مع الثورة التكنولوجية و الرقمية وأجيال الانترنت المختلفة وتوسعها وانتشارها في المنطقة والعالم، تأثرت كافة جوانب الحياة والعمل وكذلك السلوكيات وطرائق التفكير والمقاربات ، ولعل أحد الساحات أو الميادين هي السياسة و تفاعلاتها و وكذلك التأثير والعلاقات الدبلوماسية التي تم إدخال الكثير من التعديلات إليها وحتى صياغة أنواع من الدبلوماسيات الجديدة لمواكبة التطور الكبير في الرقمنة وعوالم الاتصال والتأثير والفواعل الجديدة الظاهرة، حيث بات الكثير من العلاقات متأثرة إلى حد ما بالتفاعل الجماهير أو الرأي العام ونبضه أو أنها ملزمة بأخذها بعين الاعتبار أو بضرورة الشرح والتسويق الكافي للمجتمعات والشعوب، حيث أن الغرف المغلقة والكواليس في الدبلوماسية التقليدية تغيرت بشكل أو أخر ولم تعد كما السابق، لنحاول فهم تأثير الرقمية أو دخول الأنترنت إلى المجال الدبلوماسي والعلاقات في ظل تزايد أهمية الدبلوماسية الشعبية أو المجتمعية وكذلك ظهور مفهوم السفير الرقمي(تكنوبلوماسي) و الدبلوماسية الرقمية( التكنوبلوماسية )، التي بات أغلب الدول وزارات الخارجية وحتى القوى المجتمعية والأحزاب والتيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والأشخاص يدركون أهميتها ويستعملونها بشكل يومي وفي أصعب المراحل والأزمات و كذلك أوقات السلم وفي مجالات الاقتصاد والأمن والثقافة والصحة والتعليم لتحقيق التأثير والأهداف المطلوبة في ظل الكثرة والتضخم المعلوماتي والاختراق الوارد والحاصل في العديد من الأحيان.
لقد كانت العلاقات بين المجتمعات والشعوب والدول ومنذ القدم من أهم الأعمال النبيلة التي يؤديها الناس الحكماء وأصحاب الخبرة والتأثير والإرادة الخلاقة لبناء تركيبات مجتمعية جديدة وكذلك لتحقيق منافع ومصالح مشتركة واحتياجات متبادلة، و لكن مع تمأسس هذه العلاقة مع الدول والسلطات تم حصرها وعملها لما هي لخدمة اصحاب النفوذ والقوة ولذلك خرجت عن جوهرها وأصبحت بغرض الربح والهيمنة والنهب وتم توظيف الحرب والسلم كحالة ووصف وأدوات للعلاقة والدبلوماسية لتحقيق المطلوب. لكن مع فشل نظام الهيمنة العالمية وأدواتها من الدول القومية والسلوك النمطي والأحادي والأنانية في تحقيق العلاقات ومصالح الشعوب والدول القائمة، ظهرت مرة أخرى أهمية دور المجتمعات والشعوب في حقل العلاقات والتفاعل والتأثير، ولعل عدم كفاية الدبلوماسية الرسمية للدول في تحقيق المطلوب أكد مرة أخرى الحاجة إلى الدبلوماسية المجتمعية الديمقراطية كدبلوماسية الأمة الديمقراطية التي تهدف إلى الأخوة والتعايش المشترك وحل القضايا وفق الحلول الديمقراطية والتحول الديمقراطي وريادة المرأة وحضورها في المشهد التفاعلي والدبلوماسي وليس السعي إلى السلطة والدولة القومية والهيمنة والنهب.
إن ظهور الدبلوماسية الرقمية اعطت دفعاً لتفاعل المجتمعات والشعوب وحضورهم الدبلوماسي ولكنها تحمل في نفس الوقت الكثير من المخاوف والتحديات التي يجب أخذها بالحسبان في ظل وجود إمكانية لتسويق المعلومة الخطأ بدل الصحيحة لخدمة مصالح القوة والمراكز والشركات التي تمتلك التكنولوجية الفريدة للرصد والإرسال والتشويش.
تعريف:
لا يوجـد للدبلوماسية الرقمية تـعريـف محـدد لها بين الباحثين ، لما يتمتع به المصطلح من مرونـة وتطور جديد وسريع ، مع التراكم الأسي للمعلومات والبيانات الحالية ، فوفقا لـبعض الباحثين ، تشير الدبلوماسية الرقمية بشكل مركز إلى الاستخدام المتزايد لمنصات الإعلام الافتراضي من الدولة ؛ لتحقيق سياستها الخارجية ، وإدارة سمعتها وصورتها بشكل يستبق أي تشـويش أو يتصـدى له.
كما عرفه البعض الأخر بأن الدبلوماسية الرقمية هي استخدام أدوات الاتصال الرقمية بواسطة الدبلوماسيين للتواصل مع بعضهـم ومع عامة الناس.
وقال البعض الأخر بأنها المارسات الدبلوماسية من خـلال التقنيات الرقمية والشبكات ، بما فيها الإنترنت والأجهزة المحمولة وقنـوات التواصـل الافتراضي.
وقـد عرفها “فيرغوس هانسون (Hanson Fergus)” بأنها استخدام الإنترنت وتقنيات الاتصالات المعلوماتية الجديدة للمساعدة في تنفيذ الأهداف الدبلوماسية، ورأى ” هانسـون ” الدبلوماسية الرقمية بوصفها مصطلحا جديدا أنها استخدام الإنترنت وتقنيات الاتصـال والمعلومات للمساعدة في تحقيق الأهداف الدبلوماسية.
، أما “أولوبوكولا أديسيناOlubukola, Adesina ) )” أكدت أن الدبلوماسية الرقمية أحد العوامل الرئيسة التي أثرت في الدبلوماسية في هذا العصر ، لما أحدثته ثورة تكنولوجيـا المعلومات والاتصالات من تأثير في طريقة التواصل مع الجماهير وتبادل المعلومات ، بحيث أدت إلى تغيرات جوهرية في الحياة السياسية والاجتماعية و الاقتصادية في أنحاء العالم.
لكن مكتب الشـؤون الخارجية في بريطانيا تقول أن الدبلوماسية الرقمية هي حل مشكلات السياسة الخارجيـة باستخدام الإنترنت .أما وزارة الخارجية الأمريكية فاستخدمت فن الحكم في القرن الحادي والعشرين، تعريفا للدبلوماسية الرقمية. و أطلقت وزارة الخارجية الكندية عليها اسـم ” السياسة المفتوح” أمـا وزارة الخارجية الفرنسية فتعد الدبلوماسية الرقمية امتدادا للدبلوماسية بمفهومها التقليـدي ، مع استنادها إلى الابتكار واستعمال التكنولوجيـا لنقل المعلومات ، للإسهام في تغيير وجه النشاط الدبلوماسي ، وهي أولوية ضمن وزارة الشـؤون الخارجية الفرنسية تتجه إليها للتأثير الدبلوماسي على المسـتـوين الرسمي وغير الرسمي ، وإدارة المعلومات والمعارف والمسائل الخاصة بالخدمات العامة .
ونستطيع أن نقول في تعريف شامل للدبلوماسية الرقمية(Digiplomacy) أو الإلكترونية(eDiplomacy) بأنها : ” أهم وسائل التفاعل والتأثير والترويج للسياسة الخارجية للدولة أو المجتمع أو الشعب أو الشركة أو أي جهة أو منظمة أو قوى ، وتكمن قدرتها في تحـويـل البيانات الكبيرة والمعطيات إلى معلومات ومعرفة وصور وفيديوهات وأشكال التعبير المختلفة، يعاد توجيهها بحكمة من صانع القرار في الأطر الدبلوماسية والعلاقاتية ، سواء داخل الدولة كوزارة الخارجية أم خارجها عبر سفاراتها المنتشرة في العالم أو ضمن المجتمعات والشعوب والتنظيمات والقوى والشركات وممثليهم في الداخل والخارج ، باستخدام الأدوات التقنية الجديـدة ومنصات التواصل الافتراضي للتأثير في الجماهير المحلية و الإقليمية والخارجية ، وتفسير وجهة نظر الفاعل والمرسل حول الأزمات التي تتعرض لها بطريقة القوة الناعمة كجزء من القوة الذكية ، و تحتاج إلى فهم أعمق لتاريخ وثقافة الشعوب والمجتمعات والمنطقة التي تقدم إليهم الرسائل السياسية وعاداتها وتقاليدها والقواسم المشتركة ومقدساتها الاجتماعية واحتياجاتها المرحلية والمصيرية”
الأهداف:
وقد حدد هانســون أهــداف الدبلوماســية الرقميــة وهي (2012 ، Hanson ):
1- تضافر الجهود بين دوائر الدولة كافة لإدارة الموارد ذات العلاقة ، وتسخير ثروتها البشرية بحيث يتم استخدامها بالطريقة المثلى لتحقيق المصالح الوطنية في الخارج وزيادة قوتها الناعمة .
2- الحفاظ على التواصـل مـع الجماهير في العالم الافتراضـي وتسخير أدوات الاتصـال الجديدة للاستماع إلى الجمهور والتواصـل معـه والتأثيـر عليـه باستخدام الرسائل الرئيسية للدولة عبر الإنترنت .
3- الاستفادة من التدفق الهائل للمعلومات واستخدامها في تحسين عملية وضع السياسات ، والمساعدة على توقع الحركات الاجتماعية والسياسية الناشئة والاستجابة لها .
4- إغنـاء الاتصالات القنصليـة مـع الجمهـور وإنشـاء قنـوات اتصـال شخصية مباشرة مع المواطنين المسافرين في الخارج ، بحيث يمكن التواصـل معهـم في الأزمات .
5- تعزيز حرية التعبيـر والديمقراطيـة فضـلا عـن تقـويـض النظـم الاستبدادية ، حيث إن هـذه التكنولوجيـا تتيح للجميع استخدامها والتعبيـر عـن الـرأي دون احتكار هـذه الوسائل من أي جهـة كانت .
6- إنشاء آليات رقمية للاستفادة من الخبرات والموارد الخارجية ( السفارات والقنصليات ) وتسخيرها النهوض بالأهداف الوطنية .
بداية الدبلوماسية الرقمية.
يشار،عادة، إلى كاسبر كلينج Casper Klynge على أنه أول سفير تكنولوجي أو سفير ” تكنوبلوماسي ” في العالم، حيث عيّنته الدنمارك سفيرا لدى شبكات “الجمهوريات الافتراضية” بما فيها الشركات المتخصصة في صناعة الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي في أيلول/سبتمبر 2017م.
غير أن الجهود الأولى لمحاولة رقمنة الدبلوماسية هي أقدم من ذلك، حيث أبانت الهجمات على سفارات الولايات المتحدة في شرق إفريقيا عام 1998 عن افتقارٍ إلى تواصل فعال بين قنوات وزارات الخارجية، وقد تكررت نفس المعضلة عقب هجمات الـ 11 من سبتمبر التي طرحت ضرورة إحداث تنسيق بين الدوائر الدبلوماسية والاستخباراتية من أجل أداء فعال، لذلك طرحت كوندوليزا رايس مصطلح “الدبلوماسية التحولية” وهدفت من ورائه إلى صنع سياسة خارجية أكثر ذكاء، عبر تحويل المؤسسات الدبلوماسية التقليدية إلى خدمة أغراض دبلوماسية جديدة، كما تحدّثت هيلاري كلينتون عن “فن القوة الذكية”، وقصدت به الانتقال بالحكومة إلى نسج علاقات بعيدة عن ماهو تقليدي، بمعنى المشاركة المباشرة مع الناس في جميع أنحاء العالم؛ وقد راهن زهونغ وَ لو على أن منصات المدونات يمكن أن تكون أداة لتحسين اتصالات الدبلوماسية العامة للولايات المتحدة، أما فيتشوفسكي فيذهب إلى حدّ تصنيف من يرفض استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في خانة سوء السلوك المهني.
ميدانيًا انعكس الأمر بشكل واضح، ففي سبتمبر 2012 تم إحصاء 150 طاقم عمل في الولايات المتحدة يشتغل على 25 صيغة مختلفة للدبلوماسية الرقمية؛ وفي مطلع عام 2014 قام وزير الخارجية الكندي جون بيرد بزيارة شخصية إلى وادي السيليكون ليقابل المسؤولين التنفيذيين في غوغل وتويتر ويتعرف على آثار الأنترنت في تشكيل السياسات الخارجية؛ أما المملكة المتحدة ،التي كانت أول من أطلق موقع ويب خاص بوزارة الخارجية وشؤون الكومنولث عام 1995، فقد أعلنت عام 2010 ،على لسان وزير خارجيتها ويليام هاج، جملة من الإصلاحات ترمي إلى إعادة التفوق الدبلوماسي لبريطانيا؛ إصلاحاتٌ تراعى فيها ،من باب أولى، متطلبات عصر الرقمنة.
ويشير البعض أنّ الأنترنت مجرّد وسيلة اتصال تعزّز اتجاهات كانت قائمة اساساً، فكلٌّ من الإرهاب العالمي والمنظمات غير الحكومية كانت فواعلا مؤثرة في العلاقات الدولية قبل عصر الأنترنت، وعلى الرغم من تمكين التقنية المعلوماتية لأعداد كبيرة من البشر من المشاركة بسهولة أكبر في نقاشات السياسات الخارجية، إلا أن 80% منهم لا يبدون اهتماما جدّيًا، وليست لهم مصلحة واضحة في القيام بذلك، حيث تشير بعض البيانات أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى غاية بداية الحرب الباردة يفتقر أغلبية البشر لمعلومات أساسية حول الشؤون الدولية، في حين يبدون اهتماما أكبر بالقضايا التي تمس حياتهم اليومية بشكل مباشر (الصحة، الاقتصاد، الجريمة، التعليم، العلاقة بين التكوينات الاجتماعية).
ولكن مع جائحة كورونا ومتحولاته ظهر للعالم أن الأنترنت ومجاله الافتراضي أصبح مؤثراً بشكل كبير على شؤون عامة الناس وخلقت فيهم سلوكيات جديدة ، علاوة على ظهور دبلوماسية الزوم التي سادت العلاقات والدبلوماسية المجتمعية والرسمية بعدما كان التحدث عن دبلوماسية الفيسبوك و التويتر مع باراك أولاما و دونالد ترامب وغيرهم.
أثر الدبلوماسية الرقمية على السياسات الخارجية:
يمكننا أن نتحدث عن ديناميات جديدة للدبلوماسية الرقمية التي تترك آثاراً على صنع السياسات الخارجية، وكان قد تحث نيكولاس وستكوت (رئيس قسم المعلومات في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث) عنها في أربعة مجالات:
1- تقديم الخدمات:
أتاحت الأنترنت لوزارات الخارجية والسفارات توفير خدمات عامة كتقديم مشورات السفر وطلب التأشيرات وجوازات السفر، ورغم أنه مازالت هناك حاجة إلى مستندات مادية إلا أنه تم التقليل منها قدر الإمكان، كما أن الأنترنت ساهمت في تبسيط التسلسل الهرمي وتقويض التوزيع التقليدي للعمل الدبلوماسي، حيث سمحت بانتشار عدد أقل من الناس يعملون بشكل أسرع في مواقع جغرافية متفرّقة؛ وقد طرح هذا تحديات تتعلق بالأمن، وهنا يجب أن تقاس تكلفة المعلومة المفقودة أو المقرصنة بتكلفة الإزعاج أو التأجيل التي تنتشر في الممارسات القديمة.
2- الأفكار:
إن للأفكار أهمية قصوى في السياسة الخارجية، ووفقًا لعديد الرؤى فإن الفوضى المستمرة في العراق ترتبط أساسا بأفكار خاطئة شكّلها المحافظون الجدد عن العالم الإسلامي، وبالمثل تعكس نظرة الأصوليين أفكارا مشوّهة عن الآخر المختلف؛ إن هذه الحجج الأيديولوجية لا يمكن حسمها عبر الأنترنت، إلا أن هذه الأخيرة ستكون وسيلة نشطة لتبادل أفكار لا يمكن تجاهلها؛ سيتطلّب الأمر إعادة التفكير في كيفية إدارة المناقشات والمشاركات السياسية عبر الأنترنت، ففي فرنسا على سبيل المثال خصّصت وزارة الخارجية جلسة تفاعلية شهرية على منصة تويتر، تتيح للجمهور التواصل مع المسؤولين وطرح أفكارهم وآرائهم، وفي 19 و20 نوفمبر 2012 انعقد بمالطا مؤتمر حول الدبلوماسية الابتكارية، أكّد فيه الباحثون أن الابتكار في الدبلوماسية يحتاج إلى رؤية ثقافية متميزة وفهم للمتغيرات العالمية.
3- الشبكات:
يحتاج الدبلوماسين أو ممارسو السياسة الخارجية إلى إدراك تام بالمواقع التي تتم فيها مناقشة قضايا دولهم، ومحاولة إيجاد طرق للمشاركة فيها، فشبكة ويكيبيديا، على سبيل المثال، وبصفتها واحدة من أكبر الشبكات العالمية، هي مناطة بتغطية مجموعة واسعة من القضايا الدولية المعاصرة، وعادة ما تُستخدم من طرف غير الخبراء كمنفذٍ للتوجيه أو الحصول على معلومات أولية، وبالتالي تستهدف الدول اتّباع نهج أكثر إبداعا وذكاء لتحقيق وجود ديناميكي على الويب؛ الشاهد على ذلك موقع سينا ويبو(Sina Weibo) الذي أنشأته الصين لمنافسة موقعي تويتر وفيسبوك، حيث أنه بعد هجوم كونمينغ الإرهابي في 1 مارس 2014 نشرت السفارة الأمريكية منشورا على موقع ويبو تدين فيه هذا العنف الرهيب الذي لا معنى له ؛ وهو ما ولّد ردود فعل لدى مستعملي الأنترنت الصينيين الذين نددوا بتجنب السفارة استعمال عبارة هجوم إرهابي ، وتفاعل مع منشور السفارة السابق أكثر من 50,000 تعليق، كما أعيد نشره أكثر من 40,000 مرة، حيث أن معظم التغريدات كانت تركّز على تجنّب السفارة الأمريكية توظيف مصطلح “هجوم إرهابي” لوصف المأساة.
4- المعلومات:
تقع المعلومة الموثوقة في صميم صنع السياسة الخارجية، وإن المشورة ومضاعفة مصادر المعلومات إلى جانب إشراك المزيد من الجهات الفاعلة سيوسع نطاق تبادل المعلومات وتحليلها، وعلى الرغم من غياب وسيلة إلكترونية آمنة لنقل المعلومات ذات الاهتمام المشترك بين الدول ذات السيادة وحتى المجتمعات والشعوب، على الرغم من ذلك تعمل بعض الفواعل المؤثرة ،مثل الاتحاد الأوروبي، على تجاوز هذه العقبة، خصوصا أن تبادل حرية المعلومات من أسس سياسته الخارجية المشتركة.
إن وسائط التواصل الاجتماعي بالنسبة للدبلوماسيين الرقميين هي أكثر من مجرّد أداة للتواصل؛ أحيانا تكون نافذة لتحقيق ما كان يبدو مستعصيا في الدبلوماسية التقليدية، ومن أمثلتها:
1- في سنة 2013 فتحت إسرائيل سفارة افتراضية في دول مجلس التعاون الخليجي، مستخدمة اللغتين العربية والإنجليزية في مخاطبة الجمهور المستهدف، مبتعدة قدر الإمكان عن الانخراط في الجدال مع المستخدمين، مركّزة على أن الابتكار الإسرائيلي من شأنه أن يفيد دول وشعوب المجلس، حدث هذا رغم أن إسرائيل ليس لها وجود رسمي في أي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي،
2- فتحت الولايات المتحدة أول سفارة افتراضية في إيران عام 2011 من أجل تعزيز فرص الحوار مع المواطنين الإيرانيين واستقاء المعلومات من الشعب بمعزلٍ عن المصادر الحكومية، كما قدّمت السفارة نماذجا عن إيرانيين نجحوا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 2014 نشرت السفارة تهنئة باراك أوباما للشعب الفارسي بمناسبة عيد النوروز، وبحسب مجلة بوليتيكو فإن نسبة مشاهدة فيديو التهنئة في طهران كانت أعلى من سان فراسيسكو.
3- كما يستشهد كذلك بالممثلة الخاصة للمجتمعات الإسلامية بوزارة الخارجية الأمريكية فرح بانديث التي كانت تجيب يوميا عن أسئلة مسلمينَ متنوعي الثقافات لديهم شك في ممارسات حكومة بلدها، وتترجم منشوراتها إلى لغات الباشتو، الأردية، العربية، السواحلية وغيرها.
من جانب آخر استرعت الدبلوماسية الرقمية الانتباه إلى تعزيز الممارسات الديمقراطية والتنبيه إلى انتهاكات حقوق الإنسان، حيث أبدت كثير من الدول مساندتها للحملة الإعلامية التي قادتها مجموعة مليون صوت ضدّ فارك أي احتجت أكثر من مائتي مدينة على نشاطات القوات المسلحة في كولومبيا (فارك)، وتم تدوين التعبئة على أنها أكبر احتجاج على منظمة إرهابية في التاريخ بحسب البعض.
كما أن الدولة الفاعلة أو صاحبة النفوذ والعلاقات والحضور وعبر مختلف الطرق في شركات ومؤسسات الانترنت والبنية الهيكلية لها تحاول منع الأطراف المعارضة لها من نشر المحتوبات التي تعترض مع سياسات هذه الدول حتى لوكانت هذه الدول تمارس سياسات الإبادة والحرب وتخترق القانون الدولي الإنساني ، كما تفعله تركيا مع الشعب الكردي ونضاله في الحرية والديمقراطية وغيرها من الدول، بل أن شبكة الأنترنت والتواصل الافتراضي هي لأجل هيمنة ما تسمى الشرعية الدولية للنظام العالمي المهيمن ونهبها وتبضيعها العالم ومعرفة بوصلة التوجهات السياسية والاقتصادية حول العالم بغية وضع السياسات المناسبة لاستمرار الهيمنة على دول وشعوب العالم.
كما يمكن أن توظف الدبلوماسية الرقمية في علاقات القوى الكبرى، حيث استخدم سفير الولايات المتحدة في روسيا مايكل ماكفول منصة متعددة اللغات، وكان يستعمل تويتر عندما يتعلق الأمر بقضية معقدة، في حين يلجأ إلى فيسبوك عندما يريد التحدث مع المجتمع؛ أقرّ ماكفول بأن هذه المنصة مكّنته من الوصول إلى وسائل إعلام معادية، كما أنه استطاع الحديث إلى قطاع عريض من المواطنين الروس، إلا أنه أبدى تحفظا على أن عدم التلامس بين ما هو مهني وما هو شخصي يظل مبتغى صعب المنال لكل من ينخرط في ممارسة الدبلوماسية الرقمية.
التحديات والسلبيات التي تواجه عمل الدبلوماسية الرقمية:
تساهم الرقمية في إنشاء مجموعة تفاعلية عابرة للحدود تتجاوز قدرة الحكومات على توجيه ورقابة المعلومة، و على الرغم من أن التقنيات الرقمية تعد بإحداث تغييرات هامة على المدى البعيد، إذْ ستسهم في تمكين الضعغاء والمجتمعات، وبناء هندسة أكثر تعددية، وتبدو ضليعة في تكوين مجتمع عالمي ديمقراطي حسب البعض، إلا أنها بالمقابل تطرح مستقبلاً يحمل تحديات جادة منها:
1- صعوبة الفصل بين ما هو شخصي وما هو مهني باعتراف الدبلوماسيين الرقميين.
2- تزايد وتيرة السخرية العامة على منصات التواصل الدبلوماسي الرقمية، وانتشار مشاعر الخوف وعدم الثقة الاجتماعية وكذلك الأخبار الوهمية والكاذبة وخطاب الكراهية بعض الأحيان، وهي تحديات غذّت مواقف الجهات الحكومية وغير الحكومية من عواقب التقنيات الرقمية.
3- الأدوات التي تسمح لوزارات الشؤون الخارجية والسفارات الوصول إلى ملايين البشر وبناء جسور رقمية مع الجمهور بهدف تعزيز التعاون الدولي وتحسين مشاركة الشتات وتحفيز العلاقات التجارية والتطلع لمستقبل واعد في إدارة الأزمات، هي ذات التقنيات التي يمكن أن توظَّف في اختراق البنيات السياسية والإعلامية وتقويض تماسك النسيج السياسي والاجتماعي للدول أو الشعوب والمجتمعات المستهدفَة.
4- صعوبة اتخاذ القرار في بعض الأحيان ؛ بسبب وجود أطراف كثيرة ومتداخلة في العمل الدبلوماسي والعلاقات الدولية ، فأصبح على صانع القرار أن يراعي السرعة ووسائل الإعلام والاتصال والرأي العام الضاغط التي يمكنها أن تكون عامل ضغط عليه في بعض الأحيان لاتخاذ قرار سريع بشأن قضية ما ، وقد يكون لهذا القرار بهكذا طريقة تداعيات سلبية ونتائج عكسية .
5- الأمن الإلكتروني وهو يتمثل بالاختراقات الإلكترونية للوثائق الدبلوماسية والبرقيات التي تصل إلى البعثات أو إلى مسؤولين في دول أخرى تمتاز بطابعها السري. استثمار التكنولوجيا الحديثة من قبل الجماعات الإرهابية كداعش والقاعدة والنصرة ، لا يخفي أن الجماعات الإرهابية استفادت بنحو كبير من التقدم التكنولوجي واستخدم وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت وعدد من التطبيقات الحديثة على الهواتف الذكية في تجنيد عناصرها وتنفيذ مخططاتها الإرهابية وقد نبهت الأمم المتحدة في أكثر من قرار لها في مجلس الأمن بهذا الشأن ومنها القرار 2395 و 2396 في عام 2017 حول الأمن والاستقرار ومواجهة التهديدات الإرهابية اللذين أشارا إلى موضوع استخدام الإرهابيين للتكنولوجيا الحديثة ، فضلاً عن كلمة وزيرة الدفاع الإيطالية في مؤتمر حوار المنامة في تشرين الأول 2018 ، التي أشارت بوضوح فيها إلى الفضاء الإلكتروني والإرهاب، ودعت إلى تبني استراتيجية مواجهة إلكترونية بهذا الخصوص .
ضرورة الدبلوماسية الرقمية:
ويمكننا أن نشير أن ضرورة الدبلوماسية الرقمية يأتي لعدة أمور منها:
1- فهم الواقع جديد والتغيرات الجديدة في الوظيفة الدبلوماسية :
عرفت الوظيفة الدبلوماسية تغيرات جذرية في طرق الاتصال سواء كان ذلك مع أفراد سلكها الدبلوماسي أو مع الجمهور الذي تريد أن تقدم له مواقفها وأراءها حول القضايا الدولية والإقليمية ، والبيئة الرقمية المتمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي هي واقع افتراضي جديد أصبحت الدبلوماسية العالمية ملزمة بتعبير ضمن حيزه المستجد .
2- إدراك السياسة الخارجية الحديثة :
تنتقل اجندات واستراتيجيات سياسات خارجية الدول والقوى الفعالة إلى البيئة الرقمية ، وهناك دول ومؤسسات تعتمد عليه بشكل كبير ، وبالتالي لابد من رؤية كافة أجزاء السياسة الخارجية ، والتواجد الافتراضي هو جزء مهم من السياسة الخارجية .
3- معرفة تعدد الفواعل الدولية الجديدة :
في السابق كانت المنظمات الدولية غير الحكومية هي أهم فواعل المجتمع المدني العالمي ، الآن أصبحت الشركات متعددة الجنسيات وكذلك التنظيمات المجتمعية.
4- كونها المستقبل الدبلوماسي :
شيئاً فشيئاً يتوجه العالم نحو وحدة افتراضية في الممارسات السياسية والدبلوماسية وخصوصاً بعد ظهور جائحة كورونا ومتحوراته .
السفير الرقمي ( تكنوبلوماسي):
هو سفير لدى الجمهوريات الافتراضية في وادي السيلكون الذي تتخذه كبريات شركات التكنولوجيا العالمية مقراً لها ، على غرار قوقل ، الفيسبوك ، أبل ، ماكروسوفت ….. وغيرها .
مهام السفير الرقمي هو المشاركة الدبلوماسية الرقمية والتي يمكن تحدديها في النقاط التالية .
1- إدارة المعلومات الدبلوماسية العامة .
2- التخطيط الاستراتيجي .
3- المفاوضات الخارجية و الدولية.
4- إدارة الازمات.
وحسب كاسبر كيلدج كأول سفير رقمي فإن مهامه في الوظيفة الجديدة ستكون لها أربعة أدوار رئيسة تتلخص في بناء الشراكة وتشكيل آراء شركات التقنية ، واكتشاف الاتجاهات الجديدة ، وإصلاح وزارة الخارجية نفسها من خلال مشروع التحول التكنولوجي الرقمي لوزارة الخارجية الدانماركية ” كما أن دوره سوف يكون في البحث عن الاستشارات لصالح حكومته فيما يتعلق بالأمن القومي ومناقشة القضايا الأخلاقية في هذا المجال وسبل حماية البيانات واستخدامها.
وصرح السفير كاسبر كيلدج عقب توليه هذا المنصب أن التأثير المتنامي لشركات التكنولوجيا على حياة الناس في الوقت الحالي جعل بلاده تقوم بتعيين سفير متفرغ من أجل التواصل مع هذه الشركات ، و هذه الشركات لم يعد ينحصر دورها في التقنية وإنما أصبحت فاعلة ومؤثرة في كافة أنواع السياسة لاسيما السياسة الخارجية للدول . كما وصف نفسه بأنه سفير ” تكنوبلوماسي ” وسيكون مقر سفارته في وادي السيلكون . بعد ذلك عينت فرنسا سفيرها الرقمي دافيد مارتنيون في 22 نوفمبر 2017. ثم توالت التعينات الدولية .
مستويات فعالية الدبلوماسية الرقمية :
هناك تباين لا محالة في استعمال الدبلوماسية الرقمية بين الدول والشعوب والمؤسسات ، وعليه تعتمد كل جهة على مستوى معين من الفعالية تعتقد أنه يناسبها أو يناسب مرحلتها الحالية . وهنا يقترح جوزيف ناي ثلاثة مستويات من شأنها تحديد مستوى المعلومات والتأثير والمشاركة .
1- المستوى الأول : وهو اتصال عادي يسعى إلى تقديم وتفسير السياسة الخارجية للدولة.
2- المستوى الثاني : اتصال استراتيجي يتبع خطة معينة وهي الوصول إلى درجة معينة من التأثير على الرأي العام في مواضيع معينة .
3- المستوى الثالث : وهو مستوى العلاقات طويلة الأمد ، والتي ترتكز على بناء الثقة .
وعليه من أجل تقدير المستويات السابقة يتوجب على الباحث دراسة حالة استخدام الدبلوماسية الرقمية لكل دولة أوشعب أومؤسسة أو أية جهة ومعرفة مستوى المعلومات المقدمة للجمهور ثم تقدير مستوى التأثير وأخيراً مستوى التفاعل مع الجمهور الأجنبي .
مؤشرات الريادة العالمية في تفعيل الدبلوماسية الرقمية .
1- وجود خطة استراتيجية لتكنولوجيات المعلومات التابعة لوزارة الخارجية للدولة محل الدراسة :
وبالتالي تقدم هذه العينة تقارير سنوية خاصة لها ، مثلا الولايات المتحدة الأمريكية أنشأت سنة 2001 Office E – DIPLOMACY والذي يقدم كل سنتين خطته الخاصة بالدبلوماسية الرقمية وفيها عدد المستخدمين والأجهزة من خلال نقاط الوصول ، وكذا التطبيقات او المنصات المعدة للتأثير وكذا البنية التحتية من ميزانية ورواتب الخبراء والتقنيين القائمين على هذا المجال . ومن أجل فهم أكثر فإن الدبلوماسية العامة لوزارة الخارجية تقوم بعملية تقييم لأنشطتها من خلال أربع فدات :
• العرض والهيكل للنشاط : فيه يتم التطرق إلى شفافية الأغراض وتحديد النتائج
• التخطيط الاستراتيجي للنشاط : بناء الأولويات .
• إدارة البرامج : وهو الجانب اللوجيستي من احتياجات تمويل النشاط .
• درجة توضيح النتيجة النهائية : يتم تصنيف كل فئة من الفئات الأربع من إلى 0 إلى 100، وبعد ذلك يتم تصنيف البرنامج على أنه فعال أو غير فعال أو لا نتيجة في حال عدم وجود مؤشرات واضحة عن الرضا.
2- مستوى المعلومات :
وهو احصاء عدد الأشخاص المطلعين على المعلومات المقدمة ضمن النشاط الدبلوماسي الرقمي قيد التقييم ، كأن تضع عدد الحسابات الرسمية ثم نبدأ في حساب عدد المشتركين في الشبكات الاجتماعية المختلفة . وهنا القياس يخضع إلى معايير مختلفة منها الجهات الحكومية الجهات غير حكومية عدد المشتركين / الحسابات المختلفة لمختلف منصات التواصل الاجتماعية التي تختلف فيها طريقة حساب المنشورات والمشتركين والمتابعين من أجل الوصول إلى متوسط القيمة .
3- مستوى التأثير :
التأثير يعني وجود هدف سياسي معين ، والذي يجب تحقيقه من خلال التأثير على الجمهور . غير أنه هناك صعوبة كبيرة في تحديد فعالية التأثير إلا أنه يمكن الحكم على التأثير من خلال :
• الحكم من خلال حملة تأثير الرأي العام معينة من خلال مقاس ” كل شيء أو لاشيء ” معنى هل كان هناك قبول من الناس أم لا ، ولا يمكن تقديم تقدير كمي ولكن يمكن فهم ذلك من خلال سياق كلي واضح وغير متباين .
• الاستطلاعات التي تواكب بداية ونهاية الحملة .
• المبلغ المنفق على الحملة .
• التحليل الدلالي والتداولي ( نسبة لمنهج للسانيات التداولية pragmatic معنی تحليل الدبلوماسي ) .
4- التفاعل مع الجمهور الدولي :
يتضمن هذا المستوى استطلاعات رأي دورية طويلة الأمد حول موضوع إدراك الحملات ، وكذا دراسة التوزيع الكافي للموارد ، كما لابد من دراسة الجمهور أو الشريحة المستهدفة .
5- تقييم المثمنين :
المثمنين هم الجهات الخارجية التي تستعين بهم وزارة الخارجية مثلاً في ادارة حملة ما أو نشاط دبلوماسي معين وهذه الفئة هي فئة الفاعلون غير الرسميون وتجمع في جعبتها وسائل الاعلام الإخبارية / المنظمات التجارية وغير التجارية / مجتمعات الخبراء والمؤسسات الأكاديمية الشخصيات العامة المعروفة – من خلال شروط الشراكة الواضحة والنظر في عملهم وتقيمه من خلال نظام المكافئات .
6- برامج الدبلوماسية الرقمية :
إن مؤشرات كتابة المقالات والكتب الأكاديمية وتدريس مقاييس الدبلوماسية الرقمية في الجامعات التابعة للدول محل الدراسة تعد مهمة في ضبط وتقييم مدى تفعيل العمل بالدبلوماسية الرقمية.
وفي السنوات الأخيرة كان الترتيب العالمي بالشكل التالي في الدبلوماسية الرقمية :
1- أمريكا. 2- بريطانيا، 3- فرنسا، 4- روسيا، 5- فاتيكان، 6- ألمانيا، 7- يابان، 8- كندا، 9- إسرائيل.
دور الدبلوماسية الرقمية في حفظ اتزان النظام السياسي :
نشـأت الدبلوماسية الرقمية وفق حاجة المستوى السياسي الرسمي بعد انتقال الناس إلى الشبكة العنكبوتية الثانية التي أصبحت فيها قادرة على الإرسال والاستقبال والتشويش على النظام الرسمي ، وهنا ولد ذلك شعوراً لدى المستوى الرسمي بخطر الناس التي شكلت مستوى رقابياً أعلى من المستوى الرسمي ، فاتجه المستوى الرسـمي متمثلا في السلطة إلى الدبلوماسية الرقميـة بوصفها وسيطا بينه وبين الناس التي أصبحت بفعل قوتها الدبلوماسية الشعبية والمجتمعية قادرة على التأثير في توازن المستوى الرسمي ، وتشعره بالاضطراب ، کما حصل تماما في ثورات الربيع العربي التـي كان لمواقع التواصـل الاجتماعي دور مؤثر فيه ، وأثرت في الإقليم والفاعلين في النظام الدولي . ولم يقتصر استخدام الدبلوماسية الرقمية على الشعوب ، بل تجاوزت ذلك إلى القادة وزعماء الـدول والمنظمات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية ، بحيث أثرت بشكل مباشر في واقع العلاقات الدولية وتفاعلاتها .
وتشكلت بوادره مع إنشاء الخارجية الأمريكية مكتبا خاصا بالدبلوماسية الإلكترونية عام 2002 . وقد لقي خيـار التوجه نحو القبيلة العالمية الرقمية اهتماما في العديد من الدول والشعوب والشركات والقوى الفاعلة، إذ عيّنت الدنمارك في سبتمبر 2017 ” كاسبر كلينغ ” سفيرا لوادي السيلكون في كاليفورنيا ، الذي يضم أكبر شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي وعلق كلينغ قائلا : ” بعـض الـشركات التكنولوجيـة لها تأثير كبير في البلدان ، وهذا ما يؤكد حاجتنا اليوم إلى التكنوبلوماسية ” ، وقد حذت فرنسـا الاتجاه نفسه بتعيين ” دافيد مارتينون ” سفيرا لشؤون المجال الرقمي في نوفمبر للعام نفسه .
القدرة التواصلية للدبلوماسية الرقمية في الاضطرابات السياسية:
أصبحت تقنيات المعلومات ولاسيما استخدام منصات التواصل الاجتماعي، تدمج بشكل متزايد في الممارسة اليومية للتواصل الدبلوماسي ، وبناءً على أهميتها غيرت الأنشطة الدبلوماسية بشكل عام ، نحو قدرة الدبلوماسية الرقمية على إدارة فعالة للأزمات بالنيابة عن الجهات الفاعلة والدولة والمجتمع الدولي ، وهو ما يسوغ تصرفات الدولة المرسلة أو الشخص المرسـل إلى الناس ، أو بمصـطـلـح أكثـر وضوحا ” المفسر ” للإشـارات الشعبية القادمة يدعم السياسـة الخارجية للدولة أو النظام ، ويعتمد ذلك على قدرات التواصل على المستويين الرسمي وغير الرسمي ، والتواصل الجمعي بإنشاء جيوش إلكترونية جديدة تسير بين الناس والمجتمعات والشعوب ووفـق حاجتهم للترويج إلى السياسـة الخارجية ، إنها باختصـار ” حرب الإمبراطوريات الرقمية ” .
وفي ظل التغيرات الرقمية الهائلة والتراكم الأسي للبيانات وضخها بشكل يومي ، كانت الحاجة إلى ترشيح البيانات أو إعادة توجيهها مهما في السياسة الخارجية للبلدان والشعوب والقوى الفاعلة ، وعليه اعتماد الانتشـار السريع لتفسير مواقف الحكومات أو الجهات ، أو لإطلاق التصريحات المثيرة للجدل ، كما كان يفعل الرئيس الأمريكـي الحالي دونالد ترامب عبر صفحته على توتير ، حيث كان يتابع كتاباته الصغيرة الملايين ، وتنقل عنه وسائل الإعلام والصحافة بأشكالها ، وهو يعد تصريحا رسمياً أسرع في الوصول من الإعلام التقليدي ، و في بعض الأحيان يرد الفاعلون السياسيون من خلاله على تساؤلات الناس الداخلية والخارجية وهو ما يعزز ثقة الناس بالمستوى الرسمي .
أصبحت قوة التأثير في المجال الرقمي للدول والقوى والشعوب من مؤشرات قياس القوة ، فتلك التي لا تستطيع الدفاع عـن مصالحها وتوضيح أرائها في المجال الرقمي ، ولا تستطيع حماية نفسها من الحروب السيبرانية القادمة هي دول وجهات وشركات ومؤسسات ضعيفة غير محمية ، وستظل سياستها الخارجية وعلاقاتها ضعيفة أيضاً.
تجربة إسرائيل:
في تجربة إسرائيل مع دبلوماسية الجماهير في الاضطرابات السياسية ، نرى تغريدات متواصلة في المستوى الرسمي الإسرائيلي و بشكل مستمر يتفاعـل مع الأحداث ،وتوجيه رسائل مباشرة للجمهور الفلسطيني على الدوام ، ولو أخذنا مثال حالة قطاع غزة ، وحـراك مسيرات العـودة ، والتصعيـد المتقطع نـرى أن أفخـاي أدرعي الذي يشغل منصب الناطق باسم ( جيش الدفاع الإسرائيلي ) للإعلام العربي ، وباعتبار الحراك السلمي في قطاع غزة يشكل حالة إضراب وأزمة سياسية للاحتلال الإسرائيلي – حريص دائها على تقديم تفسيرات للمجتمع الدولي لاستخدام القوة بحق الفلسطينيين ، وحريص أيضا على ضرورة وقف هذه الإضرابات بخطاب عقلاني أكثر من كونه تهديدياً ، موجه إلى الجماهير الفلسطينية التي تتوجه عبر الحدود ، إذ نجد أن منشـورا ( بوست ) له نشره على الفيسبوك بتاريخ 17 – 10 – 2018 ، حصـل في غضـون 4 أيام إلى تاريـخ 1 2 – 0 1 – 2018 على 158 تعليقـا متفاعلًا ، و 70 ٪ من هذه التعليقات لأشخاص من أهل غزة ، وشاهد الفيديو المرفق 16 ألف شخص ، وشاركه 9 أشخاص ، منهم 5 من قطاع غزة .
وقد رقي ” أدرعي ” في تاريـخ 1 2 – 0 1 – 8 1 0 2 إلى رتبة مقـدم في الجيش الإسرائيلي ، وأورد ذلـك عبر صفحته الشخصية ، وخلال 10 دقائق من نشر البوست عبر الفيسبوك حصـل عـلى 1 8 تعليقـا كثير منهـا لأنـاس من قطـاع غـزة ، وهذا يدل على حجـم اهتمام إسرائيلي بدبلوماسية الجماهير ، والدبلوماسية الرقمية للتفسير ، حيث يفسر ويسـوغ ” أدرعـي ” عمليـات جيش إسرائيـلي ضـد الفلسطينيين ، وإن كانت غالبية التعليقات فيها نوع من الشتم والتشـمت ، لكنها في نهاية المطاف تؤسس في العقل الباطـن للتطبيـع والتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي بوصفه كياناً موجوداً على الأرض تجب مناقشته و محاورته ، ويسعى الاحتلال من خـلال هذه الخطـوة إلى تعميـق التطبيع العربي معه ، وزيـادة التعـاون في مجـالات اقتصاديـة و أمنيـة مختلفـة .
وزارة الهسبراه :
أنشأ إسرائيلي وزارة خاصة تحت اسم وزارة الشؤون الإستراتيجية والإعلامية الإسرائيليـة ” الهسبراه ” ، وهـي كلمـة تلفظ باللغـة العبرية ، معناها التفسير والشرح ، أي أن الوزارة المختصة تعنى بشرح وتفسير المواقف الرسمية التي يصدرهـا إسرائيل ، والدفـاع عن (دولة إسرائيل ) ، وتتعلق بالتمثيل الإعلامي والسياسي والدبلوماسي للمواقف الإسرائيليـة . وقـد أضافت الـوزارة برامج ومساقات خاصة بها على الطلبـة داخل الجامعات والكليات الإسرائيلية ، لتوفير الأدوات والمهارات اللازمة لتسويق صورة الاحتلال الإسرائيلي عبر المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي . وقد بدأت جامعة حيفا داخل الاحتلال الإسرائيلي بتدريس مسـاق ” سـفراء في الشبكة ” المفروض من الهسبراه عام 2012 ، وهنا يقول ” إيلي أفراهام ” المحاضر في قسم الإعلام في جامعة حيفا وأحد مؤسسي المساق : ” الفكرة الرئيسة هي كيفية استخدام وسائل الإعلام لنشر الروايـة الإسرائيليـة ، وتعزيز وجهة نظرهـا ” .
وتقدم جامعة تل أبيب في السنوات الأخيرة مساقا بعنوان : نادي السفراء ” Club Ambassado ” لتعزيز الدبلوماسية الرقمية . ” ومع تقدم اقتصاديات التقانة في الاحتلال الإسرائيلي كان هناك وادي سليكون في تل أبيب على شاكلة وادي السليكون المعلوماتي في كاليفورنيا بأمريكا ، وبدت شركات ناشئة تصعد في السوق وتتبوأ مكانة عالية ، وغالبية هذه الشركات متخصصة في المعلوماتية والإنترنت والتقانة بتقاطعاتها الطبية والعسكرية والتنموية والاستخباراتية ، ومع هذا التقدم الهائل احتضنت تل أبيب ثاني أكبر مكتب لشركة غوغل في العالم ، وثاني أهـم مكتب لموقع الفيسبوك ، وفق ما ذكر في كتاب ملف غوغل الصادر عن عالم المعرفة .
ولم يكتف إسرائيل بـ ” الهسبراه ” ، بل اضطر إلى النزول إلى الجماهير ، ووظفت وزارة الخارجيـة في إسرائيل 75 موظفا ومتطوعـا و 8 مستشارين في قسـم ” الدبلوماسية الجماهيرية ” مع انتشار قرابة 30 موظفاً آخرين في مكاتب التمثيل الدبلوماسي ، كالسفارات والقنصليـات حول العالم ، کما تـشرف وزارة الخارجية الإسرائيلية على أكثر من 350 قنـاة رقميـة واجتماعية على شبكة الإنترنت ، إضافة إلى أكثر مـن 80 موقعا تابعا لمكاتب التمثيل الدبلوماسي حول العالم ، وقد كتب الذراع الإعلامي للخارجية الإسرائيلية : ” قبل 10 سنوات لم تكـن تربطنا أي علاقة مع الناس في العـالم العربي ، ولكن اليوم نـحـن قادرون على الوصول إلى كل مواطن … تصلنا تعليقات من أشخاص يغيرون رأيهم عن إسرائيل “
وقد احتفلت وزارة خارجية إسرائيل بكونها أقوى ارتباط رقمي مع العالم، فقد تمكنت في عام 2019 من الحصول على المرتبة الرابعة عالمياً على صفحات التواصل على الفيسبوك فلقد جذبت أكثر من 6.1 مليون متابع عربي، فيما بلغ عدد التفاعل العلني مع القنوات الإسرائيلية على شبكات التواصل بمختلف أنواعها ما يقارب من 220 مليون مواطن في الدول العربية.
الخلاصة:
وهكذا نجد أن للدبلوماسية الرقمية دورها المؤثر والفعال في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية للدول وللمجتمعات والشعوب سواءً بإيجابياتها أو سلبياتها، سواء عززت الحضور المجتمعي والشعبي في المجال الدبلوماسي أو قيدته بجملة من التحكمات والاختراقات والأطر المرسومة والمحددة التي يتم فرضها تحت أسماء القوانين المختلفة لصالح السلطات والدول القومية أو الهيمنة العالمية، إلا أن الملاحظ أن هذا الحقل في المجال الدبلوماسي وبكافة فواعله أصبح له حضور فعال في حياة المجتمعات والدول والشعوب وحتى الأفراد، وبالتالي يتوجب على الجميع وضع منظومات للعمل والتعامل واستخدام الدبلوماسية الرقمية في صالح المجتمعات والشعوب وفي أخذها عوامل ضغط ووسائل لتطبيق الديمقراطية والتحول الديمقراطي وحرية المرأة وريادة الشباب للحياة وليس كوسيلة لمراقبة الناس والدول ورصدهم ومعرفة نقط الضعف عندهم للتحكم بهم وبمستقبلهم ووضع الخطط للهيمنة والنهب والاستغلال عبر ضخ خطاب الكراهية والفتنة والفرقة والقوموية والإسلاموية بين الأمم والشعوب والمجتمعات والأديان والأثنيات والمذاهب. وفي إطار خدمتها وتحقيقها لمصالح الشعوب والمجتمعات وبناء العلاقات المفيدة والتعايش المشترك يمكن اعتبار الدبلوماسية الرقمية كجزء من الدبلوماسية المجتمعية الديمقراطية أو دبلوماسية الأمة الديمقراطية ومتمم لها لبناء التركيبات المجتمعية الجديدة الديمقراطية والتعايس السلمي المشترك وحل القضايا بالطرق السلمية والحلول الديمقراطية وتحقيق الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة والعالم.