تشهد اسيا الوسطى إعادة توازن كبير مع صعود الصين كواحد من أكثر اللاعبين المؤثرين في المنطقة.
يرجع صعود الصين في آسيا الوسطى إلى نظرتها الأوسع لوصول المنطقة، ولشهيتها المفتوحة لمصادر الطاقة واحتياطاته الغزيرة في آسيا الوسطى، حيث تتوسع في المنطقة من الاستثمارات التجارية والقروض ومصرف الاستثمار الآسيوي في البنى التحتية وعدة مكونات أخرى. ولا تطلب الصين، وذلك خلافا للغرب، أي نوع من الإصلاحات السياسية من حكومات آسيا الوسطى.
إن عدم وجود أجندة سياسية معلنة، باستثناء الاستقرار الإقليمي الذي ترى بكين إمكانية تحقيقه عبر التنمية الاقتصادية، يجعل من الصين جذابة بشكل خاص للحكومات المحلية. وبحسب تقرير لبول سترونسكي الباحث المتخصص بمركز كارنيغي، ترجمة جريدة «قاسيون» السورية، ان الوجود الصيني يتوسع على طول اوراسيا السوفيتية سابقا، فازدياد تأثيرها الجيوسياسي والجيوالاقتصادي يبدو بشكل هائل في آسيا الوسطى.
تعلمت الصين هنا كيف تتدبر مخاوف الروس وتنسق معهم لتنمية تأثيرها في المنطقة. ومع توقع زيادة الحزام والطريق للنفوذ الصيني على طول اوراسيا، ومن ضمنها روسيا، فالحفاظ على ديناميكية إيجابية مع موسكو في آسيا الوسطى سيبقى واحدا من أكثر الاختبارات أهمية التي ستواجهها الدبلوماسية الصينية.
وقد استطاعت بكين حتى الآن أن تضطلع بهذه المهمة بنجاح. تتعامل الصين بفطنة في تدبر مخاوف روسيا، لأن بكين تنخرط بشكل أساسي في آسيا الوسطى في المسائل الاقتصادية دون القيام بأي دفع علني تجاه القضايا السياسية والعسكرية. يعتقد انه لا تزال الأهداف الصينية في المنطقة -التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي وإبعاد الغرب بعيدا- اما متوافقة مع جدول الأعمال الروسي أو على الأقل غير متعارضة مع المصالح الروسية.
إن الأولوية المطلقة للصين في آسيا هي لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي من خلال التنمية. فتبعا للفوضى ألتي عصفت بالشرق الأوسط منذ 2011 وأوكرانيا منذ 2014، فالصين وروسيا كلتاهما تخشيان من عدم الاستقرار السياسي وتحاولان الحفاظ عليه. كما أن بكين وموسكو قلقتان من التطرف الذي قد ينتقل من افغانستان أو من الشرق الاوسط إلى كامل آسيا الوسطى التي تحاذي بحدودها كلتا الدولتين. ورغم أن لكلا البلدين مصالح متناظرة متمثلة في الحاجة إلى احتواء المتطرفين، فإن مقاربتهما للاستقرار الأمني في المنطقة مختلف. تركز روسيا عمومًا على القوة الصلبة في آسيا الوسطى «القواعد العسكرية وصفقات الأسلحة والتعاون لمكافحة الإرهاب عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي»، بينما تركز الصين جهودها لاستقرار المنطقة عبر القوة الاقتصادية وليس الأدوات العسكرية أو الأمنية، ولا ترغب بكين بتسليط الضوء على تأثيرها الجيوسياسي، أو تدعي بأن المنطقة جزء من «مجال نفوذها المميز»، فالحفاظ على تأثيرها من بحر الصين الجنوبي هو أكثر اهمية بكثير بالنسبة لها من استعراض قوتها في آسيا الوسطى.
ولذلك بدلاً من ذلك تسعى الصين لإنشاء منطقة استقرار حول إقليم تشينغيانغ النامي في غرب الصين، حيث يقطن مسلمو اليوغور. ترى بكين أن الرفاه على أحد جوانب الحدود يساعد على ضمان الاستقرار والرفاه على الجانب الآخر. الهدف الاستراتيجي الثاني في آسيا الوسطى هو إيجاد أسواق خارجية للشركات الناشطة في مجال الأعمار وتنمية البنية التحتية، وذلك كجزء من «استراتيجية الانطلاق خارجا». يساعد هذا في تقليل السعة الفائضة في هذه القطاعات في الصين ويخلق فرصا للشركات الصينية والعمال في الخارج. تسعى الشركات الروسية بدورها للمنافسة على مشاريع بنى تحتية متنوعة في آسيا الوسطى، وهو القطاع المزدحم أساسا باليابانيين والكوريين الجنوبيين والأتراك. يساعد ازدحام هذا المجال على تقليص إمكانية حدوث شرخ تجاري مباشر بين روسيا والصين بسبب برامج بكين الخارجية في آسيا الوسطى.
ثالث أهداف بكين، وهو الذي يمكن لمسه بشكل واضح في مبادرة الحزام والطريق، إن يتم بناء شبكات للنقل يمكنها أن تساعد في دعم تدفقات الصادرات الصينية. ترى الصين في هذا الأمر مشروعا طويل الأمد سوف يساعد على تنمية معظم أقاليم غربي الصين عبر وصولها بالأسواق العالمية من خلال شبكة سكك حديدية وطرقات سيارات في الأعوام التالية. تتم جذب روسيا بشكل مباشر إلى هذا المشروع عبر ممر الصين-روسيا-منغوليا الاقتصادي. عندما يتعلق الأمر بمبادرة الحزام والطريق، فالصين، كما يشير سترونسكي، غير مهتمة بالارباح قصيرة الأجل وتتوقع أن تخسر ما يصل إلى %30 من استثماراتها في آسيا الوسطى. ورغم ذلك فهي تستمر في بناء الطرقات والجسور والقنوات والطرقات السريعة على طول الأقاليم، مع خطط طموحة يوصلها بغيرها من مشاريع البنى التحتية القريبة من أوروبا، وهي الوجهة النهائية لمبادرة الحزام والطريق، حيث الاستثمارات الصينية هي أيضا في تصاعد في قطاعات النقل والخدمات اللوجستية. تسعى الشركات الصينية أيضا نحو الفرص شبكات الألياف البصرية وشبكات الاتصالات الأخرى في جميع أنحاء المنطقة ليخلق اتصالاً رقمياً يمتد من الصين إلى آسيا الوسطى وما بعد. تأمل الصين أن تصبح هذه الشبكات المادية الرقمية مربحة وأن تساعد بالتزامن مع هذا على خلق سلسلة من النظم الصديقة أو المؤيدة للصين. وبايجاز، إن مبادرة الحزام والطريق هي رؤية دافعها الرئيسي هو تدفق المعلومات والتجارة من الصين، وليس من الولايات المتحدة أو أوروبا. وإن نجحت المبادرة فسوف تساعد على تسهيل تحقيق الأهداف الروسية-الصينية المشتركة في تسريع نقل القوة العالمية من الغرب إلى الشرق. يتمكن التنسيق الروسي-الصيني بشكل متزايد من تولي أمر الحفاظ على أمن آسيا الوسطى. تسعى روسيا جاهدة إلى الحفاظ على قوتها الناعمة، عبر الروابط الإعلامية والثقافية، كما أنها تسعى إلى الحفاظ على تأثيرها السياسي والعسكري في المنطقة وإلى وضع حدود للدور الغربي عموما. موسكو وبكين تشتركان بالأهداف في آسيا الوسطى، ومن الواضح إن تنسيقهما ينص على ترك غالبية القضايا الأمنية في الأقاليم لموسكو. فعندما يحدث تعاون ثنائي في القضايا الأمنية بين الصين ودول آسيا الوسطى، يتم ذلك بهدوء شديد وينحصر بالتهديدات الأمنية الواقعة على المؤسسات الدبلوماسية والاقتصادية الصينية، او بتهديدات المتطرفين من جماعة اليوغور ضد الصين. ترى عموم النخب السياسية في آسيا الوسطى في تنامي الوجود الصيني في المنطقة عامل استقرار. يؤمنون بأن الاستثمار الصيني في البنى التحتية سيساعد على تنوع اقتصاداتهم ويعزز التنمية الاقتصادية الأوسع يخلق وظائف، وهذا كله سيساعد على استقرار الاقتصادات ألتي تعاني وتعتمد في الوقت الحاضر إما على استخراج الموارد الطبيعية أو على التحويلات النقدية من العمالة المهاجرة. انهم يرحبون بمبادرة الحزام والطريق بوصفها جزاء من رؤية أكبر لزيادة وصل المنطقة بعضها ببعض.