جاء بريمر كحاكم إداري لقوات الأحتلال الأمريكي الدولي ضمن رؤية أمريكية كانت تستهدف بالأساس والمعلن تصفية حقبة الديكتاتورية، وبناء نظام سياسي بديل على أسس من الديمقراطية وحقوق الإنسان ووفقا لما تراكم لديها من تصورات وأفكار ساهم بها العراقيون المتعاونون معها بكافة أطيافهم السياسية والدينية والمذهبية والعرقية، فبدأت عملية إعادة التنظيم من قبل السيد بريمر الذي كان يضع رؤية بعيدة المدى للعراق يرسم من خلالها صورة دولة مسالمة ترعى مصالح الغرب وتساهم في تهدئة التوترات الإقليمية المشتعلة منذ منتصف القرن الماضي، كانت الخطوط الأولى لهذه الرؤية هي تجريدة من عنصرين أساسيين لتنجح الرؤية، أولهما أن يعيد بناء نظام أقتصادي حر مرتبط بشبكة من المصالح الدولية التي لا تقبل الأستقلال أو النأي عن التأثيرات المشتركة، بمعنى أنه لا يمكنه الانفراد الأقتصادي بأختيار مذهب أخر كما كان القائم في ظل الأنظمة الشمولية، أما العنصر الثاني أن يتم من خلال رفع المستوى المعيشي للمواطن الفرد كي يضمن ولائه للنظام الجديد.
ما حصل بعد ذلك أن الأنفتاح الأقتصادي الحر الخالي من الرقابة والتوجيه أنتج منظومة طفيلية من البرجوازية الرثة وممن لا يمتلك أبسط المقومات الإدارية والأقتصادية لإدارة مشروع ناجح، فكان البديل المتوفر مع غياب قوة القانون والمحاسبة القضائية إن سخرت أجهزة الدولة وعلى كل المستويات وإفسادها عبر الرشى والمشاركة في كسب الأموال بأي طريقة، فتحولت أجهزة الدولة من واجب بناء المجتمع الجديد إلى منظومة متكاسلة طفيلية فاسدة تسعى وراء الفاسدين للأستئثار بالمال العام والخاص، أما فيما يخص العنصر الثاني ولغياب الثقافة الأقتصادية الصحيحة ولتعود المجتمع العراقي في ظل ديكتاتوريات موجهة لرغباته فقد خرج من دائرة الحرمان والتقنين المستمر إلى الفوضى في تلبية أهم المتطلبات الحياتية، فلم يتصرف العراقي وفق مبدأ جزء من الدخل العام ليكون أستهلاكيا وجزء ثاني مهم كأستثمار مستقبلي لضمان أستقرار أقتصادي له، وشاع مفهوم وممارسات الأستهلاك الفوضوي المتأثر بالتقليد والتباهي وحتى الإنفاق على الأشياء التي لا تشكل أهمية في الحياة مثل التعليم وتطوير الذات والتنمية الأسرية وبناء أقتصاد حر حقيقي.
كل هذا جرى ملقيا بأثره السلبي على العملية السياسية الجارية في تحولاتها الدراماتيكية بكامل خطوطها والتي لم تكن مهيأ أساسا لهذا التغيير العنيف والأنقلاب بكل المفاهيم الأجتماعية والسياسية والأقتصادية، فتحولت الطبقة السياسية من دورها الموجه والقيادي إلى المشاركة في أكبر عملية فساد وإفساد، وتحولت الأحزاب والقوى السياسية إلى دكاكين تتاجر بكل شيء دون رقابة ولا محاسبة، وصار هم أستلاب المال العام أولى فقرات برنامجها العملي، وإزداد الغوص عميقا في وحل الفساد للدرجة التي جعلتها أن تستبدل مصيرها بمصير العراق وتربط بينهما وجودا وعدما، لذا لا نستغرب مثلا أستماتتها للمشاركة في كل شيء سواء في الحكومة أو أجهزة الدولة حتى وصلت لمرافق لا يمكن الربط بينها وبين السياسة لأنها لا تريد أن تكون خارج دائرة الأهتمام حتى في أقل التفاصيل وأصغرها.
هذا الحال لم يكن من أصول العمل السياسي السليم ولن يكون، فالتدخل بكل شيء يعني المزيد من المسئوليات والمزيد من الأخطاء التي سترد عكسا على وضعها السياسي المتصف دوما بالبساطة الفكرية والسذاجة في التخطيط والتصور وبناء أستراتيجيات وطنية تضمن لها حضورا كبيرا وفعالا في خدمة الشعب، بالمختصر إنه الغباء العظيم الذي جعلهم يتخبطون من فشل لفشل حتى أصبح مصيرهم محتم نحو الزوال النهائي، وتحميلهم كل أخطاء المرحلة من بدايات خطط بريمر وصولا لكل الجرائم التي أرتكبت منهم ومن غيرهم، لأنهم لم يتصرفوا كرجال سياسة ولا كرجال أعمال سياسيين لهم رؤية ومخطط وآليات ومناهج مدروسة تثبت وجودهم كلاعبين أساسين بأستحقاق ولبس عبر الفساد وألياته ووسائله العنف والفوضى والتمرد على القانون.
الغباء السياسي في عراق عصر بريمر…
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا