في ذكرى تأسيس”منظمة العـفو الدولية“
سـتـون عـامـا من النضال من أجل حقوق الانسـان
الدكتور عبد القادر حسين ياسين*
في مثل هـذا اليوم قبل سـتـين عـامـاً ، في السابع من أيار (مايو) 1961 فتح المحامي البريطاني الشابPeter Benenson بيتر بيننسون صحيفة The Observer “الأوبزيرفر” اللندنية ليقرأ الخبر التالي:
“أصدرت محكمة برتغالية حكما بالسجن ضد ثلاثة طلاب برتغاليين يقضي بسجنهم لمدة ثلاثة أعوام بسبب رفعهم الكؤوس في إحدى الحانات على نخب الحرية .”
وفي اليوم التالي كتب بيننسون مقالا بعنوان”السجناء المنسيون” حثَّ فيه الجميع على الشروع حالا بالعمل، وبلا تحيز، من اجل ضحايا القمع السياسي.
ومما جاء في ذلك المقال:” … افتحوا صحفكم في أي يوم من أيام الأسبوع ، فستجدون خبراً وارداً من مكان ما في العالم عن شخص ما قد سُجن أو عـُذب ، أو أعـدم ، لأن آراءه السياسية ، أو معـتقداته الدينية ، أو أصوله العـرقية ، لا تصادف قبولا لدى حكومته”.
وخلال شهر واحد من نشر ذلك المقال تقدم اكثر من ألف شخص من دول مختلفة ، وأبدوا استعدادهم للمشاركة في جمع المعلومات عن حالات السجناء السياسيين والمعتقلين ، والتعريف بها ، والتدخل في شأنها لدى الحكومات . وهكذا ، فإن ما بدا في شكل دعاية واضحة أصبح يعرف بـ “منظمة العفـو الدولية” أو (Amnesty International) .
منظمة العفو الدولية هي حركة عالمية يناضل أعضاؤها من أجل تعزيز حقوق الإنسان. ويستند عمل المنظمة على بحوث دقيقة وعلى المعايير التي اتفق عليها المجتمع الدولي. وتتقيد المنظمة بمبدأ عدم التحيّز، فهي مستقلة عن جميع الحكومات، والأيديولوجيات السياسية، والمصالح الاقتصادية، والمعتقدات الدينية.
وتحشد منظمة العفو الدولية في إطار عملها نشطاء متطوعين، وهؤلاء هم أناس يكرسون وقتهم وجهدهم طواعيةً للتضامن مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. تضم المنظمة اليوم اكثر من 2.8 مليون من الأعضاء والأنصار فيما يزيد عن 150 دولة. وينتمي هؤلاء إلى مختلف فئات المجتمع، وتـتـنوع – إلى أبعد حدٍ – آراؤهم السياسية ومعتقداتهم الدينية ، ولكن ما يجمعهم ويؤلف بينهم هو ذلك الإصرار على العمل من أجل بناء عالمٍ ينعم فيه كل فرد بالحقوق الإنسانية.
تسعى منظمة العفو الدولية، على أساس من الاستقلال والنزاهة والتجرد، إلى تعزيز احترام جميع حقوق الإنسان المنصوص عليها في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. وترى المنظمة أن حقوق الإنسان كلٌ لا يتجزأ، ويعـتمد بعضها على بعض، ومن ثم يجب أن ينعـم جميع الناس ، في كل زمان ومكان ، بحقوق الإنسان كافةً، وينبغي ألا يكون التمتع بطائفة من الحقوق على حساب الحقوق الأخرى.
وتسهم منظمة العفو الدولية في ترسيخ احترام المبادئ الواردة في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”عن طريق التصدي قولاً وفعلاً لانتهاكات الحقوق المدنية والسياسية الأساسية للأفراد.
بمجرد أن تتيقن منظمة العفو الدولية من أن ثمة حاجة للتحرك من أجل إنقاذ واحد أو أكثر من الضحايا، فإنها تبادر على الفور بحشد طاقات أعضائها في شتى أنحاء العالم. فانتهاكات حقوق الإنسان أمور مشينة، ومن ثم يحاول مرتكبوها إخفاء جرائمهم. وفي المقابل، تسعى منظمة العفو الدولية إلى تقصي الحقائق بكل دقة وتمحيص، فتوفد خبراءها للتحدث مع الضحايا، وحضور المحاكمات، ومقابلة المسؤولين ونشطاء حقوق الإنسان في البلد المعني. وبالإضافة إلى ذلك، تقوم المنظمة بجمع المعلومات عن طريق متابعة آلاف المواد التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة، ومن خلال الصلات مع مصادر المعلومات الموثوق بها في مختلف أرجاء العالم.
وثمة أهمية قصوى لذكر الحقائق بدقة ونزاهة. وفي الأمانة الدولية للمنظمة في لندن يعمل ما يزيد عن 350 موظف فضلاً عن عشرات المتطوعين. ويتولى إجراء البحوث خبراء أكفاء، ويعاونهم عدد من المتخصصين في ميادين متنوعة مثل القانون الدولي والإعلام والتكنولوجيا.
ما أن تنتهي المنظمة من جمع المعـلومات وفحصها حتى تضعها أمام أعين الحكومات، فتقوم بنشر تقارير مفصَّلة وبإبلاغ وسائل الإعلام المختلفة، وعرض بواعث قلقها على الملأ من خلال كتيبات وملصقات وإعلانات ونشرات إخبارية ومواقع على شبكة الإنترنت.
وفي الوقت نفسه، يسعى أعضاء المنظمة وأنصارها في سائر أنحاء العالم إلى حث الرأي العام على ممارسة ضغوط على من بيدهم مقاليد الحكم وغيرهم من ذوي النفوذ من أجل وضع حدٍ للانتهاكات. وتيسّر المنظمة لكل شخص أن يرسل مباشرةً خطابات ومناشدات تعكس بواعث القلق إلى مَنْ يمكنهم تغيير الوضع.
وتتباين أوجه نشاط المنظمة، من المظاهرات العامة إلى حملات كتابة الرسائل والمناشدات، ومن برامج تعليم حقوق الإنسان إلى إقامة حفلات موسيقية لزيادة الموارد المالية، ومن إرسال مناشدات من أجل أحد الضحايا إلى تنظيم حملات عالمية عن بلد أو قضية بعينها، ومن الاتصال بالسلطات المحلية في إحدى الدول إلى كسب التأييد على مستوى المنظمات الحكومية الدولية. ولا تدخر منظمة العفو الدولية جهدا في العمل على تغيير مواقف الحكومات والقوانين الجائرة، فتحرص دوماً على تزويد وسائل الإعلام والحكومات والأمم المتحدة بالمعلومات الموثـقـة، مع حثها على اتخاذ إجراءات فعَّالة.
يعمل أعضاء منظمة العفو الدولية وأنصارها في كافة أنحاء العالم على إرسال آلاف المناشدات من أجل أشخاص أو جماعات تحيق بها المخاطر، وإذا تبين أن ثمة حاجةً لتحرك عاجل في مكان ما، يُبلَّغ المتطوعون في كافة أنحاء العالم ، وفي غضون ساعات قلائل تكون آلاف الخطابات قد أُرسلت بالبريد أو الفاكس أو البريد الإلكتروني.
كل واحد من “سجناء الضمير” (prisoners of conscience) الذين تنشر حالاتهم تتبنى قضيتهم مجموعة أو اكثر من الجماعات التابعة لمنظمة العفو الدولية، والتي تتشكل من أعضاء محليين من مختلف دول العالم يتطوعون للعمل مع المنظمة، ويقومون بحملات دعاية منظمة من اجل إطلاق سراحهم . ويعتمد هذا النشاط على معلومات دقيقة ومحايدة ويهدف إلى تقديم مساعدات عملية إلى الضحايا وعائلاتهم.
وتنظم منظمة العفو الدولية ايضا الحملات التي تطالب بالقضاء على اساليب التعذيب والغاء عقوبة الاعدام التي تنفذ بحق السجناء . ويشمل ذلك محاولات منع التعذيب والقـتل في الحالات التي يؤخذ فيها الافراد إلى أماكن التعـذيب المعروفة، أو في حالات فرض عقوبة الإعدام عليهم .
ما هي النتائج؟
في نفس الاسبوع الذي صدر فيه الحكم على طالب بكلية الحقوق بالسجن لمدة ثلاث سنوات في كولومبيا، حيث القي القبض عليه ، وجَّهت المنظمـة نداء الى الحكومة الكـولومبية تطالبها فيه بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين . وبعث والـد المعـتقـل برسالة إلى منظمة العفو الدولية جـاء فيها: “لقد شعرت بفضل النداء الذي قدمتموه، فقد رفعتم صوتكم للدفاع عن ابني.. إن منظمة العفو الدولية ضوء ينير هذا العصر الذي نعيش فيه، وخاصة بالنسبة لهؤلاء الذين تظلم عيونهم عندما تغلق ابواب السجن خلفهم ، وعن طريق التضحيات التي تقدمونها تمتد أشعة النور لتشمل دائرة تتسع يوما بعد يوم لتصل إلى أولئك الذين يحتاجون إلى النور( وما أكثرهم في بلادنا) في غياهب السجون والمعتقلات.”
بعض المعتقلين جرى إطلاق سراحهم بعد تبني قضاياهم ، والبعض الآخر حصل على حريـته بعـد صدور قرارات العفـو العام، والباقون امضوا فـترات العقوبة المقررة قبل استعادة حريتهم.
والمنظمة لا تنسب لنفسها الفضل في إطلاق سراح أي سجين أو معتقل سياسي ، حتى إذا كانت تبحث في قضيته وتتبناها أو تنظم الحملات التي تهدف إلى إطلاق سراحه، ولكنها لا تضن بأي جهد في سبيل تحقيق أهدافها. وتحاول منظمة العفو الدولية أن تقدم مساعدات حقيقية لاصحاب القضايا التي تتبناها. وتعتبر الدعاية الدولية عن قضاياهم أمرا في غاية الأهمية ، وكذلك إرسال رسائل ونداءات . وغالبا ما تقوم بعثات المنظمة بمقابلة السجناء، وقد تضم أطباء للكشف على ضحايا التعذيب وتساعد في تامين علاج افضل للسجناء.
كما تعمل المنظمة ، على قـدر الامـكان ، على تأمين الرعاية الخاصة واعادة التأهيل بعد إطلاق سراحهم. وصناديق المعونة ينفق ريعها في شراء الأطعمة والملابس والاحتياجات الأخرى لكل من السجناء وعائلاتهم .
تعلق منظمة العفو الدولية أهمية كبرى على مصداقية ودقة وحيادية تسجيل الحقائق. وتعتمد أنشطتها على البحث العميق في الادعاءات التي تشير إلى الانتهاكات ضد حقوق الإنسان .وتقوم الأمـانة العـامـة بجمع وتحليل المعلومات من مجموعة كبيرة من المصادر المختلفة التي تشمل مئات الصحف والمجلات والمطبوعات والنشرات الحكومية وتقارير المحامين والنصوص الإذاعية علاوة على آلاف الرسائل التي تتلقاها من المعتقلين أو أفراد أسرهم. وتتحمل منظمة العـفـو الدولية المسؤولية الكاملة عن التقارير التي تنشرها .
تعتبر منظمة العفو الدولية هيئة محايدة أنها لا تؤيد ولا تعارض أية حكومة أو نظام سياسي كما أنها ليست بالضرورة تؤيد أو تعارض أفكار السجناء الذين تسعى جاهدة إلى حماية حقوقهم واهتمامها الوحيد ينحصر في احترام حقوق الإنسان التي تتعرض إلى الانتهاك في أية قضية ، بصرف النظر عن أيديولوجية الحكومة أو معتقدات الضحايا. ومن خلال جهودها التي تهدف إلى تحريك الرأي العام العالمي ، فإن منظمة العفو الدولية لا تؤيد ولا تعارض حملات المقاطعة الاقتصادية أو الثقافية ، ولكنها تقف بحزم ضد إرسال المعـدات العسكرية، ومعدات الشرطة وقوات الأمن والخبراء من الأسواق العالمية إلى الحكومات التي تستخدمها في اعتقال سجناء الضمير وتعذيبهم وإعدامهم .
من نافلة القول إن احترام حقوق الإنسان وحمايتها تعتبر مسؤولية عالمية. وهذا المبدأ تقره الأعراف والمواثيق الدولية وتعترف به الهيئات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة. والحكومات الآن عرضة للمساءلة الشعبية وهي مسؤولية قبول حق المنظمات الدولية في توجيه الأسئلة والتعبير عن مخاوفها عندما تتعرض حقوق الناس إلى أي اعتداء.
الاستقلال المالي للمنظمة
تعتمد منظمة العفو الدولية على تبرعات أعضائها ومؤيديها، وهي تؤمن بأن استقلالها المادي يعتبر أمرا حيويا بالنسبة لنشاطها، تماما مثل استقلالها السياسي. وقد وضعت المنظمة قـواعد صارمة بالنسبة لقبول التبرعات لكي تضمن أن لا يؤثر ذلك على استقلالها ونزاهتها، ويجعـلها تعـتمد على مصدر محدد للتبرعات، أو يحد من نشاطها. وحتى الآن فإن الجزء الأكبر من ميزانية المنظمة يأتي من التبرعات الفردية الصغيرة، ومن رسوم العضوية والحملات الذاتية لجمع التبرعات المحلية. ولا تحصل منظمة العفو الدولية على أية تبرعات حكومية لدعم نشاطها.
وبعـد؛
ليس ثمة شك في أن منظمة العفو الدولية قد لعبت طوال العقود الخمسة الماضية دوراً رئيساً في تبصير الناس بحقوقهم الأساسية وتعليمهم هذه الحقوق وتوجيههم نحو إرغام السلطات على احترام حقوق الإنسان وحرياته ، وتمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم وحرياتهم في ظل قانون عادل وأن يكون الفيصل في ذلك قضاء حرّ يـُعطي لكل ذي حق حقه ، وعدالة تبسط جناحيها على الجميع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وأكاديمي فلسطيني مـقـيـم في السـويد.