الممثل والسياسي..
نهاد الحديثي
السياسة هي البحث الدائم عن المصلحة و المنفعة. و الغاية هذه تبرر الوسيلة. والوسيلة هي الكذب مهما تم تجميله و توريته. و بالكذب تسود جماعاتٌ و أُممٌ و تذوي أُخرى. في مسرحِ الحياة.أ,, اشهر الزعماء كان لهم عبور في المسرح أو السينما دون أن يلفتوا نظر الناس قبل أن تسطع نجومهم في سماء السياسة,في المشهد السياسي العالمي نماذج عديدة لشخصيات شقت طريقها نحو السلطة مرورا من المسرح أو بلاطوهات السينما، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قدم بعض الأدوار الهامشية ككومبارس في عدد كبير من الأفلام والمسلسلات، وقبله قدم الرئيس رونالد ريغان أدوارا مغمورة في السينما الأمريكية، وفي الفلبين تحول ممثل يدعى جوزيف استرادا إلى رئيس للبلاد, على المستوى العربي، مارس جمال عبد الناصر التمثيل مسرحيا، وشارك في تشخيص مسرحية “يوليوس قيصر” لشكسبير، وعلى المنوال نفسه شارك محمد أنور السادات الذي أدى أعمالا فنية مطربا وممثلا ومجودا للقرآن الكريم، وغيرهما من الزعماء الذين كان لهم عبور فوق المسرح,, في المغرب، يمكن الجزم بأن أغلب السياسيين المغاربة الأوائل مارسوا المسرح، بحكم انتمائهم للهيئات الشبابية وفصائل الكشفية، وفيها مارسوا المسرح وشاركوا في أعمال يذكرها التاريخ المسرحي ,, لكن هناك أسماء احترفت المسرح قبل أن تمارس عليها السياسة جاذبيتها
يترافق التمثيل و السياسة في الغرب. و أحياناً في الشرق. لكن الغرب ينتصرُ بإبرازِ الملكاتِ التمثيلية للسياسيين بشكلٍ أفضل و بأن الممثلين يصبحون سياسيين و العكس وارد. مثلاً، يستطيع السياسي بوريس جونسون أن يخرج من بيتهِ بشعرهِ المنكوش حاملاً صينية الشاي لصحفيين ينتظرون تصريحاً منه ثم يصبحُ وحشاً كرئيسِ وزراءٍ يلقي الخطبة العصماء للنواب و الشعب على الرغم من معلومِ مخالفتهِ لقوانين حكومته في زمن الكوفيد. و سلفهُ توني بلير صاحب جورج بوش الإبن خاض مع بوش مسرحيةً كُبرى لغزو العراق و تخليص العالم من الدمار الشامل الذي كان كذبةً و قد برعَ الإثنين في التمثيلِ لتمرير الكارثة و هبط بوش على حاملة الطائرات ببزة الطيارين و قال بملء الفم المسرحي “انتهت المهمة” و كأنه توم كروز المشهور بأفلام “المهمة مستحيلة, ومن فوراتِ التمثيلِ الغريبة كان تمزيق خطاب دونالد ترمپ على يد زعيمة الأغلبيةِ في الكونغرس و هي تجلس وراءه و هو كان يلقي كلمة حال الإتحاد. كانت تقول أنه و الخطبة محض هراء. هي نانسي پيلوسي التي جلست وراء صديقها بايدن و هو يلقي خطابه قبل أيام ثم فزَّتْ من مقعدها و أشارت بقبضتيها بعلامةِ المُكايدة التي يمارسها صِغارُ السن و العقول. في الحالتين، تمثيلٌ واضحٌ في جوهرِ الممارسة السياسيةِ. و في السياسة الأمريكية تقليدٌ سنويٌ لنادي الصحافة بواشنطن يدعو الرئيس لحضوره ثم يبدأ النقد الهزلي بأسلوب التنكيت على الرئيس و إدارته و باقي السياسيين في مشهدٍ تمثيليٍ فعلاً مسلٍ و مضحك. هو مشهدٌ يريد أن يدلل على حرية التعبير و الديموقراطية. لم يرق لدونالد ترامب سماع النكات بحقه فقاطع المشهد خلال سنوات حكمه، و ترامب لمن لا يعرف يملك ماضٍ كبير في التمثيل و لا يزال يلقي النكات في عالم السياسة. و لكي لا أُتَهَمُ بانحياز النقد ضد الغرب فإن ڤلاديمير پوتين حينما يلعب الهوكي الجليدية و الجودو و يغطس فى المياه الثلجية و يركب جواده عاري الصدر يمارسُ تمثيلاً يعكسُ قوةَ تحملهِ للداخل و الخارج.
أَلَمْ نر الزعيم الكوري الشمالي يمتطي صهوةَ الجواد و يسبق كل من خلفهُ؟ قد يكونَ هو و قد يكون دوبليراً، بديلاً عنه، لكن الرسالة التمثيلية واضحة. عندنا، الرئيس أنور السادات كان بارعاً في التمثيل باختياره الظهور الدراماتيكي بملابس عسكريةٍ لامعة و بدلاتٍ مخيطةٍ بعناية أو جلابيةِ الفلاحين، مع الغليون بالطبع. و العقيد معمر القذافي كان كذلك إنِ بالجُرْد الليبي الذي يعطي كل جسده ما عدا عينٌ أو بالإفريقي. تشاڤيز فنزويلا لم يشذ عن القاعدة و لا فيديل كاسترو و لا مانديلا و لا غاندي و مِغزَلِهِ. معظم السياسيين يبرعون في التمثيل لكي يستمروا سياسيين.
لعلها من سخريات القدر ان يقوم الرجل المخابراتي الزعيم الروسي بوتين , بمهاجمة الفنان الممثل الشاب فلودومير زيلينيسكي رئيس اوكرانيا, ولعلها فعلاً من سُخريات هذا الزمان أن يبدأَ الاتحاد السوفييتي بالتفكك في عهدِ الممثل الأمريكي رونالد ريغان و أن يتولَّى الممثل الأوكراني فلودومير زيلينيسكي مسيرةَ عودةٍ للقطبيةِ التي كانت. لقد كانَ رونالد ريغان الذي أصابه الخَرَفُ في سنواته الأخيرة بارعاً في إلقاء النكات و سردِ القصص. يقالُ أنه أدارَ الإمبراطورية الأمريكية بطريقةِ التأثيرِ الهوليوودي مع أنه لم يكن بوزنِ كلارك غيبل أو توني كيرتس أو جون وين. و لكنه للحق، بَرَعَ كرئيسٍ لا تنقصهُ سرعةُ البديهة و كان ناجحاً و محبوباً من مواطنيه، و لم يكن نائبه جورج بوش الأب الذي خَلَفَهُ في الرئاسةِ بارعاً بالتمثيل مع أنهُ أدارَ مسرحَ حرب الخليج الأولى. اليوم بأوكرانيا ينتهي العصر المسرحي الهزلي لزيلينيسكي ليتقمصَ ببراعةِ الممثلْ دورَ السياسي الزعيم البطل المحارب المحاصر أمام الوحش الروسي.
الحقيقة أن السياسي و الممثل يتشاركان في التحكم بالمشاعر و إظهار ما يريده المشهد السياسي و المسرحي. ظهورهما الإعلامي محكومٌ بقواعدَ تمثيلية لإرسال الرسائل السياسية أو الترفيهية. و يتدرب السياسي كما الممثل لإتقان الدور. الملبس و اللون و حركات الوجه و اليدين و نبرة الصوت و نظرة العينين و المكان. كلها يجب أن تتوافق و الرسالة. لكن مربط الفرس هو في الاقتران بين السياسي و الممثل و الكذب! يمثلُ الممثل و هو و نحن نعلم أنه خيالٌ و لكنه لا يكذب، فهو فعلاً يمثل! هو يعطيك وقتاً تقبل فيه و تستمتع بالكذبِ الذي تعرف أنه كذلك و إن كان روايةً محبوكةً. أما السياسي فيخوض لعبة الحياة والموت الحقيقية و يكذب. و نحن نصدق كذبهُ بل و ربما نخرج تظاهراً لتأييده. ليسَ بالمطلق هذا التصديق و لكنه يكفي لشن الغزوات و قتل مئات الآلاف. السياسي يكذبُ باسمِ المصلحة العليا للوطن و المواطن، و يكذب لاستمراريةِ مستقبله الشخصي السياسي و الفئةَ التي ينتمي لها. لا ثالث لهما. و باسميهما قد يأخذ البلاد للحروب و المجاعة و للجريمة. و قد يكون صادقاً مع بلاده و نفسهِ لكن الصدقَ نادر في عالمِ السياسة. معظم السياسيين مضطرون للكذب الذي يسمونه سياسة ودبلوماسية تحفيزاً لهم للحياة ببعضِ الضمير. الجنرال كولن باول الذي عُدَّ رأسَ هرم العسكرية الأمريكية كَذَبَ في مجلس الأمن كَذِباً لا يزال يقتل العراقيين لليوم. كان كاذباً و لم يُدان و مات بعيون بلاده بطلاً قومياً. لعلها أشهرَ الكذبِات في ميدان السياسة. اليوم نعيشُ كذباتٍ كونية مثل أن الصهيونية حركةٌ إنسانية و أن أفعالها النازية بحق العرب دفاعٌ عن النفس. مِثلَ حقوق الإنسان التي تأتي بمراتب حسب العرق و اللون و الدين.