محمد قاسم الصالحي
ينبئ الحراك الإحتجاجي المتمثل في المظاهرات التي تشهدها المدن ذات الأغلبية السنية في العراق عن نقطة إرتكاز تتمحور حولها معظم المطالب والشعارات المرفوعة، حيث تتجسد تلك النقطة في سعي أطراف الحراك الأساسية لإعادة إنتاج النظام السياسي القديم (ما قبل 2003) عبر إنقلاب ناعم يتدرج في التصعيد الممنهج للخطاب الإعلامي والسياسي بالترادف مع تصعيد مماثل في وتيرة السلوك الإحتجاجي الذي تتحكم في رسم إتجاهاته أجندة خارجية تتبادل التأثير عليها أطراف عدة ترنو لتقوية أدوارها الإقليمية على حساب العراق. لذا فأن التبعية المفضوحة للخارج الى جانب الشعارات الإنقلابية المرفوعة من قبل أطراف الحراك مع ما إنطوت عليه من تضاد في المواقف من النظام السياسي الجديد وتنافر في الاهداف مع الحياة الدستورية في العراق يؤدي بالنتيجة الى خلع الصفة القانونية عن هذه المظاهرات وتجريدها أيضا من الشرعية السياسية التي تمنحها الدساتير للإحتجاجات الإصلاحية الممكن لها أن تحدث في النظم الديمقراطية الأخرى.
أن طبيعة الشعارات والتصريحات الفئوية وما رافقها من مطالب طائفية وأخرى تجاوزت السقف الدستوري كانت قد أفصحت وبشكل واضح لايقبل الجدل عن خلفية المشهد وجوهر الهوية السياسية والفكرية لأطراف الحراك. حيث تقف الأجندة الخارجية وبالدرجة الأساس المحور (القطري – التركي) في مقام (البوصلة) الموجهة لذلك الحراك والباعث لما أفرزه من شعارات ومطالب لاتقف عند حدود إصلاح النظام السياسي في العراق كما جرت العادة في الأنظمة الديمقراطية بل دفعت بالمتظاهرين الى التجاسر لرفع شعارإسقاط النظام السياسي برمّته وإلغاء الدستور الذي أقره الشعب العراقي وفق إستفتاء شعبي شاركت به كافة المكونات العراقية بما فيه السُنة العرب في المدن المحتجة اليوم، ولم يقتصر العبث المنهجي لهذا المحور الإقليمي عند هذا الحد بل تمادى في الدفع بالتشكيلات التابعة لتنظيم القاعدة لتبوأ المواقع القيادية لهذا الحراك الإحتجاجي الجاري في العراق اليوم والتبشير عبر وسائل الإعلام التابعة لهم أو المدعومة من قبلهم بإمكانية التحول الى الخيار المسلّح (إذا إقتضت الضرورة)، تلميحا الى إحتمالية إستنساخ تجربة العنف الجاري على الساحة السورية اليوم . ويأتي الدفع من قبل هذه القوى الإقليمية بإتجاه عدم إستقرار العراق تكريسا لمطامحهم السياسية وأطماعهم الإقتصادية داخل العراق وتنشيطا لأدوارهم المشبوهة التي مورست في العديد من الساحات الإقليمية الأخرى وخصوصا تلك التي تمارس من قبلهم اليوم في الساحة السورية، فلا يخفى على الجميع تغذية هذا المحور (القطري – التركي) للعنف الممنهج هناك وسعيه الدؤوب لإجهاض فرص الحل السياسي التي من الممكن لها أن تسهم في حقن دماء الشعب السوري وإشاعة الإستقرار في المنطقة .
كما أن البعث الصدامي الباحث عن إنتصارات وهمية وسط الحراك، والطامح للتسلط على رقاب العراقيين من جديد، قد شكّل بوجوده الطرف الثاني من أطراف الحراك الإحتجاجي. فمن الطبيعي أن يكون لفصائل البعث حضورا فعـّالا في قلب المشهد الإحتجاحي، خاصة مع إقتران عقليتهم الإستبدادية مع إرهاب الزمر السلفية ومفردات الأجندة الخارجية الرامية لتكريس التداخل المذهبي السياسي (الطائفية السياسية) وتأزيم الموقف والدفع بالحراك الشعبي في تلك المدن نحو المزيد من التصعيد، بل والرهان على المطاولة التي تتيح لهم التخطيط لإفتعال الأزمات في أماكن أخرى من العراق أملا في توسيع رقعة المظاهرات اليها في المستقبل.
أما الطرف الثالث في التظاهرات الجارية اليوم هم ممن إختلطت عليهم الأمور بعد إلتحاقهم في خضم الحدث، ففي الوقت الذي تحققت معظم مطالبهم من قبل الحكومة العراقية ألا أن إفتقارهم الى هوية فكرية أو ثقافية نتج عن تخبط في الرؤية والوقوع في مصيدة الشعارات المغرية والآمال الوهمية والحماسة الملتهبة التي تقوم بتأجيجها الأطراف الآنفة الذكر ووسائل الإعلام الداعمة لهذا الحراك بدءً بالجزيرة والعربية وليس إنتهاء بقناة الشرقية والرافدين وبغداد، حيث تتدرج تلك الفضائيات في تصوير وتضخيم الحدث في عقول هذه الشريحة من المتظاهرين، ففي الوقت الذي تصف فيه قناة الشرقية الأمر بـ (الإحتجاجات الغاضبة الآيلة للإنفجار) تنأى قناة بغداد أكثر لتصف الحراك الجاري بـ “الإنتفاضة الشعبية” ، ومن ثم تذهب قناة الرافدين التابعة للشيخ الضاري أبعد من ذلك بكثير لتصف ما يجري من حراك بـ “الثورة الشعبية” في محاولة منها لإستمالة المتظاهرين الى تبني وسائل العنف لإسقاط الدستور وإكتساح العملية السياسية في بغداد.
يشير ما سبق الى أن الإحتجاجات الجارية في العراق اليوم منغمسة بالفعل في مستنقع الطائفية والصراعات الإقليمية في المنطقة، حيث يشكل الحراك القائم ظاهرة غير مسبوقة تعكس تحولا سلبيا طارئا في طبيعة الخيارات السياسية للسنة العرب في العراق، وبما “ينذر” بخلق أزمة حقيقية في العراق لن تقتصر آثارها على علاقة المكون السني ببقية المكونات العراقية، بل أن السلبية المتمثلة في التبعية للخارج والتماهي مع تطلعات البعث والقاعدة، تؤكد حتمية إنشطار تلك الخيارات المستجدة ومن ثم تقاطعها بشكل قد يؤدي الى إحداث مأزق سياسي وإجتماعي حاد داخل المكون السني نفسه، فضلا عما هو مؤكد ولايقبل الشك في أن بقية مكونات الشعب العراقي تنظر اليوم بعين الريبة لمفردات الخطاب السياسي والإعلامي في ساحات التظاهر وترصد عن كثب الإنفصام التام للسلوك الجاري في ساحات التظاهر عن الكيان الوطني العراقي وابتعاده الكلي عن المصلحة الوطنية العليا للعراق.
وفي الوقت الذي نثمّن فيه التوجه بالشكر لشريحة من المتظاهرين من قبل دولة رئيس الوزراء العراقي في إحتفالات (عيد المرأة العالمي) .. الكلمة التي قال فيها ” أوجه الشكر للاخوة المتظاهرين الذين رفضوا خرائط التقسيم الطائفية ومزقوها ، والذين تصدوا لدعوات التقسيم التي تطلق من منصات التظاهر”.. فقد يعكس ذلك إدراك الحكومة العراقية التام لتفاصيل وخلفيات المشهد وقدرتها على إستيعاب الحراك الإحتجاجي السلمي حينما يكون متحركا ضمن النطاق الذي حدده الدستور، لكن وفي نفس الوقت لابد أن تقابل كلمات الشكر والإقناع الودي لتلك الشريحة، سياسة ممتزجة بالحزم من قبل الحكومة لأطراف الحراك الأخرى، أي :أن لاتمتد مساحة التسامح الرسمي لتشمل البيادق التي تحركها الأجندة الخارجية الهادفة لإعاقة المسار الأمني والتنموي في العراق، والتي لم يقتصر تجاسرها على المطالبة بإسقاط النظام السياسي وإلغاء الدستور والنزوع الى إسقاط هيبة الدولة بالزحف الى العاصمة بغداد، أنما إبتدأت بالتلميح في الدعوة الى الجهاد تماهيا مع الفتاوى التحريضية على العنف التي تكللت في دعوة القرضاوي الأخيرة للمتظاهرين بتصفية رئيس الوزراء العراقي والتي تعني فيما تعنيه إسقاط الشرعية المنتخبة بطرق إرهابية غير دستورية تمهيدا لتصفية الديمقراطية في العراق الجديد.
وفي ذات الوقت تبرز الحاجة أيضا الى إعادة النظر في العلاقات الديبلوماسية والإقتصادية مع الأطراف الخارجية الداعمة للبيادق الإحتجاجية في ساحات التظاهر اليوم، فأن حراكا من هذا النوع يستثمر الأجواء الديمقراطية لإعاقة التفاعل الإجتماعي وعرقلة التقدم الإقتصادي وتكريس التوتر الأمني خليقا بأن يثير الشكوك في نوايا أطرافه. بمعنى أدق فإن لكل علة معلولاَ، وحراكا إحتجاجيا من هذا النوع يرافق المحور (القطري- التركي) جنبا لجنب ويصافح (البعث والقاعدة) كتفا لكتف لن ينتج إطلاق العنان له إلا عن الإنقضاض على المسار الدستوري والإجهاز على كل ما يمكن أن يبعث الحياة الديمقراطية في العراق الجديد.