فقد إقليم كردستان جزءاً كبيراً من رصيد قوته على المستويات كافة منذ تفجر الصراع مع الحكومة المركزية في العراق. خسارة كركوك تشكل جرحاً كبيراً في الكبرياء الكردي الذي قام على سلسلة ثورات منذ مطلع القرن العشرين، وكانت كركوك عصب الخلافات مع الحكومات المتعاقبة في العراق.
العناصر السياسية للأزمة هي نتيجة تراكمات سنوات سابقة، وهي معروفة، بدءاً من تهرب الحكومة المركزية من تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 الخاص بالمناطق المتنازع عليها وصولاً إلى الخلاف على حصص النفط والموازنة بين بغداد وأربيل. والعناصر الداخلية للأزمة تتمثل بتعطيل برلمان كردستان نتيجة الصراع السياسي وإشكالية «الرئاسة» في الإقليم.
يبقى العامل الغامض الذي يرجح أن يكون وراء تعجيل المواجهة ووضع السيناريو لما جرى منذ الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان في 25 أيلول (سبتمبر): الصراع بين شركات النفط العالمية في العراق وكردستان.يعد تدخل شركات النفط في ترتيب أوضاع دول الشرق الأوسط واحداً من الملفات الأقل تداولاً في الإعلام على رغم مركزيته في صناعة العديد من الأحداث أو المساهمة فيها بدور رئيسي إلى جانب قوى وعوامل أخرى.في إقليم كردستان الذي يعيش مرارة الهزيمة المفاجئة أمام ميليشيات تدعمها إيران صدمة كبيرة على المستويين الشعبي والرسمي. إذْ كيف يتم منح الضوء الأخضر دولياً لميليشيات تعد أقرب حلفاء قاسم سليماني وبعض قادتها مدرجون ضمن قوائم الإرهاب باجتياح الإقليم الذي لم يُقتل فيه جندي أميركي أو غربي؟ كيف تمت التضحية بالشعب الكردي لمصلحة رايات «لبيك يا حسين»؟إن التفسيرات السياسية تقدم جزءاً من الصورة. وقد يكون الجزء الأصغر من جملة التعقيدات التي تحيط بالأزمة الحالية مقارنة بتأثيرات شركات النفط الكبرى في رسم معالم السياسات في هذا الجزء من العالم.
لمعرفة تفاصيل هذا الصراع بين روسيا وبريطانيا على النفط في العراق، فإن هناك أخطار في التحليلات والتفسيرات التي تربط جزءاً كبيراً من صناعة الانهيارات بالتنافس الاقتصادي الأجنبي. ما يخفف من جموح هذا الجانب التحليلي أنه مرتبط ببيئة ناضجة تتحمل مسؤولية ربط الانهيارات الأمنية منذ ظهور تنظيم «داعش» بعوامل أيديولوجية، من أبسطها أن «العالم» أراد تجميع الإرهابيين في مكان واحد للقضاء عليهم. المعضلة أن جميع التفسيرات تحمل درجة من الصحة ولا يمكن نفيها بالكامل، وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على الحرب بين «روسنفت» و «بي بي» (بريتش بتروليوم).
حسابات تيلرسون
تعود بداية الفصل الأخير من الصراع الحالي إلى بدايات عام 2011 حين عينت شركة «إكسون» الأميركية واحداً من أكثر الرجال اتصالاً بأصحاب القرار في العراق. هذا الرجل هو علي الخضيري وهو أميركي من أصل عراقي عمل في بغداد مساعداً خاصاً لخمسة سفراء أميركيين ومستشاراً لثلاثة جنرالات. وفي اجتماع مع «إكسون» بعد بضعة أشهر لتحليل مستقبل العراق طرح الخضيري ما يدور برأسه من أفكار. قال الخضيري في مقابلة أجرته معه وكالة «رويترز» ونشرتها في 4 كانون الأول (ديسمبر) 2014، إنه أبلغ الاجتماع أن العراق في ظل نوري المالكي يتجه صوب الدكتاتورية والحرب الأهلية. وعاد بذاكرته للوراء فتذكر أنه قال: «سنشهد زيادة في العنف وشللاً تاماً في بغداد». وقال إن العراق سيشهد تقارباً متزايداً مع إيران «ما سيكون له أثر عكسي على الشركات الأميركية».واجتذب هذا التصور المتشائم اهتمام مديري «إكسون» التي كانت حينها تحت إدارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون. وكانت الشركة قد وقعت قبل ذلك صفقة قيمتها 25 بليون دولار مع بغداد لتطوير حقل غرب القرنة الذي يعد من أكبر حقول العراق.اقترح الخضيري إقليم كردستان بديلاً من مشروعات «إكسون» العراقية. وفعلاً نقلت الشركة نشاطاتها من جنوب العراق إلى كردستان في غضون أقل من سنتين.
كان على شركات النفط أن تختار بين كردستان وجنوب العراق بسبب الخلافات بين المالكي وبارزاني. وكانت الامتيازات الستة التي فازت بها «إكسون» في كردستان موزعة على مناطق مختلفة في الإقليم. فكان أحدها قرب تركيا وآخر قرب الحدود مع إيران بينما كانت الامتيازات الثلاثة الأكثر إثارة للخلافات على امتداد «المناطق المتنازع عليها». ووافق محافظ الموصل أثيل النجيفي على الصفقة من جانبه كون بعض الحقول تدخل ضمن الحدود الإدارية للمحافظة.
كل هذا جرى قبل سقوط الموصل في حزيران (يونيو) 2014. وأتاحت هزيمة الجيش العراقي أمام تنظيم «داعش» للقوات الكردية التقدم والسيطرة على كل المناطق المتنازع عليها ومساحات أخرى خارجها. فتوسعت مساحة إقليم كردستان وزادت احتياطاته النفطية في شكل كبير بعد انضمام حقول جديدة إلى ممتلكاته.هكذا ساهمت صفقة «إكسون» في رسم ملامح كردستان. فيما لاذت الشركات الأخرى مثل «شل» الهولندية و «توتال» الفرنسية بالنفط «الشيعي» جنوب العراق. لكن سرعان ما تعرضت استثمارات «إكسون» إلى تهديد كبير حين ولى تنظيم «داعش» وجهه شطر كردستان في آب (أغسطس) 2014، أي بعد ثلاثة شهور فقط من سيطرة البيشمركة على المناطق المتنازع عليها. فكانت ضربة كبيرة لمشروع استقلال كردستان.
لا يعرف على وجه الدقة ما إذا كان الصراع بين الشركات النفطية قد وصل تأثيره إلى صناعة انهيارات أمنية لجني المكاسب، غير أنه في المحصلة كان سقوط الموصل يوم حظ لـ «إكسون» التي بدأت العمل فوراً على الحقول في المناطق المتنازع عليها بعيداً من سلطة بغداد التي رفضت بشدة أي نشاط «غير شرعي» لشركات النفط.ولاستيعاب كميات النفط الجديدة أنشأ إقليم كردستان خط أنابيب مستقل لتصدير النفط عبر تركيا. وخلال فترة الانتعاش الصغيرة التي لم تتجاوز العامين بين 2012–2014 تقاطرت شركات النفط إلى الإقليم وتضاعف الإنتاج وازدادت المشكلات حدة مع بغداد إلى أن انقلب الأمر رأساً على عقب مع تقدم «داعش» في الأراضي المتنازع عليها في آب 2014.
فقد علّقت معظم شركات النفط عملياتها في الإقليم ولم يبقَ هناك سوى بضع شركات، من بينها شركة عمليات «طق طق» المملوكة لشركتي «جينيل إنرجي» الإنكليزية التركية و «أداكس بتروليوم» التابعة لـ «سينوبك» الصينية.وبلغ عدد المواقع النفطية التي تخلت الشركات الدولية عنها في إقليم كردستان حتى مطلع 2017 نحو 19 موقعاً. وفي نهاية عام 2016 تخلت «إكسون» عن ثلاثة حقول نفطية من أصل ستة. ومهدت لمغادرة كردستان التي باتت تعاني فعلياً من «فراغ شركات النفط».بعد قرار تيلرسون الانسحاب من كردستان باتت الشركات الأصغر مرتابة من المستقبل السياسي للإقليم. فرئيس الإقليم مسعود بارزاني وقّع عدداً كبيراً من الاتفاقيات النفطية من دون أن تكون إدارته مؤهلة لضمان مستقبل العمل في كردستان. وبات ملف النفط يدار بفوضوية لدرجة أن الحديث عن بيع حقول نفطية كاملة لتركيا لا يدهش أي مواطن كردي. لكن صدمة خروج «إكسون» تم تعويضها في شكل مفاجئ مع دخول شركة النفط الروسية العملاقة «روسنفت» إلى سوق الإقليم لتصبح صاحبة اليد العليا على قطاع النفط والغاز. وهذا الدخول العاجل في وراثة «إكسون» الأميركية أربك صفقات قائمة وغيّر صورة المشهد السياسي في الإقليم.
في 28 شباط (فبراير) 2017 أبرم إقليم كردستان اتفاقات جديدة لاقتراض ثلاثة بلايين دولار من شركات تجارية وشركة «روسنفت» بضمان مبيعات نفط مستقبلية. وفي نيسان (أبريل) الماضي اشترت «روسنفت» أولى شحناتها النفطية من الإقليم الكردي لتصبح أول شركة نفط كبرى تحصل على الخام الكردي مباشرة لمصلحة منظومة التكرير فيها. ودخول الشركة الحكومية الروسية فتح باباً جديداً من الأمل لبارزاني. فمن شأن جموح «روسنفت» أن يشجع شركات أخرى على تجاوز الهلع من مغادرة «إكسون». ودخلت شركة «غاز بروم» الروسية الإقليم أيضاً وأصبحت مسؤولة عن إدارة حقل سركالة في كرميان في آذار (مارس) 2016. وبحسب الأرقام التي أعلنتها الشركة فإن الحقل أنتج أكثر من 19 مليون برميل عام 2015. ويقع قطاع كرميان النفطي بالقرب من الحدود مع إيران التي تطمح هي الأخرى للسيطرة على النفط الواقع في السليمانية وكركوك.
الانقلاب على «روسنفت»
بعد يومين من سيطرة بغداد على كركوك بدأت ملامح خريطة النفط في كردستان تشهد انقلاباً على «روسنفت»، وهذه المرة من طريق إدخال العراق لاعباً قوياً: شركة النفط البريطانية العريقة (بريتش بتروليوم). فقد دعا وزير النفط العراقي عبدالجبار اللعيبي الشركة البريطانية لدعم بلاده من أجل تطوير حقول نفط كركوك التي كانت خاضعة لإدارة بريطانيا قبل قرن من الزمن. ووقعت وزارة النفط العراقية في عام 2013 عقداً استشارياً مع شركة «بريتش بتروليوم» لمساعدة شركة نفط الشمال في تطوير حقلي هافانا وبابا كركر، وكلاهما في محافظة كركوك. لكن العمل لم ينفذ لفقدان حكومة بغداد سيطرتها على الحقول لمصلحة القوات الكردية في عام 2014 في أعقاب سقوط الموصل وسيطرة البيشمركة على كامل الحقول النفطية.وقالت الشركة البريطانية عبر موقعها على شبكة الإنترنت، إنها «قدمت مساعدة فنية لشركة نفط الشمال للمساعدة في إعادة تطوير حقول كركوك». وحقول كركوك من بين أكبر وأقدم حقول النفط في الشرق الأوسط، ويقدر حجم احتياطياته النفطية القابلة للاستخراج بنحو تسعة بلايين برميل. والمفارقة أن الشركة البريطانية تملك 20 في المئة من الأسهم في «روسنفت» إلا أن التنافس بين الشركتين له أبعاد سياسية تديرها كل من لندن وموسكو.
وبعد يومين من دخول «بريتش بتروليوم» إلى كركوك سارعت «روسنفت» إلى السيطرة على خط أنابيب النفط الرئيسي في كردستان العراق لتزيد حجم استثمارها في الإقليم شبه المستقل إلى 3.5 بليون دولار على رغم تحرك بغداد العسكري. وقالت «روسنفت» إنها ستتملك 60 في المئة من خط الأنابيب. وأقرت «روسنفت»، التي تواجه صعوبات في الاقتراض من الغرب بسبب العقوبات الأميركية، استثمار 400 مليون دولار في استكشاف خمس رقع نفطية في كردستان.وقال آشتي هورامي وزير المواد الطبيعية في إقليم كردستان: «أناشدكم ألا تنسوا كردستان»، وذلك خلال مؤتمر لقطاع النفط في فيرونا بإيطاليا قبل ساعات من توقيع اتفاق خط الأنابيب مع رئيس «روسنفت» إيغور سيتشن أحد أكبر حلفاء بوتين.ويظهر مسار الصراع الحالي أن «بريتش بتروليوم» حالت دون سيطرة فلاديمير بوتين على حقول كركوك. لكن هذا الصراع تسبب في تدمير المشروع السياسي الكردي في الاستقلال عقب الاستفتاء. وقد يدفع الإقليم ثمن أكبر جراء استقدامه روسيا إلى كردستان.
النفط الإيراني!
لا يقتصر الصراع على الشركتين البريطانية والروسية فقط. فقد لعب التنافس التركي- الإيراني على ثروات الإقليم الكردي دوراً في الوصول إلى أفق مسدود. ويرجح أن قرار إسقاط كركوك قد تم اتخاذه إيرانياً يوم التوقيع على اتفاق بين بغداد وطهران لمد خط أنبوب بغرض نقل نفط كركوك إلى إيران، في 31 تموز (يوليو) الماضي. وهو الاتفاق الذي رفضته حكومة إقليم كردستان. وبصورة أدق، رفضه الحزب الديموقراطي الكردستاني ومحافظ كركوك نجم الدين كريم. ورفض الإقليم أن يشمل الاتفاق الإيراني- العراقي حقلي باي حسن وهافانا. وشمل الاتفاق كذلك مشاركة إيران في الحصول على النفط من خانقين ومندلي، وهما منطقتان سيطرت عليهما القوات العراقية وحلفاء إيران في 16 تشرين الأول.بعد محاولة تفكيك هذه الصورة المعقدة، يمكن طرح تساؤل على الهامش: إذا كانت إيران قد سيطرت على كركوك ونفطها، وتعمل «بريتش بتروليوم» في هذه الحقول، ترى ما الذي يجمع بين الشركة البريطانية وإيران؟ قد تحمل الأيام المقبلة إجابة عن هذا السؤال حين تتضح العطاءات الإيرانية النفطية لتطوير حقولها النفطية في حال تم تفادي إعادة فرض العقوبات الأميركية.في المحصلة لا تبدو الصورة سهلة الفهم إذا قمنا بوضع الاصطفافات التقليدية مقابل ما يجري في كردستان. ففي الإقليم الكردي روسيا تدعم بارزاني، وإيران التي هي حليفة روسيا ضد بارزاني، وتركيا التي تحولت إلى حليف لروسيا تعمل ضد مصالح شركة النفط الروسية في كردستان. و «بريتش بتروليوم» التي تمتلك حصصاً في «روسنفت» تعمل على إزاحتها من الإقليم. وأميركا تقف– في شكل صامت– إلى جانب قاسم سليماني في هذا الجزء من العراق.
يبقى لغز في هذا المشهد متعلق بتركيا. هل هي الدولة الوحيدة التي فضلت «أمنها القومي» على المصالح الاقتصادية؟ من المستبعد أن يكون هذا هو السبب طالما كان بارزاني بوابة السياسة التركية تجاه الكرد، وتحديداً حزب العمال الكردستاني. والأرجح أنها الخاسر الوحيد من بين اللاعبين في كل هذا الصراع. فتركيا خسرت إقليم كردستان ولن تستطيع كسب العراق «الإيراني».