تنفرد الأزمة الأوكرانية عن كل الأزمات الحالية والدولية التي سبقتها منذ الحرب العالمية الثانية لأسباب عديدة منها الجغرافية السياسية التي تتاثر بها والتي تجري فيها وكذلك طبيعة الأطراف المتداخلة فيها و الأدوات المتعددة و المستخدمة فيها، علاوة على حجم تأثيراتها العالمية على الاقتصاد والأمن والاستقرار والحالة السياسية المرافقة لها والانطباعات والسيناريوهات المتوقعة وكذلك الاصطفافات التي حصلت و التي من الممكن أن تحصل لو استمرت الأزمة لفترات طويلة وأصبح حاجة كل طرف خلق كتلة وجبهة مؤيدة له ضرورية. ولاشك أن هذه الأزمة سيكون لها تأثير على بنية وموازين القوى والنظام الإقليمي والدولي ومؤسساته وأدواته.
تصف روسيا الحرب المشتعلة منذ الـ 24 من شباط/ فبراير الماضي بـ “العملية العسكرية الخاصة”، بينما يصفها الناتو وG7 بـ”الغزو الروسي لأوكرانيا” وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوربي، وهذا في حدّ ذاته يجسد أمر بالغ التضاد والمعنى و الدلالة والفرق الكبير.
الرواية الروسية تحمّل حلف الناتو كامل المسؤولية عن اندلاع الأزمة التي أدّت إلى اشتعال الحرب، وذلك بسبب سياساته التوسعية التي استهدفت احتواء روسيا وحصارها والعمل على منعها من استعادة المكانة التي تليق بها في النظام الدولي وتهديها أمنها القومي والعمل لنشر الصورايخ البالستية على حدودها . ولذا لم يكن أمام روسيا، وحسب الرواية الروسية، سوى اللجوء إلى القوة المسلحة، من خلال “عملية عسكرية خاصة” تستهدف تحقيق أربعة مطالب:
1- تثبيت وضع القرم كجزء لا يتجزأ من الاتحاد الروسي.
2- الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
3- التعهد بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
4- الحصول على ضمانات موثّقة بوقف توسع حلف الناتو نحو الشرق، والتعهّد بعدم نشر أسلحة استراتيجية بالقرب من الحدود الروسية.
أما الرواية الغربية والأميركية فتحمّل روسيا وحدها كامل المسؤولية عن الأزمة الأوكرانية، وتؤكد أنها لم تقدم على شنّ الحرب لمنع أوكرانيا من الالتحاق بحلف الناتو أو لإلزامها بتبنّي سياسة الحياد، بل للعمل واستعادة بناء الاتحاد السوفياتي من جديد، حتى ولو تطلّب الأمر استخدام القوة المسلحة، وهو ما معناه أن الحرب على أوكرانيا ليست إلا بداية لسلسلة من الحروب، ولا يمكن للناتو بقيادة الولايات المتحدة أن تقبل به أو تخضع له، ومن هنا قرارها بالمواجهة والتنسيق مع حلفائها، وخاصة الدول الأعضاء في حلف الناتو وخارجها، للحؤول دون تمكين روسيا من تحقيق أهدافها وتهديد النظام العالمي ذات القطب الواحد. وقد لجأت الولايات المتحدة في هذه المواجهة التي فُرضت عليها حسب رايها، إلى وسيلتين بشكل رئيسي:
1- فرض أقصى العقوبات الممكنة على روسيا لحرمانها الموارد اللازمة للاستمرار في الحرب والعمل لإلحاق معظم دول العالم بهذه العقوبات ووقف التعامل مع روسيا وإضعاف اقتصادها.
2- تزويد أوكرانيا بالسلاح الذي تحتاج إليه لمقاومة “الغزو” الروسي حسب الوصف الغربي والأمريكي، مع الحرص في الوقت نفسه على تجنّب كل ما من شأنه الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا وأي من الدول الأعضاء في حلف الناتو. علماً أن تأمين السلاح وكل ما يلزم الجيش الأوكراني هو مشاركة في الحرب وإن تم تفسيرها بشكل أخر من قبل أمريكا والناتو.
في سياق كهذا، من الواضح أن العالم إزاء أزمة عالمية غير مسبوقة ضمن النظام العالمي ذات القطب الواحد تتصارع فيها القوى الكبرى لزيادة حصتها من الهيمنة والنفوذ والاقتصاد، طرفاها المباشران هما روسيا والولايات المتحدة ومعها بريطانيا وحلف الناتو، تديرها كل منهما بوسائل وأدوات مختلفة.
فروسيا، التي ترى أنها باتت تواجه تهديداً وجودياً بسبب إصرار حلف الناتو على التمدد شرقاً وتحويل أهم جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً إلى دولة معادية لها، لم تتردّد في استخدام القوة المسلحة، بل ذهبت إلى حدّ التهديد باستخدام الأسلحة النووية إذا تطلّب الأمر. وكما أن أمريكا وبريطانيا والناتو من الوارد أنهم سيزيدون جرعة العقوبات والدعم للجيش الأوكراني وربما سيدخلون في الوقت المناسب حسب قراءتهم ورصدهم . ولكن من الواضح أن أي من الطرفين لا يقبل بالهزيمة التامة، كما أن إيجاد نظام دولي مختلف كلياً لن يأتي إلا بعد إستعمال كل الأسلحة ومنها النووية ولكن في الحلول الوسط التي إن حدثت يمكن أن يتم إعادة ترتيب لبعض أدوات ومؤسسات النظام الدولي في العالم وحتى في الشرق الأوسط في ظل زيادة التواصل والاتفاق بين الدول العربية وإسرائيل لبناء قوة توازن إقليمية أمام إيران وتركيا يطلق عليها البعض الناتو العربي وبأبعاده العسكرية والاقتصادية والأمنية والسياسية والإجتماعية والدينية.
من السابق والصعب لأوانه تحديد وحصر كافة التبعات التي من الممكن أن تسفر عنها الأزمة الأوكرانية، بينما أصوات المدافع والطائرات لا تزال تدوّي. والناس المدنيين يفرون من ساحات المعارك وما يسمى المتطوعون أو الشركات الأمنية يتوافدون على أوكرانيا للقتال، ومع ذلك، فإن المسار الذي سلكته الأزمة على مدى الأسابيع السابقة يُوحي بسيناريوهات عديدة، يمكن تصوّر بعضها على النحو التالي:
1- نجاح الولايات المتحدة وحلفائها في تحويل الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية إلى عملية إنهاك و استنزاف طويلة المدى لروسيا. وفي هذه الحالة، تأمل الولايات المتحدة أن تؤدي العقوبات الهائلة المفروضة على روسيا حالياً وضم أكبر عدد من الدول لها ليس فقط إلى حرمانها الموارد التي تمكّنها من مواصلة الحرب، بل أيضاً إلى تأليب الرأي العام الروسي على نظامه الحاكم، وبالتالي إلى خلق متاعب لبوتين شخصياً قد تؤدي في النهاية إلى إسقاطه. كما تأمل الولايات المتحدة أن تؤدي المعونات العسكرية الضخمة لأوكرانيا إلى تمكين هذه الأخيرة من الصمود إلى أن تتمكن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من إحداث الأثر المطلوب، وبهذا يصبح إلحاق الهزيمة الكاملة بروسيا هدفاً في متناول اليد.
لكن هل تلتزم أغلب الدول بهذه العقوبات وخاصة أن هناك عدد من الدول لم تلتزم بعض وبشكل كلي بهذه العقوبات مثل الصين والهند وإيران، والعديد من دول أميركا اللاتينية، وبل رفضت الالتزام بهذه العقوبات، حتى أن تركيا التي من حلف الناتو و بعض دول يعتبرون من حلفاء أمريكا لم يلتزموا بشكل كلي بالعقويات الأمر الذي سيحدّ كثيراً من تأثيرها إلا إذا قامت أمريكا والناتو بإجبار الدول وفرض عقوبات على الدول التي لم تلتزم حتى الآن بالعقوبات، كما أنه صحيح أن الإمدادات العسكرية المقدّمة إلى أوكرانيا قد نجحت وتنجح في إطالة أمد الحرب ، لكنها هل تستطيع إلحاق الهزيمة بروسيا، وخاصة في ظل عدم فرض حظر جوي وتدخل نوعي للناتو أو الدعم المقدم لأوكرانيا مع تصميم بوتين على تحقيق الانتصار فيها، حتى لو تطلّب ذلك دفع الأمور نحو حافّة الهاوية واستخدام كل ما في حوزته من أسلحة متطورة حتى النووية للحؤول دون تكبّد الهزيمة المدوية .
2- نجاح روسيا في تحقيق انتصار عسكري يكفي لإجبار الحكومة الأوكرانية الحالية على الاستسلام والقبول بكل الشروط الروسية لوقف القتال. غير أن حظوظ هذا السيناريو تبدو ضئيلة، وذلك لأسباب كثيرة، منها أن الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي لن تقبل به، حتى لو تطلّب الوضع دفع الأمور نحو حافّة الهاوية ورفع درجة الاستعداد النووي، وخاصة أن القبول به لن يكون له سوى معنى واحد، وهو فتح شهية روسيا وغيرها وزيادة رغبتها إلى الحد الذي يغريها فعلاً بالعمل لإعادة إحياء الاتحاد السوفياتي، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تغيير في موازين القوى لغير صالح الولايات المتحدة وحلفائها. وإذا أضفنا إلى ذلك أن مسار العمليات العسكرية على مدى الأسابيع المقبلة يُوحي بأن سيناريو الانتصار العسكري الساحق لروسيا لم يعد قابلاً للتحقيق الآن، لتبيّن لنا أن الأمور قد تتجه ربما خلال فترة زمنية معقولة نحو البحث عن أرضية مشتركة وتنازلات متبادلة.
3- استمرار ومواصلة الحرب إلى أن تنضج الظروف الملائمة لتسوية مقبولة من الأطراف كافة. و يمكن أن تتحقق التسوية حين يقتنع الأطراف المتصارعون كافة بأن من مصلحة الجميع تقديم تنازلات متبادلة تضمن لروسيا الحصول على الضمانات الأمنية التي تريدها لإبعاد خطر حلف الناتو عن حدودها الغربية، وهو ما لن يتحقق إلا بالتزام أوكرانيا بسياسة الحياد والتزام حلف الناتو ليس فقط بعدم ضم أوكرانيا إلى صفوفه بل أيضاً بعدم نشر صواريخ استراتيجية قريبة من الحدود الروسية، وتضمن لأوكرانيا في الوقت نفسه سيادتها على كامل أراضيها، فيما عدا القرم، التي يصعب بل يستحيل أن توافق روسيا على إعادتها إلى أوكرانيا، شريطة أن يضمن النظام الحاكم في أوكرانيا للأغلبية الناطقة بالروسية في إقليمي دونيتسك ولوغانسك حكماً ذاتياً كاملاً يمكّنها من إدارة شؤونها بنفسها، وشريطة أن توافق الولايات المتحدة وحلفاؤها في الوقت نفسه على الرفع الفوري للعقوبات. ويمكن هذا السيناريو هو الأقرب إلى التحقق، وخاصة أن إطالة أمد العقوبات المفروضة على روسيا تهدّد النظام الاقتصادي العالمي كله، وخاصة الدول النامية.
4- تصاعد وزيادة وتيرة الحرب ودخول أطراف جديدة في الحرب ومنها بعض الدول الأوربية كبولندا و أيضاً تركيا مع إرسال القوات الأمريكية لأكثر من 40 ألف عسكري إلى دول الجهة الشرقية للناتو والمتواجدين على حدود روسيا وبلاروسيا وكذلك مع ذهاب العديد من دول الاتحاد الأوربي في زيادة ميزانيات الجيش والإنفاق العسكري والأمني محلياً وضمن الناتو. وكما أن بريطانيا وفي الحرب العالمية الأولى أجبرت تركيا في دخول الحرب بأن قامت برفع علم العثمانيين على أحد السفن ومواجهة الروس فمن الوارد أن يتكرر ذلك في ظل تردد السلطات التركية في تنفيذ أوامر الناتو وعدم تنفيذ العقوبات بالشكل المطلوب. وحتى أن سماح الناتو لتركيا بعقد مفاوضات الأزمة الأوكرانية لديها يندرج ضمن الدفع بتركيا التي تعاني أزمات داخلية وخارجية إلى الأزمة الأوكرانية وتفاصيلها وبكافة الأشكال مع عدم امتلاكها أي وزن وثقل دولي تستطيع به حل الأزمة العالمية في أوكرانيا وكما أن قبول روسيا بتلك المفاوضات تبين الوضع الروسي الذي يبدو صعباً ومؤشراً على الضعف في الوقت الحالي مع عدم تحقيق الأهداف و السيطرة المطلوبة في أوكرانيا على المدن الكبيرة والاستراتيجية.
وفي جميع الأحوال، وأياً كان السيناريو الأقرب إلى التحقق، يمكن القول إن النظام الدولي والإقليمي في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية سيكون مختلفاً عمّا كان قبلها وستحاول القوى الإقليمية والعالمية توظيف ذلك لزيادة حضورها وثقلها في المشهد الإقليمي والدولي و يمكن القول أن الكلام الأمريكي والأوربي عن قرب الاتفاق النووي الإيراني دون أخذ المخاوف العربية والاسرائيلية هي لإبعاد إيران عن دعم روسيا في أوكرانيا وكذلك لإرسال رسالة لإيقاف الصين على مسافة كبيرة من روسيا على أقل في الوقت الحالي ريثما تتوضح صورة الأزمة الأوكرانية ونتائجها ولوبشكل جزئي.
ومن الممكن أن تفضي الأزمة الأوكرانية إلى خلق توازنات وتحالفات و علاقات جديدة، وهنا تظهر أهمية العلاقات والتحالفات الديمقراطية بين القوى الديمقراطية والمجتمعية وكذلك بين شعوب ومجتمعات المنطقة و دولها لتجاوز الأزمة وتقليل تداعياتها والتحديات المشتركة ، في ظل التأثير الحاد للأزمة الأوكرانية على الاقتصاد والأمن والسياسة والاستقرار والمؤشرات التي تدل على تحرك الإرهاب من جماعات الإسلام السياسي وتكرار الاستثمار فيهم واستغلالهم في أوكرانيا والحروب المختلفة في المنطقة من قبل بعض الدول الإقليمية والعالمية كما تفعلها تركيا وسلطاتها التي تعيش حالة قلق وخوف كبيرة من الأزمة الأوكرانية نتيجة موقفها الرمادي والضغط الأمريكي عليها للابتعاد عن روسيا والحديث الأوربي عن مرحلة جديدة من العقوبات تشمل الدول التي لم تلتزم بالعقوبات حتى الآن .