د. عماد الدين الجبوري
لقد تميزت سياسة الدولة الصفوية (1501-1636) بطائفية دموية فتاكة. حيث سفكت من خلالها دماء المسلمين بدعوى فرض المذهب الإثني عشري. ورغم أنه لا يوجد دليل قطعي متواتر من أئمة آل بيت النبوة يجيز فيه قتل المسلمين بدوافع طائفية. وكذلك لا يوجد حيث نبوي شريف حول هذا الشأن، أو في سب صحابته وقذف زوجاته، أو أية سلبية دينية تتعلق بالرعيل الأول في الإسلام. لكننا نود في هذا الصدد أن نستكشف جانباً آخراً يتصل بما وراء هذه الوضعية السّفاحية التي تنال من المسلمين السّنة دون سواهم.
وكما هو معروف أن إسماعيل الصفوي (892-930 ه/1487-1524 م) مؤسس الدولة الذي فرض المذهب الإثني عشري في 1508، وقتل خلال حكمه نحو مليون مسلم سّني داخل إيران، وشرد أعداداً هائلة منهم إلى دول الجوار. وشن جميع حروبه ومعاركه ضد البلدان الإسلامية. فإن إسماعيل هذا لم يتجاوز سن الرابعة عشر عاماً عند قيام دولته، منها أربعة سنوات قضاها يتيم الأب مع عائلته في سجن “قلعة أصطخر”، وخمس سنوات في كنف كاركيا ميرزا حاكم لاهيجان؛ وهو دون سن العشرين عندما فرض عنوة المذهب الشيعي. وبالتالي كيف يتسنى لصبي مراهق لم يكتمل نضجه العقلي والبدني أن يؤسس ويقود وينفذ المهام الجسام لدولة وليدة تنتهج علناً معاداة السواد الأعظم من المسلمين؟ وما هي القدرات التي كان يمتلكها، حيث شجعته ومكنته في إباحة القمع والبطش والقتل الطائفي؟ ولماذا كان الأختيار للإثني عشرية وربْطِها بالجعفرية، وليس بالخماسية في الزيدية، أو السبعاوية في الإسماعيلية؟ ولماذا كان يرتع المجوس واليهود والمسيحيون في أمان ورعاية، بإستثناء المسلمين من أهل السّنة؟
إذاً لا بد وأن تكون هنالك قوة خفية تقف وراء هذا الصبي إسماعيل، الحفيد الخامس للشيخ إسحق صفي الدين الأردبيلي (650-735 ه/1252-1334 م) الذي كان صوفياً شافعياً. حيث إستطاعت هذه القوة الخفية مع أنصاره الصفويين أن تنشأ دولة طائفية تعمل على شق وحدة المسلمين، وإضعاف قوتهم عبر النزاعات السياسية وإثارة الفتن المذهبية وشن الحروب العدوانية.
وهذا ما أستمر عليه عباس الصفوي (1588-1629) الذي يضاهي إسماعيل في إباحية القتل والتنكيل والتشريد للمسلمين السّنة في إيران والعراق وأفغانستان وغيرها. حيث أستلم الحُكم وهو في سن السابعة عشر من عمره، فكيف لعقلية ونفسية شاب في مقتبل حياته أن يكون سفاكاً سفاحاً عتيداً يروم القضاء على غالبية المسلمين؟ ولماذا كانت حروبه أيضاَ داخل العالم الإسلامي، ويوطد علاقته مع الدول الأوروبية؟
عندما يشير السفير البرتغالي في الصين، بيريز تومي، أثناء زيارته لإيران ما بين 1511-1512، قائلاً عن إسماعيل: “كان يقوم بإصلاح كنائسنا ويدمر مساجد السّنة”. فهي ليست فقط ضمن الأدلة الكثيرة التي تكشف حقيقة الصفوية المضادة لجوهر الإسلام وشمل للمسلمين. بل تساعدنا أيضاً على كشف الخفايا التي بقت مستترة، والتي نستطيع أستشفافها من خلال مجريات الأحداث والمُعطيات. وبذا نقول مايلي:
أولاً: أن الشعوبية الفارسية واليهودية هما وراء الطائفية الصفوية. فقد كان الشاعر أبو القاسم الفردوسي (935-1020 م) من قادة الحركة الشعوبية وهو يهودي. إذ لم تخمد الحركة الشعوبية الفارسية المدعومة من اليهودية، لكن الخبرة والممارسة جعلتها تعمل في الخفاء. فإذا حققت أهادفها، كان ذلك مرامها، وإن لم تسطيع، فإنها لم تكشف عن نفسها.
ثانياً: أن الصفويين بالقدر الذي كانوا يتطلعون لبناء دولتهم، وتوظيف ما يخدم سياساتهم التوسعية، فإن الإتجاه المبكر بفرض المذهب الإثني عشري ومعاداة عموم المسلمين بالقتل وبالطش، تؤكد حقيقة أن الشعوبية الفارسية واليهودية هما وراء الصفويين في هكذا سياسة طائفية دموية لا تضر إلا المسلمين، ولا تنفع إلا أعدائهم. ويكفي أن الدولة العثمانية التي وصلت إلى محاصرة فيينا عاصمة النمسا في 935 ه/1529 م، قد توقفت وأخذت تتراجع تدريجياً من غزو بلدان أوروبا الغربية جراء محاربة الصفويين لهم من الظهر.
ثالثاً: إن إختيار الأثنا عشرية في المذهب الشيعي لم يكن عشوائياً، بل مدروساً لخلط الحقائق وتزييفها. حيث أن الإمام المنتظر ما زال زمنه مفتوحاً، ولحين ظهوره كحقيقة واقعة، أو أنه وهّماً مدسوساً، ففي كلتا الحالتين يستطيع أعداء الإسلام أن يدسوا خفاياهم من أفكار ومعتقدات تشطر المسلمين. وإن إضافة إسماعيل الصفوي: “وأشهد أن علياً ولياً الله” في الآذان الصفوي، ليس حباً وتيمناً بعلي، فالإمام كرم الله وجهه لم يأمر بقتل المسلمين بنوازع طائفية؛ ويكفي رده على رسالة ملك الروم أثناء قتاله ضد معاوية. بل حتى هذه الإضافة أشك بأنها من وحي أفكار إسماعيل، وإنما هي من القوة الخفية التي تقف خلفه وتدعمه. فرسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: “كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”.
رابعاً: قد يشترك بشكل غير مباشر بعض علماء الشيعة في جنوب لبنان خصوصاً، وجنوب العراق عموماً، عندما أستوردهم إسماعيل لنشر التشيع الإثني عشري في إيران. حيث تحول هذا التشيع من المذهب العربي الواضح في البناء والعقيدة الصحيحة، إلى التشيع الصفوي الغامض والغريب في معتقداته. حتى وصل الأمر إلى تلويث وتشويه المذهب العربي بأفكار وأقوال ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها علي سبيل الذكر لا الحصر “التقية” التي هي ليست من معتقدات المذهب الجعفري أصلاً. فالهدف الصفوي، كما شخصه المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي (1352-1395 ه/1933-1977 م)، أن يتم مزج القومية الفارسية بالمذهب الشيعي لخلق هوية إيرانية جديدة يتقدم فيها الأعجمي على العربي. بينما الإمام جعفر الصادق يقول: “نحن قريش وشيعتنا العرب، وسائر الناس علوج الروم”.
خامساً: أن الصفويين الجُدد في إيران اليوم، هم الإمتداد الطبيعي لذلكم الصفويون. ألم يُلمح الخميني (1902-1989) عن شعوبيته في “الوصية السياسية” قائلاً: “أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في العصر الراهن أفضل من أهل الحجاز في عصر رسول الله”. ولو لم يكن الباعث شعوبياً، ما طرح الخميني هكذا مقارنة لا يستقيم فيها الزمان والمكان بالرسالة السماوية عن الخطاب البشري. ومثلما كان في عهد إسماعيل وعباس بمهاجمة المناطق العربية، ففي عهد الخميني والخامئني تجد الأمر عبر صيغ التدخل السافر والمشين في شؤون العراق ولبنان واليمن والبحرين والسعودية والكويت ومصر، سواء عبر دعم الميليشيات أو الحركات الطائفية أو شبكات التجسس.
وعن الصلة بين نظام الملالي وإسرائيل نشير إلى ما جرى في 1980، حيث قام أحمد كاشاني، النجل الأصغر لآية الله أبو القاسم كاشاني بزيارة إلى إسرائيل لمناقشة مبيعات الأسلحة والتعاون العسكري ضد البرنامج النووي العراقي. ولقد أيد هذا الإتصال المسؤول الإيراني المنشق محمد رضا زاده الذي فر من إيران عام 1985.
أما عن التعاون بين الطغمة الصفوية الحاكمة في إيران والمحتل الأمريكي للعراق منذ العام 2003، فقد أكده مبكراً كبار المسؤولين الإيرانيين من هاشمي رفسنجاني ومحمد أبطحي وغيرهم. فالأخير بختام أعمال مؤتمر الخليج في أبو ظبي 15-1-2004 قال: “لولا إيران ما سقطت كابل وبغداد”. وكذلك ما فعلته فِرق الموت الصفوية والميليشيات المرتبطة بإيران، وما تفعله قوات سوات وبقية الدمج بوحدات الجيش والشرطة الإتحادية والأجهزة الأمنية، فهي المقامع الدموية الصفوية التي تفتك بالنسيج الإجتماعي العراقي.
أنها الصور المستنسخة لِما فعله إسماعيل وعباس قبل أربعة قرون من الزمن. وكذلك تبيان الصلة الخفية بين الشعوبية الفارسية واليهودية ضد العرب خصوصاً والمسلمين عموماً. وما التشبث بالمذهب العربي الشيعي إلا غطاءً يلتف فيه الصفويون بحجة الدفاع عنه والحفاظ عليه ليتدخلوا بشؤون الآخرين. ولقد أعترف أستاذ الحوزة العلمية في مدينة مشهد المعمم محمد علي الشيرازي لجريدة القبس الكويتية بتاريخ 15-10-2004، حيث قال: “إن من حق إيران أن تتدخل في شؤون الشيعة في كل مكان، لأنها هي ولية الشيعة، ووجود عناصر إستخبارية إيرانية بالعراق ليس جريمة سياسية، لأن العراق بلد شيعي وتوجد به العتبات المقدسة والمرجعية الدينية”.
إن هذه الصلافة والقباحة والتزييف لا تخجل منه عمائم الدّجل الصفوية، حيث يبيحون لأنفسهم بتحريف المذهب والدين والأخلاق. وهذا هو تشيعهم الصفوي، وعقيدتهم الطائفية، وعنصريتهم التي يقف ورائها الشعوبيون واليهود ضد العرب وبلدان المسلمين.
أستنتاج
كان صعود الصفويون جراء الصراع السياسي والقتال التركماني-التركماني المستمر بين قبائل قرا قويونلو (أصحاب الخراف السوداء)، وقبائل آق قويونلو (أصحاب الخراف البيضاء) الحاكمة لبلاد فارس والتي تواليها الصفوية. إذ بعد مقتل جد إسماعيل الصفوي الشيخ جنيد بن أبراهيم في العام 1460 بمعركة ضد حاكم شروان السلطان خليل التركماني الموالي لقرا قويونلو، ألتف حول أبنه حيدر (أب أسماعيل) أنصار الصفوية، فراح يرص صفوفهم وينمي قدراتهم، وميزهم بقلنسوة حمراء فيها إثنتي عشرة ذؤابة دلالة على الأئمة الإثنا عشر. وبعد مقتل حيدر بمعركة في طبرستان عام 1488، وإشتداد الصراعات، أستغل الصفويون ركاكة الوضع وأمّروا عليهم إسماعيل فخاضوا المعارك وأستولوا على عدة مُدن، ثم هجموا على تبريز عاصمة الآق قويونلو وأسقطوها، ليبدأ تاريخ الدولة الصفوية.
رغم أن القراءة التاريخية تتجه إلى جعل الصفوية قوة ذاتية فيها عقيدة شيعية أستطاعت إستغلال الأوضاع السياسية لتبسط سيطرتها وتعلن دولتها التي إستمرت لأكثر من قرنين. لكن عندما نتابع الأحداث والتكوين التي أنتقلت فيها الصفوية من حركة صوفية شافعية إلى كيان سياسي طائفي، يشوبها الكثير من الغموض. خصوصاً وإن الفترة الزمنية بين إسماعيل مؤسس الدولة وجده الأعلى الشيخ أسحق صفي الدين تمتد إلى مئتي سنة. فالحركة المنسوبة إلى الأخير، فإن إسحق عندما نزل في أردبيل عاصمة أذربيجان في إيران، أعتنق حركة صوفية إجتماعية، وبعد زواجه من أبنة شيخ الطريقة، وصل إلى ترأس هذه الحركة في العام 1300، وأدخل فيها تعليمات وتغييرات لتشترك بالمعترك السياسي. وهنالك تضارب بين الباحثين والمؤخين حول حقيقة أصله، فمنهم من ينسبه إلى أصل عربي يعود إلى الإمام موسى الكاظم. ومنهم من ينسبه إلى أصل كردي أو تركماني. وهذه الإختلافات تربك البحث عن الحقيقة، والغاية من أجل غمطها وتحريفها لأسباب تضادية سلبية.
إلا إننا نستطيع أن نستنبط من الحركة الصوفية على عهد الشيخ أسحق وما صارت تُعرف بالقزلباشية في عهد إسماعيل الصفوي. حيث إجتمعت من حوله العديد من القبائل التركمانية أمثال: أستاجلوا، شاملو، بنكلوا، بهارلو، أفشار وغيرها، فألبسهم “تاج حيدر”: قلنسوات حمراء بخصالها الإثنتي عشرة. وتسمية “القزلباش” باللغة التركية تعني: القزل (الأحمر)، والباش (الرأس). علاوة على أن القزلباشية فرقة دينية محسوبة على المذهب الشيعي، فيها تركمان وأكراد ينتشرون ببعض مناطق تركيا، ومقاربة الأفكار والعقائد إلى الفرقة “النصيرية” في سوريا، الذين يسمون أنفسهم “العلوية” نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب. ومما يؤخذ عليهم جميعاً، إنهم يخالفون التعاليم الإسلامية لا سيما بإداء الفرائض الدينية الرئيسة، ولهم معتقدات لا يقرها الإسلام. ولذلك تجدهم في حالة جفاء أو عِداء مع أغلب المسلمين، وفي حالة وئآم مع غير المسلمين.
ومن هنا ندرك مرحلة الإنتقال للحركة الصفوية من الصوفية الشافعية إلى القزلباشية الشيعية. وكذلك ندرك أبعاد توظيف القبائل التركمانية في خدمة المشروع السياسي الصفوي. وبما أن الحركة الشعوبية لم تنقطع عند الفُرس المتعصبين العنصريين، وإن تعاون اليهود مع الفرس يعود إلى عهد قوروش الثاني الذي مكنوه من الإستيلاء على بابل في العام 539 قبل الميلاد، والذي مكنهم من العودة إلى فلسطين بعد سبي نبوخذنصر لهم في العام 586 قبل الميلاد. وصولاً إلى التعاون الخفي القائم بين عمائم إيران وإسرائيل. فإن هذه القوى الظلامية لا يمكن أن تكون معزولة وبعيدة عن مراحل إنتقال الصفوية نحو النهج الطائفي السلبي الذي يبرر قتل المسلمين السّنة، ويتعاون مع الإنكليز والإسبان والبرتغاليين في محاربة البلدان الإسلامية.
في القرن الخامس عشر، كان لليهود في إيران دور في الحركة الليبرالية الإصلاحية التي تدعو إلى تحويل إيران إلى دولة حديثة تتماهى مع دول أوروبا. وبما أن النص التلمودي يعتبر “بابل الآثمة وآشور أرض الخطيئة” ويطالب اليهود أن “خربوها وأجعلوها لا تسكنها إلا الفئران، وهدموها حتى لا يجد العربي عموداً يربط إليه ناقته”. فهذه العقيدة تلتقي مع حركة الشعوبيين الفُرس التي ظهرت في العصر العباسي الأول وما زالت موجودة. وبما أن الصفوية تمقت العرب وتقتلهم بذرائع مذهبية دينية مصطنعة، إذاً لا يمكن أن تكون بعيدة الصلة عن الشعوبية واليهودية في إيران. فالإشتراك فيما بينهم واضح وجلي، وما قامت به الدولة الصفوية طيلة تاريخها، يؤكد إستنباط هذه الحقيقة.
وكما جرى مع الصفويين السابقين، فقد جرى مع الصفويين اللاحقين. ففي أيلول 1979 أستقبل الخميني في طهران لخمسة من أكبر الحاخامات، ووعدهم بأن اليهود لن يكونوا عرضة للأعمال المعادية. وإن بعض المنظمات مثل: “منظمة المثقفين اليهود التقدميين” و “جمعية يهود طهران” وكذلك “الرابطة الثقافية والإجتماعية اليهودية” كانت لها دورها السياسي بعد الثورة. بل أن يهود طهران كانوا جسر الوصل ما بين إيران الخميني وإسرائيل. كما جاء في كتاب “اليهود في إيران” لمؤلفه مأمون كيوان.
ولذلك فإن الشعار الذي رفعه الخميني في بداية الثورة: “اليوم إيران وغداً فلسطين” وإستبداله سفارة الكيان الصهيوني بطهران بسفارة فلسطين، لم يكن أكثر من إجراء مرحلي يخص السطح الظاهر لا العمق الباطن. ناهيك بالحديث عن شعاراته: “الشيطان الأكبر” أمريكا، و “دول الإستكبار العالمي” العالم الغربي. فما حدث من تعاون إيراني أمريكي بإحتلال بلدان المسلمين في أفغانستان والعراق يغني عن التشعب بالحديث. إذ هي ذي الصفوية، وهو ذا مَنْ يقف ورائها ماضياً وحاضراً وسوف تستمر مستقبلاً، إلا إذا تظافرت الجهود ضدها.