ماذا جرى وماذا سيجري في المنطقة وما التوقعات في العام 2014؟ وما الوضع كوردستانيا في ضوء
هذه المجريات؟
أجواء المنطقة واستراتيجيات العمل الكوردستاني
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
انقضت سنة 2013 بكل ما حملته من شدائد وأوجاع ومشكلات تاركة لعام وليد كثيرا من العقد الكأداء. ولعل أبرز ما انتهت إليه سنة 13، هي حال التشرذم والانشطارات القائمة على تفعيل التناقضات بخلفيتها الطائفية وبفروضها العنفية القسرية المبنية على أنشطة ميليشياوية مدفوعة الأجر بسلوكيات البلطجة.
لقد ارتفعت أسهم سياسة المفخخات والعجلات المتفجرة عن بُعد أو بوساطة انتحاريين، كما تضخمت جرائم القتل العشوائي فتوجهت قوى الإرهاب في الدول المغاربية إلى تونس لتضمها إلى دائرة استهدافها بعنفها الدموي.. فيما واصلت ميليشيات الإرهاب بليبيا اقتناص الفرص وانتهازها لارتكاب مختلف الجرائم المثيرة للقلاقل بما يمكّنها من السطو على ما تريده من الثروة النفطية ومن كراسي السلطتين المحلية والوطنية.
ولم تبتعد مصر عن الصورة بل كانت مع نهاية السنة الفارطة في قلب الحدث عندما عادت قوى الأخوان المسلمين وعناصر التطرف الإرهابية للعبة العنف بعد أن كشفها الشعب وطردتها الجماهير بمظاهرات من عشرات ملايين المشاركين في ثورة 30 يونيو حزيران. ومازال الخليج العربي تحت تهديد من أطراف إقليمية ومحلية مفضوحة المآرب. بينما اتسعت الجريمة في منطقة الشام لتحاول الإجهاز على ما تبقى من بنية سوريا مع ولوج الميدان اللبناني؛ وعلى ذات الخط أسفرت داعش وأجنحة القاعدة الإرهابية الدولية عن وجهها في تظاهرة للقوة بدخولها الأنبار والفلوجة وتهديدها الذي وصل إلى تخوم العاصمة بغداد.
هذه الصورة لا يمكنها أن تُفسَّر بأعمال عناصر طائشة أو فردية مرضية. كما لا يمكن لأنشطتها الكبيرة والتحولات النوعية الأخيرة أن تسجل طابعا محليا محدودا. ولابد لنا من الاعتراف بأن جرائم قوى الإرهاب باتت تجري بوجود دعم لوجيستي إقليمي وباختراقات دولية واضحة العلامات..
وإذا كنا سنغض الطرف عن تطوع مئات وربما آلاف العناصر المتطرفة من بلدان أوروبا الغربية وأمريكا كون الأمر يجري بوقائع منفردة ولا تمثل سياسة فعلية لتلك الدول وشعوبها بأي حال من الأحوال؛ فإننا لا يمكن أن نتغافل عن فلسفة تحاول إثارة ما تمت تسميته الفوضى الخلاقة وسياسة غض الطرف التي تتبادل ميدانيا بعض مصالح مع دول إقليمية بمقابل تعتقده بعض قيادات دول غربية يقع في مصالحها الحيوية الاستراتيجية..
وقبل أن نوجه أصابع الاتهام إلى أيّ طرف نود توكيد الصورة الجارية والمحتملة في المنطقة. فاستمرار جرائم قوى الإرهاب يعني أن المنطقة دولا وشعوبا ستتعرض لمسلسل آخر من الاختراقات التي تسلك إثارة الفتن الطائفية وإيقاع الخسائر المادية والبشرية بما يحقق أسر المجتمعات المحلية وجعلها طوع تلك القوى المتشددة..
إن ما يجري يشكل استراتيجية تستهدف المنطقة ودولها وإلا فإن الصراعات المحلية والإقليمية برهنت على أن المجتمع الدولي قد أحكم قبضته في رفض أية حروب نظامية سواء بالأسلحة التقليدية أم الكتلوية الشاملة، الأمر الذي دفع بعدد من الدول ذات السطوة والتأثير على أن تخوض معاركها في ميادين بعيدة عنها.
فإيران والسعودية وتركيا وإسرائيل ودول أخرى، لا تريد بعد ما نجحت في تحقيقه لسلطة التشدد (الطائفي السياسي) أن تفقد تلك السلطة التي تدعي ممارستها الحياة المدنية، لكنها في واقع الحال لا يمكنها البقاء من دون إيجاد أرضية قلقة واصطناع البعبع بعد تشطير المجتمعات بين طرفين يتم افتعال الأزمات والاحترابات بينهما! ومن الأمور التي باتت تمارس بوضوح هو دفع الصراعات إلى ميادين هشة ولكنها بالتأكيد خارج البلد المعني.
ومن هنا فإنّ التهاب الأوضاع في العراق، سوريا، لبنان، وغيرها يجري في واقع الأمر بتغذية ودعم لوجيستي من تلك الأطراف وإن لم يكن يجري نيابة عنهما في جسمه الرئيس وفي أدائه ومستهدفاته المحلية المخصوصة. بمعنى كون ما يجري، يتمّ استغلاله وترحيل مفردات صراع إقليمي لتصب الزيت المضاف في نيران مشتعلة اصلا بقوى وعناصر الإرهاب…
إن الفكرة الجوهرية من هذه الإشارات تتجسد في أن استمرار التشظي والدع باتجاه الاحتقانات والتهاب الأوضاع واشتعالها لا يكمن في الصراعات الداخلية الجارية لوحدها بل كذلك في التدخلات وفي أشكال التمدد التي تنهض بها قوى إقليمية واخرى دولية.
فأما إقليميا فهي محاولة تنفيس وإبعاد المعركة الرئيسة عن المواجهة المباشرة سواء بين القوى الإقليمية أم بين كل طرف فيها والمجتمع الدولي والقوى الكبرى. وعلى سبيل المثال فإن إيران استطاعت طوال العقدين الأخيرين أن تدفع عنها الضغوط الإقليمية والدولية وتُحدِث تنفيسا يناسب نظامها ومحاولاته الإفلات من العقوبات أو التفاعلات الأممية؛ وقد فعلت إيران ذلك بوساطة أذرعها المباشرة والأخرى غير المباشرة التي أقام بعضها علاقات تبادل مصالح وتحالفات تكتيكية. وتلك الأمثلة التي نشير إليها تتضح بقراءة بعض العلاقات والتحالفات من قبيل الجسور مع حزب الله والميليشيات العاملة بالعراق بعد العام 2003 وحماس وغيرها…
إنّ الوضع العام السائد يشير إلى ضعف الدول وشيوع حالات عدم الاستقرار وهزال الأداء الحكومي مقابل انفلات الشارع ووقوعه أسيرا للقوى المتشددة من جهة ولخطاب طائفي [سياسي] تضليلي مع انكسار نسبي للقوى الوطنية الديموقراطية. ويمكننا الاطمئنان إلى الاستنتاج القائل: إنَّ لعبة الاختراقات المتبادلة وانتشار الجريمة باشكالها بخاصة منها تلك التي توقع ضحاياها من المواطنين المدنيين هي التي ستستمر لمدى ما كاستراتيجية لبعض القوى النافذة…
وللرد على هذه المجريات والوقائع المشحونة بالعنف والاصطراعات، سيكون على اي بلد أن يتخذ وسائل تحصين وجوده من جهة وأن يدخل في حال من التحالف أو من الاستثمار لأفضل العلاقات التي تتصدى للجريمة ولما تثيره من قلاقل واضطرابات.
ولقد نجحت كوردستان تحديدا في الخروج من المآزق الموضوعة في طريقها ونجت من الطائفية والإرهاب فتخلصت من الطائفية باعتمادها الاستراتيجي على نهج توكيد بناء الدولة المدنية ومؤسساتها الدستورية السليمة. والنهج المدني في كوردستان يتعمد وسط اتجاهات ثيوقراطية لحكومات بعض بلدان المنطقة منها جانب كبير من سياسات قيادة الحكومة الاتحادية ببغداد. ومع كل الضغوط الجارية فإن القضية أبعد تفصيلا وتعقيدا عند تعلق الأمر بالضخ الإعلامي والشحن الجاري الأمر الذي جوبه باهتمام استثنائي بثقافة المجتمع وتنويره إعلاميا سياسيا وبخطاب ثقافي تنويري واضح لا لبس فيه.
وتخلصت من الإرهاب بتعزيز جاهزية المؤسسات الحكومية ومنها الأمنية لكنها لم تعمد لنهج العسكرة والتجييش ولا إلى حصر الحلول بالمعالجة الأمنية منفردة بل استثمرت الخطاب الثقافي من جهة والتعبئة الشعبية بإطلاق الحريات ومنح الجماهير ثقة باعتماد التداول الديموقراطي مع معالجة أبرز خلفيات الإرهاب ممثلة بالجهل والتخلف والأمية من جهة وبالبطالة والفقر من جهة أخرى. فكانت نسب الأمية والبطالة والفقر هي الأدنى بفضل كثير من المشروعات والخطط البنيوية.
إذن الحل في مجابهة الاضطراب وانعدام الاستقرار يكمن في مواصلة استراتيجيات إيجابية تم تبنيها منها:
1. تعزيز المسيرة الاقتصادية بخطط الإصلاح وإطلاق المشروعات الاستثمارية في الميادين المنتجة من قبيل الزراعة والصناعة التي يتطلبها الوضع بكوردستان.
2. الارتقاء بالتعليم الأساس والجامعي والاتساع به بالترادف مع اهتمام مميز بالثقافة وخطابها ومؤسساتها. وطبعا تخصيص ميزانيات استثنائية بهذا المجال.
3. توظيف أفضل أشكال التطوير للأجهزة الحكومية المعنية منها الأمنية والعسكرية بما يجعلها بجاهزية متنامية من جهة وبما يدخلها في إطار مد الجسور للاستفادة من القوى الكبرى بهذه الميادين.
4. اعتماد نظم متطورة للحكم الرشيد واعتماد التكنوقراط في العمل والإنجاز مع اهتمام مخصوص بالتنمية البشرية بتفاصيلها كافة.
5. إدارة ملفات الأزمات على وفق استراتيجيات مدروسة مع تكتيكات تتناسب والحالات الجارية آنيا. الأمر الذي يتطلب مراكز بحوث وعلاقات مفتوحة على القوى والمكونات الشعبية المتنوعة.
6. عدم السماح لعناصر الخبث المرضي من التسلل إلى المجتمع الكوردستاني بخاصة تلك المغلفة زورا وبهتانا بالدين أو تلك التي تضمر أمرا وتظهر آخر ولكنها في النهاية تعادي مصالح شعب كوردستان.
7. اهتمام باستقطاب علاقات دولية واسعة وفتح جسور اتصال وتبادل مصالح بأسس ثابتة استراتيجيا.
إنّ جملة هذه الخيارات الثابتة أو الاستراتيجية ستعني تحقيق منجزات نوعية مستقرة وبعيدة المدى وأن اية خروقات لن يمكنها أن يتسع او يثير قلقا في ظرف عام ثابت الاستقرار.
وأول تباشير إدارة تلك الاستراتيجيات التوجه لتشكيل حكومة تعتمد التكنوراط وتتجنب فلسفة المحاصصة الضيقة وتضع في الاعتبار المهام والبرامج باولوية على التفاصيل الأخرى فضلا عن تجنبها أي احتمال للإقصاء أو الاستبعاد وطنيا. ومن التباشير الأخرى التي تؤشر سلامة الاتجاه اعتماد العقل العلمي ومراكز البحوث والدراسات مع تغييرات نوعية في مجال التعليمين الأساس والعالي مع فتح المجال للاستثمار غير المحصور بالشان العقاري بل الذي يلج مختلف فنون الصناعة الخفيفة والثقيلة وشؤون الزراعة سواء ما يخص المحاصيل الاستراتيجية أم المحاور الأخرى كما قضية تنمية الغابات والاهتمام بالبيئة وطبعا الاهتمام بمطالب الإنسان الكوردستاني بوصفها أولوية عليا في الشؤون الخدمية، الصحية وغيرها….
وإنه لمما يثير الغبطة والمسرة أن نجد كوردستان كما رمزها تاريخيا شمسا مشرقة بالخير والنجاحات المميزة الكبيرة. وتلكم صورة جديدة لكوردستان 2014 وما سيليها.