من منطلق مراجعة إيران في سياساتها تجاه العراق، بل جاءت كخطوة تراجعية مرغمة نتيجة سلبيات تراكمية كثيرة لم تستطيع إيران مجابهتها لتفرض المالكي عنوة كما فعلت في الإنتخابات السابقة.