آمال عوّاد رضوان
ما بين نكبة ونكسة، غاص تاريخ أوطاننا في محيطات جغرافية مشوّهة الأعماق مسمومة المعالم، وما بين هجرة وتهجير، لما تزل بلادنا تطفو على بحيرات دماء وأنهار نار، ولما تزل المواجع والمعاناة مشرّعة الآفاق، تلملم الجراحات في سلال مثقوبة القيعان.
اتحاد حاملات الطب الجليليّ نظم بالأسبوع الماضي رحلةً إلى الحمّة الجولانيّة، التي تشتهر ينابيعها المعدنيّة بأهمّية بارزة، وتعتبر من طليعة الأماكن السياحيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة، وقد ازدهرت أهمّيتها منذ العهد الرومانيّ الذهبيّ، لمَنافعها في تقوية الجسم وألأعصاب، ولخواصّ مياهها الشافية من الأمراض العصبيّة الحادّة والمُزمنة، وعِرق الإنس (النسا)، والأمراض الجلديّة مِن قروح مزمنة، وبواسير، وجُذام، ولبوس، وأمراض الحمّى الكلويّ، والرمل، وأمراض الرحم، والمعدة، وعِلل السرطان، وذلك لتوفر عنصر الراديوم المُشعّ بكثرة في هذه الينابيع، وهذا الإشعاع “الراديومي” المُنبعث من المعدن الفضيّ “الأورانيوم”، يُشكّل سرّ الفائدة والفعاليّة في العلاج السرطانيّ ومكافحة الأورام، ممّا جعل المُنقبون يبحثون عن مناجمه في الحمّة، بعدما أظهر فاعليّته الجمّة في تحقيق القنبلة الذرّيّة، إذ تخترق أشعّته الورق الأسود، ويُستخدم في دهان الأواني الخزفيّة والزجاجيّة المُشعّة ، وفي صناعة السبائك الفولاذيّة!
الحمّة اسمٌ عربيّ، وجمعُها حِمَام، وتعني عين ماءٍ ساخنة حارّةٍ تنْبع من الأرض يتداوى المرضى بالاغْتِسال من مائها.
للحمّة تاريخٌ مُغرق في القِدَم، حيث أوّل إشارة لها كانت من قبل المؤرخ “سترا بوسنه”، عام 63ق.م، ولليونان والرومان آثارٌ أهمّها المسرح الرومانيّ، والمُدرّج الذي بُني على السفح الشرقيّ لأحد التلال المحيطة، فقد كانت الحمّة من أعمال مقاطعة “أماثا غادارا” قبل القرن السادس ميلاديّا، هي “أم قيس” الأردنيّة على ضفة “اليرموك” المُقابلة، وقد ذكَرَها المؤرّخ والجغرافيّ الرومانيّ (استرابو)، ثم سُمّيت “ينابيع إليجا”، حيث أقيمت مباني الحمامات، بتصميم يشمل مقاعد حجريّة سوداء يجلس عليها المُستحِمّون، وإلى الشرق منها ملعب فيه 15 مدرّجًا من الكراسي، على ثلثي دائرة تتّسع لألفي متفرّج، ومع أنّ هذه الينابيع كانت مستعملة كثيرًا في زمن اليونانيّين والرومانيّي، بحسب ما ذكرته الكتب التاريخيّة والحفريّات، إلّا أنّها هُجرت ولم يعُدْ يَزورها إلّا القبائل الرُّحَّل زياراتٍ سنويّة، ليستفيدوا مِن خاصّيّتها.
ذكرها المؤرخون في كتاباتهم، وقد وصفها المؤرخ “أنطونيوس مارتير” “الحمّة” كمياه شافية لداء الجُذام، وعرَفها العرب منذ الجاهليّة بحمّة الشام، أي الماء الساخن.
وذكرها المؤرّخ “المقدسيّ” في كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” بقوله: “إذا أصيب أحد بجرب أو انتفاخ أو ناصور أو غير ذلك، وتحمّم في مياهها ثلاثة أيّام فإنه يُشفى”.
وفي أوائل القرن العشرين ذكرتها “فرنسيس أملي نيوتن” الإنكليزية بقولها: “انحدرنا إلى بحر الجليل مرورًا بطبريا، وخيّمنا بوادي اليرموك، بين ينابيع الحمّة المتدفقة بجانب النهر، وقد عبق الجوّ بالأبخرة الكبريتيّة. وفي هذا الغور تمرّ السكّة الحديديّة إلى درعا، بأنفاقها السبعة وجسورها الخمسة عشر، تُذكّر راكبَ القطار بالسكك الجبليّة في الديار السويسريّة. وهذه الينابيع المعدنيّة- الأشبه اليوم بمِثل سبا من المصاح الأوروبيّة- كانت يومذاك بؤرة من البِرك ازرقّت أمواهها. وهي ينابيع عدّة، باردة وحارّة، بعضها يغلي فيقلي. وقد ألِفها العرب جيّدًا، وعرفوها عينًا عينا: فتلك للأمراض الجلديّة، وهاتيك للأدواء العصبيّة، وأخرى للحَبَل والعوْن على إحداثه”.
تتواجد الينابيعُ الحارّة في المناطق البركانيّة، حيث ترتفع حرارة أحواض المياه في الكهوف الجوفيّة، المُكوّنة من الصخور البركانيّة المُحْكَمة ضدّ الماء كالريوليت، وذلك تحت تأثير الصهارة الحارّة المُحرِقة، فتغلي المياه، ويتحوّل بعضها إلى بخار، فيتعاظم الضغط في الكهوف، ممّا يؤدّي إلى دفع المياه والبخار نحو الأعلى، عبْرَ أحد الصدوع باتّجاه سطح الأرض، ويرتفع في الهواء.
في الحمّة ينابيع: ثلاثة ينابيع معدنيّة حارّة، تختلف عن ينابيع طبريا الحارّة، بأنها تحتوي على نسبة أعلى من الكبريت، ونسبة أقلّ من الملح الاعتياديّ.
وينبوع رابع عند مدخل الحمّة ينبوع يُسمّى “عين بولس”، يتدفق من سبع عيون، وينبثق منه ماء عذب غزير بارد سائغ للشرب، وفعّال في الهضم، نظرًا لاحتوائه على كمّيّة كبيرة من الراديوم الإشعاعيّة ومن البيكاربونات، ممّا تجعله قريبًا من مياه فيشي المعدنيّة الفرنسيّة المشهورة، وخالٍ من غاز ثنائي الكبريت، ولا تزيد حرارته عن 22 درجة سنتيغراد. وتلتقي مياه الينابيع الأربعة لتُشكّل “الحمّة الساخنة”، التي ترفد نهر “اليرموك” في الأخدود الواقع إلى الغرب من البلدة السياحيّة.
أمّا الينابيع المعدنيّة الحارّة الثلاثة، فلكلّ منها حمّامات ضمن بناء حجريّ مسقوف، ولكلّ نوع من المياه أربعة حمّامات، أبعاد كلّ حمّام (8-16) متر، إثنان درجة أولى، وإثنان درجة ثانية.
أوّلًا: النبع المَقليّ (نبع الشفاء)، أو (حمّام سليم)، أو (حِمّة الشيخ)، أو (حمّام الشيخ)، بالغ السخونة، يقع إلى الجنوب مِن مجرى نهر اليرموك، وحرارته تتراوح بين 48 و 50 درجة سنتيغراد .
ثانيًا: “نبع البلسم”، يقع إلى الشمال الغربيّ من المنطقة، وحرارته 40 درجة سنتيغراد، كان يُدعى سابقًا “نبع الجرب”، كي يُسمح لغير المرضى الاستحمام فيه.
ثالثا: “نبع الريح”، لأنه يُفيد بالتخلّص ممّا يُسمّى بمرض الريح، ثم استُبدل اسمُه إلى “ينبوع النشاط”، لأنه يُهدّئ الأعصاب ويُنشّط المُستحِمّ، وحرارته 36 درجة سنتيغراد ، قريبة جدًّا مِن حرارة جسم الإنسان .
جغرافيًّا: تقع الحمّة في أقصى جنوب الجولان السوريّ، إلى الجنوب الغربيّ بشكل يُحاذي الشاطئ الجنوبيّ الشرقيّ لبحيرة طبريّا، وهي تمتدّ شرقًا على شكل بيضويّ عند مثلث الحدود السوريّة- الأردنيّة- الفلسطينيّة، ويقع القسم الثاني منها ضمن الحدود الأردنيّة، مُلاصِقًا لبلدتيْ سمخ الفلسطينيّة والعدسيّة الأردنيّة.
كانت الحِمّة تتألّف من مدينة سياحيّة صغيرة ومنتجع صِحّيّ، إضافة إلى الأراضي الزراعيّة التي تتبع لها، وبعض القرى مثل: التوافيق، الحاوي، الروض الأحمر، روض القطف، البرج، الدوكا، الكرسي، قطوف الشيخ علي.
كانت الحِمّة “دُرّة الجولان”، إذ تقع عند زاوية مُلتقى لأراضٍ سوريّة وفلسطينيّة وأردنيّة، ممّا جعل لها أهمّيّة استثنائيّة، فهي تقع في فسحة منبسطة مساحتها عشرة كيلومترات، مُحاطة من جوانبها الأربعة بهضاب عالية، يلتصق اليرموك في مجراه بهضبة أم قيس، تاركًا إلى يمينه أرضًا فسيحة، تقوم عليها الحِمّة وحمّاماتها الشهيرة، فيمرُّ نهر اليرموك جنوبها، ويفصلها عن جبال الأردن، عند مَخاضة “زور كنعان”، على انخفاض 156 مترًا عن سطح البحر، وعلى بعد 135 كم عن دمشق، وبيروت، وعمان، والقدس، وهي محطة من محطّات سكّة حديد درعا ـ سمخ تاريخيًّا، ومن الجهة الشماليّة الشرقيّة تتّصل بالأراضي السوريّة، بمُرتفعات مُتدرّجة نحو الأعلى حيث الجولان، ومن الجنوب الغربيّ أيضًا سوريا التي تفصلها عن بحيرة طبريا بحوالي عشرة كيلومترات، ويمكن الوصول إليها بالسيّارات والقطارات.
للحمّة أراض مساحتها 10700 دونمًا، منها 382 للطرق والوديان.
كان في الحمّة عام 1931م 172 نسمة، وفي عام 1945م ارتفع العدد إلى 290.
والحمّة موقع أثريّ قديم، قسم منه تلّ مسرح، حمّامات، وكنيس أرضه مرصوفة بالفسيفساء، مَبانٍ، مَدافن، أعمدة، قواعد أعمدة، تيجان أعمدة، ومَزار واحد.
أهمّ المواقع الأثرية في الحمّة:
خربة الدوير: تحتوي على تل أنقاض، أساسات، وجدران قلعة متهدّمة من البازلت (حجر بركان)، شقف فخار، وأدوات صوّانيّة على سطح الأرض.
خربة ابو كبير: تقع في الغرب من خربة الدوير. تحتوي على أساسات مبنيّة بحجارة ضخمة، شظايا صوّان.
أبو النمل: تقع في الغرب من خربة أبو كبير، وتعرف أيضًا باسم “ابو نار”، تحتوي على تلّ أنقاض صغير، جدران من الدبش، آثار طريق قديم يمتدّ من الشرق إلى الغرب.
تاريخيًّا: بعد الحرب العالميّة الثانية كانت فلسطين من نصيب الحكومة البريطانيّة، فانتشر الشباب اللبنانيّ المُثقف في كافّة أنحاء البلاد الخاضعة للحكم البريطانيّ؛ (الأردن والسعودية ومصر وفلسطين)، طمَعًا بالوظائف والمَراكز الحكوميّة، فمنحت الحكومة الإنكليزيّة المُنتدَبَة امتيازاتِ منطقة الحِمّة إلى سليمان بيك ناصيف، (من مواليد بلدة المختارة اللبنانيّة)، من عام (1936- 2029م).
كان سليمان بك ناصيف أميرالاي حرب في الجيش العثمانيّ، وأحد قادة الجيش المصريّ الذين عملوا في السودان، قبل أن يعين مستشارًا لدى حكومة الانتداب الإنكليزيّ على فلسطين، إذ اكتشفَ مُصادفة برَك وينابيع الحِمّة المعدنيّة، وهو في طريق على قطار خط الحديد الحجازيّ الذي يمرُّ وسط منطقة الحِمّة، فرأى تصاعُدَ البخار من بين الأشجار الكثيفة التي كانت تغطي المنطقة، وكان الوصولُ إلى تلك البرَك والينابيع محفوفًا بالصعاب والمخاطر، نظرًا لانتشار الحيوانات المفترسة والأفاعي، ومختلف الحشرات والقوارض. فسعى للحصول على “امتياز” من حكومة الانتداب لإنشاء مشروع سياحيّ في المنطقة، فتمّ ذلك، ولكن لعدّة سنوات فقط، فاستقدم عمّالًا مصريّين لتنظيف المنطقة وتنفيذ المشروع، كما استخدم القطط والكلاب للقضاء على الأفاعي والحشرات والقوارض المنتشرة في المنطقة، إلّا أنّ الفترة المُتّفق عليها انقضت، قبل أن ينتهي المشروع ،الذي سرعان ما اتّضحت أهمّيّته وقيمته وجدواه الاقتصاديّة، ممّا دفعه للمطالبة بعقد اتفاق مع حكومة الانتداب لأمدٍ طويل، امتدّ الامتياز لمدة 99 سنة (1936-2029). فأنشأ لهذه الغاية شركة محدودة المسؤوليّة، سجّلها في فلسطين بموجب قوانين الشركات لسنة 1929 ــ 1936، وذلك برأسمال قدره (200) ألف جنيه فلسطينيّ، مقسوم إلى (196000) سهم ممتاز، قيمة كل منها جنيه فلسطينيّ، وأربعة آلاف سهم تأسيسيّ، قيمة كلّ منها أيضًا جنيه فلسطيني واحد.
وفي تفسيرٍ لموافقة الإنكليز على إعطاء العرب هذا الامتياز، وسط تزايُد الهجمة الصهيونيّة على الحصول على المشاريع الحيويّة في فلسطين، استعدادًا لإقامة (إسرائيل)، يُقال إنّ الإنكليز أعطَوا امتياز الحِمّة للعرب، مُقابل إعطاء “امتياز” شركة كهرباء روتنبرغ لليهود.
ولأنّ الحمّة منطقة استراتيجيّة ومتميّزة بوفرة المياه، إضافة إلى كون هذه المياه معدنيّة وكبريتيّة دافئة، تحتوي على مادة اليورانيوم المستخدمة في الأبحاث الذرّيّة، هذه المزايا والعوامل ضاعفت من أطماع إسرائيل في الحِمّة والتمسّك بها، ففي عام 1946 جاء وفدٌ يهوديّ لمناورته وشراء امتيازات الحِمّة، لكنّه رفض، فأعطَوْه شيكًا على بياض، أخذه سليمان بهدوءٍ وكتب عليه: “أرض الحِمّة ليست للبيع. إنها عربيّة وستبقى عربيّة، إنّ هذه البِرك عربيّة، وستبقى عربيّة غلى الأبد”. وقد حاولت (إسرائيل) ضمّ الحِمّة عام 1948، ولكنها فشلت بسبب وقوع الحِمّة ضمن الأراضي السوريّة، وتحت حماية الجيش السوريّ.
وعام 1951 حاولت القيام بعمليّة عسكريّة لاحتلال الحِمّة، لكنّها فشلت أيضًا. وقائع هذه المعركة يَرويها المُقدّم المتقاعد في الجيش السوري حسن أبو رقبة، الذي كان مسؤولًا عن القطاع الجنوبي للجبهة الذي يشمل منطقة الحمة حتى عام 1958 يقول: “عصر أحد أيام شتاء 1951، تحرّكت قوّة مدرعة إسرائيليّة مؤلّفة من سبع مُصفّحات وسيّارات نقل جنود على طريق سمخ- مخفر الحاصل- الحمة، فتصدّى لها قائد الحرس الوطنيّ في الحمّة الضابط رشيد جربو،ع الذي كان يُتقن اللغة العبريّة، ومصادفة، كان موجودًا في مخفر الحاصل المرتفع، فرفض السّماح للقوّة بالتقدّم، مُتعلّلًا بمحاولة أخذ موافقة قيادته، فسمع قائد القوّة الإسرائيليّة يُبلغ قيادته بالعبريّة عبرَ اللاسلكي، بوجود محاولة لمنعِهِ مِن التقدّم، وباعتزامِه اقـتحام المخفر ومواصلة التقدّم لاحتلال الحِمّة. عندها بادر الضابط رشيد جربوع بإعطاء الأوامر إلى قوّاته المحدودة المستنفرة بفتح النار، وبمختلف الأسلحة المتوافرة على القوّة المهاجِمة، واتصل هاتفيًّا بالمخافر السوريّة القريبة، وطالبها بالاشتراك فورًا بإطلاق النار، ممّا أوقع إصابات كثيرة في القوّة المُهاجمة، وتمّ إعطاب أربع مُصفّحات، ممّا اضطرّهم للانسحاب مع العربات المُصفّحة المعطوبة وجرحاهم، وقتلى بلغ عددُهم 11 قتيلًا.عدا الجرحى. وسارع الضابط جربوع إلى إبلاغ قيادته بتفاصيل ما حدث، طالبًا المبادرة إلى إخلاء مئات الزوار الذين كانوا في الحِمّة آنذاك، وذلك تجنّبًا لِما قد تتعرّض له المنطقة بكاملها، من اعتداءات وأعمال قصف انتقاميّة. وتمّ فعلًا إجلاء هؤلاء الزوّار ليلًا بواسطة القطار إلى دمشق والقنيطرة، وإلى الأردن بواسطة الزوارق على نهر الشريعة. وفي اليوم التالي صحّ ما توقّعه جربوع، فقام الطيران الإسرائيليّ بقصف منطقة الحِمّة والمخافر المحيطة بها بشدّة، ولكن الاحتياطات المتخذة فوّتت عليهم فرصة إيقاع أيّة خسائر فعلية بالزوّار والأهالي، ونتيجة هذه المعركة البطوليّة، كرّمت القيادة السوريّة الضابط رشيد جربوع، بمنحه “الوسام الحـربيّ” السوريّ. وعام 1958 قامت القوّات السوريّة عملت على تشجير طرقات المنطقة، وأقامت بيوتًا للمواطنين الموجودين في قريتيْن أماميّتين هما العامريّة والناصريّة!
وبعدما فشلت الجهود التي بذلها اليهود لشراء هذا الامتياز منه، ثار برنارد جوزف وقال بنرفزة: “ما دمت كذلك، لا بد أن نأخذها يومًا بالقوّة”.، ممّا دفعَ سليمان بك إلى التحدّي، وإدخال تحسينات جمّة على الحمّامات، وشقّ الشوارع، وغرس الأشجار، وبنى الفيلات والشقق السكنيّة.
السيد سليمان بك ناصيف كان يعمل مُوظفًا كبيرًا ومسؤولًا، انتقل من مصر إلى حيفا، ثمّ طبريا وبيسان، فاطّلع على كلّ كبيرةٍ وصغيرة في البلاد، وقرّر الاستقالة من عمله في الحكومة سنة 1929، وفكّر بإقامة منتجع الحِمّة كمشروعٍ حُرّ، فدعا مهندسين واقتصاديّين للتشاور، وعام 1930 باشر بتنفيذ المشروع، بعدما حصل على إذن من المسؤولين في الأردن وفلسطين بحُكم مركزه، وبما أنّه مِن مواليد بلدة المختارة عاصمة العائلة الجنبلاطية في لبنان، فقد سهّل عليه مُوافقة الحكومة الفرنسيّة، وابتدأ في إقامة المشروع سنة 1930، لكنّه واجه صعوبات مع البدو في المنطقة الذين هاجموا مُنشآت الشركة، وأرادوا العمل بالقوّة . فتوجّه السيد سليمان بك ناصيف إلى حيفا، طالبًا مِن الدوائر الحكوميّة مساعدته بالحراسة، ولكن لم يستطع الحُرّاس ردّهم. فكلّف السيّد نجيب أبو عزّ الدين من بلدة العباديّة في لبنان، أن يكون مساعده ومدير أعماله، فقرّر الأخير استدعاء السيد أديب البعيني المشهور بقوّة بأسه، من بلدة مزرعة الشوف بلبنان، ليكون مديرًا للأمن في الحِمّة، فنظّم الحراسة وأبعَدَ المُعتدين، وهدأت الحال، وأصبح المشروع يستقبل مئات الزوّار يوميًّا. وبعد عشر سنوات طلبه رئيس الجمهورية اللبنانيّة بشارة الخوري، وعيّن أديب قائدًا للحرَس الوطنيّ في بشامون.
كان المُشرف الأوّل وصاحب الامتياز في الحِمّة “سليمان بك ناصيف”، الذي عبد الطريق إلى الحِمّة قبل عام 1948 من داخل فلسطين، أمّا الطريق عبر الجولان، فتمّ تعبيدها بعد عام 1948، وشُقّت من قِبل الجيش البريطانيّ خلالَ الحرب العالميّة الثانية، بهدف مُهاجمة قوّات فيشي الفرنسيّة، التي كانت تحتلّ سوريا آنذاك. واستخدمها الجيش السوريّ في حرب 1948، خلال هجومه على منطقة جنوب شرقيّ بحيرة طبريا، وما بين عام 1948 حتى 1967، صار الوصول إليها يتمُّ عن طريق الجولان ــ القنيطرة ــ الفيق، فازدهرت السياحة العلاجيّة في “الحِمّة” من داخل سورية وخارجها، خاصّة في الشتاء والربيع، وشهدت حركة سيّارات وقطارات تصِلها عبر الخطّ الحديديّ القديم (دمشق- درعا- الحمة- حيفا).
أقام سليمان بك ناصيف المُنشآت السياحيّة، ومُنتجَعًا سياحيًّا، وثلاثين فيلا مفروشة للاستثمار السياحيّ، وحولها حدائق فائقة الجمال، بالإضافة إلى شُقق سياحيّة للإقامات الطويلة، و250 غرفة مفروشة، تشتمل كلٌّ منها على مطبخ وحَمّام، وأقامَ مَبانيًا حجريّة على نظام الشاليهات، ومَبانيًا بألواح التوتياء، لاستقبال الزوّار الذين وصلت أعدادهم ما يُقارب عشرة آلاف زائر يوميًّا، كما أقام فيها فندقًا سياحيًّا مِن طابقيْن، يتألّف من حوالي 50 غرفة ومسجدًا، وعندما تمتلئ الغرف والفيلات والفندق بالوافدين، كان يَجري نصْب الخِيَم لاستقبال المزيد منهم، وخلال هذا الموسم كانت المنطقة تتحوّل إلى سوق تجاريّة بكلّ مَعنى الكلمة، إذ تنتشر البَسْطات والباعة المُتجوّلون، لمختلـف أنواع المأكولات من الأجبان، والألبان، والعسل، والقشطة، والزبدة، والدجاج، واللحوم، والأسماك، والفواكه، والخضار على أنواعها، وكانت أطراف الحِمّة مُعبّدة ومُشَجَّرة بالبساتين، والحدائق المُنسَّقة الغنّاء الحافلة بإنتاج الورود، وأشجار زينة مُلوّنة بكلّ الألوان، وفيها أشجار الموز والحمضيّات بأنواعها.
السيدة وداد سعيد ناصيف ابنة شقيق سليمان ناصيف أمضت أكثر من 20 عامًا في الحِمّة، وتملك (500) سهمًا من أسهم الشركة، إضافة إلى (70) سهمًا نصيبها من إنتاج الشركة، هي التي بقيت مُلكًا لها من أصل (2000) سهم كانت تملكها حتى عام 1956، حين اضطرّت إلى بيع (1500) سهم منها لترميم أحد المنزليْن، اللذيْن تضرّرا لوالدتها ولوالدها في المختارة نتيجة الزلزال الذي دمّر عشرات المنازل في المختارة، إضافة إلى منازل كثيرة في العديد من قرى الشوف، وباعت السهم الواحد في حينه بـ 10 ليرات لبنانيّة لأحد تجار الحبوب الكبار في بيروت حسين مكاوي.
وداد سعيد تقول: “مشروع الحِمّة كان يتبع لفلسطين، فبعد أن انتهت مدّة الامتياز الأولى (1929-1936)، كان لا بدّ من تجديد العقد لاستكمال المشروع، وهذا ما حصل فعلاً حين تمّ بناء الفيلات والفندق والغرف المفروشة وتجهيزها، في المرحلة الثانية من الامتياز الذي تم لمدة 99 سنة (1936-2029)، وأقام شركة لها مجلس إدارة من الوجهاء وبعض العاملين: المرحوم عبدالرحمن الحاج إبراهيم من وجهاء حيفا الوطنيين. وإضافة الى ذلك قام سليمان ناصيف بشق طريق من فلسطين إلى الحِمّة عبر طبريا- سمخ- الحمة، إذ كان صعبًا الوصول إلى الحِمّة قبل أن يقوم عمّي بشقّ الطريق من فلسطين، وأجرى التحاليل على مياه الينابيع الصالحة للشرب بشكل دوريّ في نيس الفرنسية، وكان يقال له إنّ مياه الحمّة أفضل من مياه فيشي”.
في شباط 1959، وبموْكبٍ رسميٍّ أقامته الحكومة السوريّة، وبمُواكبةٍ شعبيّةٍ كبيرة، سلكت جنازة سليمان ناصيف طريقها إلى مثواه الأخير في الحِمّة، الذي بلغ 104 سنوات، أوصى أن يُدفنَ في الحِمّة، بعدما أشرف على إعداد قبره، والبلاطة الرخاميّة التي نَقش عليها أبياتًا شعريّة مِن نظْمِه.
في 5-6-1967 احتُلّت الجولان بأكملها، وتحوّلت الحِمّة تحت هيمنة (إسرائيل) حتى يومنا، فحُوّل الموقع إلى مُنتجع سياحيّ إسرائيليّ، فيه حِياض للسباحة، وبِركة صغيرة لصيد السمك، ولا يزال المسجد المهجور قائمًا، ولا تزال مئذنته وأعمدته الرخاميّة سليمة مثلما كانت، وأمّا (جسرالمجامع) على نهراليرموك، والذي كان يربط بين درعا وحيفا، فقد قامت عصابة البالماخ بتفجيره عام1946.
الاستيلاء على الحمة: احتلت (إسرائيل) الحِمّة في 10-6-1967، وقد هربَ منها الضباط والجنود السوريّين، ومعهم مئات المزارعين والعمال الذين عملوا في الحِمّة، ولم يبقَ فيها القرية سوى شخصيْن؛ ابن الشيخ سليمان ناصيف صاحب فندق وشركة حمّامات الحِمّة وينابيعها، وزوجته وداد سعيد ناصيف “ختيارة القنيطرة”، الذي بقي يُدير أعماله من داخل الحِمّة، وخلال التحقيق معه قال: إنّ الحِمّة كانت تستقبل المئات من الزوّار العرب بهدف الاستجمام، وكذلك خبراءَ عسكريّين من روسيا وسوريا وألمانيا الشرقية، وكان داخل الفندق نادٍ صغير خُصّص مِن أجلهم، لراحتِهم وإدخال البهجة في نفوسهم، كما كان يطلب قادة الجيش السوريّ. وتم طرد الابن والزوجة إلى مدينة القنيطرة، بمرافقة رجل الأعمال الإسرائيليّ “زئيف سبير”، الّذي ادّعى أحقيّته في أملاك الشيخ ناصيف، بأوراق تثبت الشراكة مع الشيخ سليمان ناصيف، وبقيت وداد ناصيف في المدينة ورفضت الخروج منها، حتى إعادتها إلى سوريا في اتفاقيّات الفصل عام 1974.
يقول روني لوتن مدير شركة “حمة جيدر”: “إنّ الحِمّة تقع داخل الحدود الدوليّة لفلسطين، كما حدّدتها الأمم المتّحدة في العام 1948”. لذا أنشأت (إسرائيل) عام 1977 شركة خاصة تملكها مستوطنات “مفو حمة” و”كفار حاروب” و”ميتسر وافيك” بمساحة 150 دونم تضم: المسابح والحمامات والفندق والمطاعم ومركز استشفاء حديقة التماسيح وحديقة الحيوان، وتستقبل حوالي 600 الف زائر سنوياً. وان هذه الشركـة اعلنت عن نيتها استثمار 100 مليون شاقل في تطوير منتجع الحمة وتوسيعه، اقتناعًا وإيمانًا بأنّ (إسرائيل) لن تعيد منطقة الحِمّة إلى سوريا، على حد ما جاء في كتاب “لا أحد يشرب” للدكتور طارق المجذوب صفحة 107.
ويقول هاني الزريني زوج ابنة شقيق سليمان ناصيف السيدة فدوى ناصيف التي تملك 2500 سهم من أسهم الشركة، وهو أحد أعضاء مجلس الإدارة وكان يعمل مفتشا في الشركة: “كنت أزور الحمة أسبوعيًّا، كلّ نهار جمعة عن طريق مرج عيون ــ العباسية ــ بانياس ــ القنيطرة ــ الجولان فالحمّة، وكنت أبقى حتى الأحد، وكان لديّ تصريح دائم من قيادة الأركان السورية لزيارة الحمة، وكانت آخر زيارة لي إلى الحمّة في أواسط نيسان إبريل 1967، وذلك قبل احتلالها في عدوان حزيران، وبعد عام 1948 كانت الطريق الوحيدة التي تربط المنطقة بالحمّة تمرّ عبر الجولان السوريّة، حيث كان الزوّار يحصلون على تراخيص من قيادة الأركان السورية في دمشق أو القنيطرة، وبعد عام 1948 تركز اهتمام مجلس إدارة الشركة على تنظيم وتوسيع المشروع، ليكون قادرًا على استقبال أكبر عدد ممكن من الزائرين والروّاد، وتوفير كافة التسهيلات اللازمة والممكنة لهم، وركزنا على الحؤول دون أن يحقق العدو الإسرائيلي أي اختراق للشركة، فأصدر مجلس الإدارة قرارًا، يُمنع بموجبه بيع أي سهم لأيّ كان من دون موافقة مجلس الإدارة، فدخل إلى مجلس الإدارة مساهمون جدد، كان أبـرزهم ممثلون لخط الحديد الحجازي في سورية، إضافة إلى أعضاء ومساهمين جدد من لبنان والأردن”.