إن فكرة التعايش السلمي الأخوي بين الشعوب والأمم لا شك فكرة مثالية نابعة من فكر إنساني نبيل وهي موغل بالقدم وربما تعود جذورها لبدايات تبلور رقي وتطور في الوعي البشري؛ بأن التكاتف والتعاون بين المجموعات تعود بالفائدة والحماية على الجميع، ناهيكم عن الجانب الروحي الذي يجعل من أفراد المجموعات المختلفة يشعرون بنوع من أخوة ومشاعر طيبة تشعرهم بإنسانيتهم وقد حاولت عدد من التجارب تطبيقها واقعياً من خلال مشاريع مختلفة منها الدينية مثل الإسلام ومحاولة التآخي بين مختلف تلك الأمم والدعوة لفكرة “الأمة الإسلامية” وكذلك محاولة التجربة الشيوعية مع ما عرف ب”الأممية الشيوعية” وربما مؤخراً وليس أخيراً؛ التجربة الأوجلانية ومسألة “الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب”، لكن رأينا في التجربتين الماضيتين؛ الإسلامية والشيوعية، بأنهما بائتا بالفشل وذلك نتيجة هيمنة عنصر “مكون” من المكونات العنصرية المشكلة لتلك الأمم على باقي الأطياف والمكونات الإثنية اللغوية حيث الإسلام عرف الشعوبية وأنها بها والشيوعية أطيحت بها من خلال العودة والتمسك بالهوية القومية.
وبقناعتي أن التجربة الجديدة أيضاً؛ أي “الأمة الديمقراطية” لن تكون بأفضل حال حيث نسمع الكثير من التوصيف القومي للتجربة -تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا- وذلك بوصفها بالكردية وكذلك قواتها العسكرية ومجلسها السياسي “مسد” وحتى الحزب الذي يقف خلف التجربة؛ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وذلك بالرغم من خلو كل تلك الأسماء والمنظمات من أي أسم ومصطلح كردي حيث نعلم؛ بأن قواتها العسكرية تسمى ب”قوات سوريا الديمقراطية” وحتى فرعها الكردي؛ يسمى ب”وحدات حماية الشعب”، وهي تخلو من اللاحقة الكردية وكذلك اسم مجلسها السياسي وكل مؤسساتها، بل ورغم كل محاولات القائمين عليها نفي صفة القومية الكردية عنها، لكن وعند أي حديث عنها وعن فعالياتها ومؤسساتها يتم وصفها بالكردية وهي حقيقة واقعة على الأرض، كون لا يمكن للمرء أن يخرج من ثوبه -وثوبه هنا هو ثقافته ولغته وهويته الحضارية- حيث الإنسان أو ما يتعلم يتعلم ثقافته ولغته وليس تعاليم دينه أو فلسفته الأيديولوجيا، إن كانت فاشية أم ديمقراطية.
وبالتالي فإن الانتماء الأول هو للثقافة واللغة وهي أهم عناصر تشكل الجماعات الإثنية ولذلك وكما مرت الدول والأمم جميعاً بتشكلها السياسي القائم على الجانب الأثني اللغوي الثقافي -على الأقل في العصور الحديثة- فإن الأفضل لمجتمعاتنا أيضاً أن تشكل كياناتها السياسية ودولها على ذاك الجانب الحضاري الثقافي الأعراقي بحيث يصبح للكرد دولتهم -أو دولهم- وحتى للسريان الآشوريين وغيرهم من المكونات اللغوية الثقافية العرقية -ونأمل أن لا يتحجج أحد بقضية الجغرافيا وصغر حجم بعض تلك الدويلات أو قلة عدد سكانها حيث هناك دول لا يتعدى عدد أفراد سكانها؛ بعض الآلاف- ومن ثم يتم توحد تلك الدول والأمم في اتحادات فيدرالية وكونفيدرالية وذلك على غرار التجربة الأوربية حيث هناك دولهم العرقية الأثنية، لكن هناك الاتحاد الأوربي الذي يضم الجميع.
وهكذا يمكن لشعوب المنطقة أن تشكل كياناتها العنصرية -هنا العنصرية بالمعنى الأثني اللغوي وليس السياسي الفاشي- بحيث تتبلور شخصيتها الوطنية ومن ثم ندعو لأخوة الشعوب والأمم المتحالفة، أما أن نقفز على المرحلة ومن فوق تلك الهوة، فأعتقد سيكون السقوط مدوياً ومحطماً للكثير من الروابط، كما مرت بها التجربتان الإسلامية والشيوعية.. نعم بدون شخصية وهوية وطنية خاصة بك لا يمكن أن تكوّن وتنسج علاقات طبيعية مع الآخر حيث دون تبلور شخصيتك فإن أي دعوة للأخوة لا معنى لها، فحتى يقبل الآخر بأخوتك يجب أن تكوّن ذاتك وبهذا يتخلص الكردي -وغيره- من قضية الانفصام بالهوية الوطنية حيث تجد الكردي السوري ينوس ويتأرجح بين سوريا وطناً له أم كياناً غاصباً وكيف يمكن أن تكون الشيء وضده في آن معاً وهما في تناقض تام، يعني كيف يمكن اعتبار سوريا وطناً لي وبنفس الوقت هي تغتصب جزء من كردستان ونفس الحال مع الأجزاء الأخرى وكذلك الشعوب والأمم الأخرى.
بل إن أزمة الهوية تلازمنا حتى في المنفى، فقبل أيام سألتني ابنتي الصغرى؛ “مايا” وبعد حوار حول قضايا السياسة بسوريا وبالأخص في الملف الكردي، باغتتني بالسؤال التالي: طيب وأين تكون هويتي الكردية في ظل هكذا مشاريع سياسية لا يكون للكرد فيها كيانهم الوطني الخاص بهم؟! وبالتأكيد كلنا مررنا بتلك التجربة وخاصةً عندما يوجه لك، وأنت في كورس اللغة مثلاً، سؤالاً من مدرستك أو زملاءك وهم يسألونك؛ من أي بلد أنت وما هي لغتك، بمعنى أن تعرف عن نفسك! فكم كردي وقع في إشكالية التعريف بالهوية حيث عليه أن يوضح بأنه من سوريا، لكنه ليس عربياً، بل هناك جزء من جغرافيا كردية ملحقة بسوريا وهو منها وهنا تكون مشكلة الانفصام والاغتراب عن الهوية، هل هو كردي أم سوري أم كردي سوري ولما عليه أن يقع فريسة الخوف من الاتهام بالخيانة الوطنية، رغم أن ذاك الوطن يعتبر غاصباً لهويته أساساً؛ أي سوريا وذلك من خلال سياسات الانكار ومحاولة صهره قومياً ثقافياً لغوياً بفرض ثقافة الآخر “العروبة”.. بالأخير نود القول والتأكيد على ما جاء بالعنوان بحيث نقول وبوضوح تام؛ بأن الدولة والكيانات الخاصة بشعوب وأمم وثقافات المنطقة المختلفة ومنها، بل وعلى رأسها؛ الدولة الكردية هي المدخل إلى ما تسمى بأخوة الشعوب حيث دون أن تكون لك شخصيتك الخاصة لا يمكن أن تنشأ أخوة صحيحة سليمة مع الآخرين، فالأخوة يعني وجود عدد من الذوات والكيانات الخاصة بهم.