يزخر الأرث الشعبي العراقي بالكثير من ما يدل على واقع حال الديمقراطية في العراق, وينطبق عليها المثل الشعبي بوضوح: ” لو ألعب لو أخرب الملعب” أو “تريد ارنب أخذ أرنب .. تريد غزال أخذ أرنب” وجميعها ترجمة وتجسيد لما يجري في واقع السياسية العراقية والتي ينطبق عليه بوضوح: ” تريد فاسد أخذ فاسد .. تريد نزيه أخذ فاسد “, وبكل الأحوال فأن خيار العبث في العملية السياسية وتأصيل منطق الفساد فيها والأستحواذ هو سيد اللعبة ” الديمقراطية ” في العراق, حيث أن القوى المتصارعة على صناديق الأقتراع لم تجد في الديمقراطية سبيل للتدوال السلمي للسلطة ومقدمات لازمة لأرساء أسس نظام يضمن الحقوق المتبادلة لجميع المكونات الاجتماعية والسياسية والأثنية عبر تأكيد الأختيارات الحرة, بل تجد في صناديق الأقتراع لعبة سهلة للأستحواذ على السلطة والدولة واعادة تكريس الأستبداد السياسي والاجتماعي والتشبث في البقاء في السلطة واعادة انتاجها لمصلحة خطاب لا يمت بصلة للحاضر واعادة بنائه على أسس من التقدم العلمي والتكنولوجي والمقترن بتطلعات الفكر الانساني في ارساء أسس العدل والحق والمساواة, بل اعادة لدورات التخلف والفساد واضفاء الشرعية المزيفة على ما يجري واعتبارها اقدارا مقررة سلفا وليست نتاج لقوى الفساد والخراب المهيمنة على مقدرات البلد وامكانياته.
منذ سقوط النظام الدكتاتوري السابق على أيدي المحتل الأمريكي في عام 2003 وبعد تأسيس النظام على أسس من الطائفية والأثنية المحاصصاتية دخل شعبنا في حالة من الأغتراب مع النظام الجديد حيث لم يلبي ادنى متطلباته في العيش الكريم وافتقار شديد للخدمات الانسانية من صحة وتعليم وماء وكهرباء, ورافق ذلك تدهور للبنية التحتية الأقتصادية والاجتماعية ونهب للمال العام واستشراء الفساد الاداري والمالي والاجتماعي وضرب منظومة القيم الاخلاقية والاجتماعية في ابسط مقوماتها من صدق وامانة وحفاظ على المال العام, حتى باتت القوى السياسية الطائفية والاثنية الحاكمة يضرب بها المثل السيئ على الصعيد الداخلي والدولي في السرقة والفساد والاهدار العام وانعدام الشفافية وغياب دولة القانون, وانتشار للسلاح المنفلت والمليشيات المسلحة وعصابات الجريمة الفردية والمنظمة الى جانب ظواهر اجتماعية لم يعتادها العراق سابقا, من انتشار للمخدرات والسرقات والشللية الفاسدة وارتفاع نسب الطلاق بشكل مروع والازدياد المطرد للأرامل واليتامى والعوانس وحالات الانتحار المتصاعدة الى جانب الارتفاع المخيف لنسب البطالة وانعدام فرص العمل وخاصة بين اوساط الخريجين من حملة الشهادات المختلفة وعدم ايجاد حلول جذرية عبر اعادة احياء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص لحياة وخدمات افضل.
حالة الاغتراب في المشهد الاجتماعي والسياسي وجدت صدى لها في الكثير من مظاهر الاحتراب الداخلي وفي حالات التمزق والتفكك الاجتماعي وقد انعكس ذلك في اقبح وجوهه بالحروب الطائفية والعداوات والكراهية الأثنية والمكوناتية وفي انعدام الأمن المجتمعي الشامل وعدم الايمان بالدولة بأعتبارها حاضنة للجميع والابتعاد في الممارسة العملية عن تطبيق القانون وفرض اللادولة وحكم المليشيات بأعتباره هو المنطق السائد في تصفية الحساب او انتزاع الحقوق, واحلال العشائرية والقيم البالية بديلا عن قيم دولة المواطنة, مما اصبح أمن الفرد والمجتمع في مهب الريح.
في الممارسة السياسية جسدت حالة الاغتراب حضورها الشديد في عدم المساهمة الشعبية في الحياة السياسية العراقية حيث عزوف الشعب عن ممارسته في المشاركة في الأنشطة السياسية ولعل في مقدمتها هو العزوف غن صناديق الأقتراع, وبأستثنا حقبة التجيش والانفعالات والعزف على اوتار خلط المقدس في السياسة وهي حقبة قصيرة نسبيا امتدت من تشكيل بداية النظام حتى الانتخابات البرلمانية الأولى وقد لعبت فيها المرجعيات الدينية دورا كبيرا في العزف على انفعالات ادعاء المظلومية التاريخية الطائفية ولعب دور المعبئ لأنتخاب الاحزاب الأسلاموية في تصور خاطئ وخطير أن الحزب الطائفي يساوي ابناء الطائفة, ولكن سرعان ما تهاوى هذا بعد ان انكشفت حقيقة الأسلامويين في السلطة بأعتبارهم جزء من الأزمة العراقية العامة وليست جزء من الحل, وقد تجلى ذلك في انكسار هيبتهم المفتعلة في عدم مساهمة الشعب في الانتخابات البرلمانية اللاحقة, والتي جسدت اشد حالات الضعف معبرة عن عدم الثقة في النظام السياسي القائم على المحاصصة المعادية لمصالح الشعب الاساسية, وقد كانت اشد حالات الضعف فيه هو المساهمة في الانتخابات البرلمانية للعام 2018 والتي لم تتجاوز 25% من نسبة المؤهلين للأنتخابات الى جانب التزوير وحرق صناديق الأقتراع, ثم الأنتخابات الخامسة الحالية التي اجريت في 10ـ10ـ2021 والتي تتراوح نسبة المشاركة فيها بحدود الثلث فقط من مجموع من يحق لهم التصويت والبالغ عددهم 25 مليون نسمة تقريبا.
ورغم ان هناك مصادقة شكلية دولية من قبل المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الاوربي على نزاهة الانتخابات البرلمانية الخامسة التي اجريت في العاشر من شهر اكتوبر وعن بيئة أمنية لا بأس بها, ولكن على المنظمات العالمية الدولية ان تقرأحقيقة عدم المساهمة العامة والضعيفة في الانتخابات العراقية استنادا الى البيئة العراقية الأمنية الشاملة الهشة والى الاوضاع العامة في البلاد, لأن بيئة الانتخابات هي بيئة مصطنعة مؤقتة لا تعبر عن البيئة السياسية والأمنية العامة في البلاد, وبالتالي استدرك المواطن عدم المشاركة انطلاقا من فهمه للأزمة السياسية العامة في البلاد والتي تجسدها بوضوح أن معظم القوى السياسية غير مؤمنة بالديمقراطية كسلوك ونهج عام, بل ان بعض من تلك القوى يحمل السلاح بيد ويصوت باليد الأخرى ” والكثير من هذه القوى محسوب على الدولة “, فأن لم تأتي نتيجة التصويت كما يشتهي فقد شهر سيفه مشككا بالأنتخابات ومطالبا بألغائها ومهددا للسلم المجتمعي عبر فرضة اجندة الأمر الواقع بقوة السلاح.
فحال اعلان النتائج النهائية لأنتخابات اكتوبر الحالية والتي فاز بها جناح شيعي يمثله مقتدى الصدر الى جانب قوى اخرى سنية وكردية حتى اعلن تجمع شيعي آخر وبمسمى ” الأطار التنسيقي للقوى الشيعية ” حيث شهر سيف التشكيك في الانتخابات البرلمانية ونتائجها موجها اصابع الأتهام الى شخص رئيس الوزراء بل ومطالبا بمحاكمته بالخيانة العظمى في تزوير الانتخابات, الى جانب ادعائهم بضلوع دول عربية وفي مقدمتها الأمارات العربية المتحدة في عمليات سطو سيبرانتي لتزوير الانتخابات, تلك الأدعاءات التي تتنافى مع التقارير الدولية والمحلية في نزاهة الانتخابات النسبية تجسد في فحواها سلوكية الخاسر في الانتخابات وغير المؤمن في العملية الديمقراطية وهو يشتغل ضمن المنطق العبثي ” لو ألعب لو اخرب الملعب ” والملعب هنا ليست المقصود به احتجاج شكلي او ردة فعل انفعالية بل يحمل في فحواه تخريب لمنظومة العمل بأكملها وفرض ارادة مشوهة عبر منطق التهديد بالسلاح والوعيد بتحريض الشارع العراقي ودفعه الى حريق شامل عبر ادعاءات كاذبة بأمتلاك الحق, انه سلوك مريض اختبره شعبنا ولم يتفاعل معه, حيث ان مشكلات شعبنا في الحياة الحرة الكريمة اكبر بكثير من أن يعبث بها من لا يؤمن بالديمقراطية, وان شعبنا يستذكر بذكاء من سبب ازهاق ارواح وقتل مواطنين ابرياء في انتفاضة اكتوبر للعام 2019 تجاوز عددهم 700 شهيد وجرح واعاقة اكثر من ثلاثين ألف مواطن.
أفرزت نتائج الانتخابات البرلمانية الخامسة فوز مجموعة برلمانية متعددة المشارب والرؤى الى حانب القوى التقليدية السابقة بأوزان مختلفة نسبيا, وحسب نتائج الانتخابات فهناك حضورا لوجوه جديدة او على الأقل لم تشارك في البرلمان السابق, وهناك مستقلين الى جانب تمثيل ما للحراك الاجتماعي الذي جسدته انتفاضة تشرين, اضافة الى حضور للعنصر النسوي فاق 90 مقعدا وقد فاز اكثر من 50 أمرأة بقوتهن التصويتية وليست عبر نظام” الكوتا “. والحديث هنا عن مدى فاعلية تلك التركيبة وادائها في ظل قانون الانتخابات المتعدد الدوائر الذي حصر التصويت والفوز مناطقيا مما يضعف لحمة الخطاب الوطني الجامع بأعتبار ان عضو البرلمان هو ممثل للشعب وليست لمنطقة او عشيرة او طائفة, وان هموم الوطن العامة تتقدم بالضرورة على هموم اخرى. اما دور المرأة المرتقب فلن يرتبط بكم تمثيلها في البرلمان فقد كانت في البرلمانات السابقة ممثلة بحدود 80 برلمانية ولكن اغلب ادوارهن بقيت معطلة في الدفاع عن قضايا المرأة العادلة في الحرية والمساولة, بل وفي احيان كثيرة ألحقن الضرر بقضيتهن من خلال انتمائهن الى احزاب لا تؤمن بالمساواة بين الجنسين. الى جانب هذا سوف يشهد سيناريو تشكيل الحكومة والكتلة الأكبر الكثير من محاولات الأحتواء وسلب الأدوار والضغوط المختلفة التي ستقع على الكتل الصغيرة التي تتمتع بقدر من الأستقلالية عن الاحزاب الطائفية والأثنية الأكبر, الى جانب ان الكثير من الاحزاب الحاكمة نزل مرشيحها بصفة مستقل وسوف ينكشف ذلك عند تشكيل الكتلة الأكبر.
لقد شاهدنا كيف ان قانون الانتخابات الجديد أدى إلى تحول في خطاب الكتل والائتلافات والمرشحين، حيث كانت الدعاية في الانتخابات الماضية تتناول الوضع في العراق ككل، مثل ظواهر الفساد الاداري والمالي واهدار المال العام ومحاسبة الفاسدين وفرض الرقابة السياسية على الحكومة وأعمالها والسيطرة على السلاح المنفلت وتعزيز هيبة الدولة والقضاء، أما بالقانون الجديد، فقد وجدوا المرشحون أنفسهم ملزمين بقناعة او لا للتواؤم مع ما فرضه القانون الجديد، حيث أصبحت القضايا المناطقية هي المسيطرة، وأصبحت البرامج محلية تعالج أموراً حتى على أقل من المستوى الجزئي، كالبنية التحتية والخدمية، ولم تعد الصورة تتسع لبرامج تعالج الهموم والتحديات التي تواجه العراق ككل, بل ان العشائرية وضيق الأفق والتكتلات المختلفة اخذت مديات اوسع من ذي قبل.
إن الانتخابات المبكرة كان ينظر إليها على أنها أحدى المخارج الفعالة للخروج من الأزمة السياسية التي رافقت المشهد السياسي منذ احتجاجات تشرين في أكتوبر/تشرين الأول 2019، من أجل إعادة تجديد شرعية النظام السياسي التي انهارت بعد سلسلة من عمليات الاغتيال والإخفاء القسري التي مورست بحق الناشطين والمحتجين الذين تظاهروا من اجل تحقيق ابسط المطالب الانسانية ” رغم ان شرعية النظام وتآكلها بدأت مع نشأته المحصصاتية”، إلا أن الخاسرين في الانتخابات الأخيرة يبدو أنهم يفضلون شرعية وجودهم وكيانتهم السياسية على شرعية النظام ودولة المواطنة، ولذلك بدأوا يشككون بالعملية الانتخابية التي صاغوا قانونها واشتركوا فيها ووضعوا العراقيل ضد نجاحها, والى اليوم كما نتابع ان الحكومة والاجهزة الأمنية تستطيع بعمليات مخابراتية دقيقة ألقاء القبض على قيادات ارهابية معروفة في داعش وغيرها ولكنها عاجزة عن الكشف عن قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة والاعلان عن الجهات التي تقف ورائهم, ان ذلك يعكس بعض من اوجه التداخل بين قوى الدولة واللادولة المليشياوية.
ورغم ان الديمقراطية في العراق ومعوقتها لا تختزل في دورة انتخابية برلمانية واحدة, بل هناك تجذر في اشكالية ممارستها, وللأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقع كبير في عدم الأرتقاء بها وبقائها رهينة الأمزجة السياسية التي تستلم السلطة والتي في غالبيتها تعبر عن غياب الثقافة الديمقراطية عند الاحزاب بل عدم قناعتهم بها لأسباب عقائدية وسلوكية, الى جانب البدايات الاولى القائمة على النهج المحصصاتي العرقي والطائفي والمناطقي واحلال الشرذمة المكوناتية مقابل ثقافة التنوع المبدع في اطار الوحدة الوطنية, الى حانب الثقافة القبلية التي لا صلة لها بالديمقراطية الى جانب حالات استمالة العشائر في الصراعات الطائفية السياسية واحلال ثقافة التحريض القطيعية مقابل ثقافة التفرد والأبداع وتعزيز مكانة الفرد الحر المستقل في خياراته الحياتية والسياسية منها بشك خاص. الى جانب عوامل اخرى افرزتها منظومة الحكم المتعاقبة من تحلل في المنظومة الأخلاقية الفردية والمجتمعية وانعكاساتها على قيمة الديمقراطية وجدوى مساهمة الفرد في صنع القرار, ناهيك عن الخراب الاقتصادي والازمات المتواصلة وتكريس الاقتصاد الريعي الذي حول الدولة الى بائعة نفط لا غير كي تأكل يوما بيوم, مما سبب انعدام الأفق في نهضة اقتصادية اجتماعية وعجز في امتصاص خيرة الخبرات والقوى العاملة الى عجلة التغير الايجابي, وقد انعكس ذلك في حالات اليأس وانعدام الجدوى من المساهمة في الافعال السياسية ومنها السلوك الانتخابي.
وتبدوا ملامح المرحلة المقبلة من خلال ما افرزته صناديق الاقتراع أن هناك ليست أسابيع تفصل العراق عن تشكيل حكومته الجديدة، بل أشهراً، فتدخل البلاد الآن مرحلة المفاوضات بين الأحزاب. وهذه هي المرحلة الخطرة، التي قد تؤدي إلى مساومات تضر بالمصلحة العامة مقابل مصالح ضيقة. وهذا ما جعل الكثير من العراقيين ينتقدون العملية السياسية برمتها والقائمة على التوافقات على حساب الوطن وأمنه وسلامته. والتحدي أمام الكتل الفائزة ” اذا ارادوا ان يتخلوا عن نهج المحاصصة الطائفي والاثني وعقلية الصفقات المريضة وهو امر مستبعد” أن يراعوا المزاج العام في البلاد ويبذلوا جهوداً لسد الفجوة مع الشعب, وأن لا يفرضوا على الشعب أكثر الخيارات مرارة والتي يجسدها المثل الشعبي العراقي: “تريد فاسد أخذ فاسد .. تريد نزيه أخذ فاسد “, واذا كانت انتفاضة تشرين عبرت عن اكثر النماذج سلمية في الحراكات الاجتماعية الرافضة للمحاصصة والمطالبة في الحقوق الاساسية, فأن حراكات اجتماعية قادمة قد تختلف عن تشرين في الوسائل وطرائق الرفض للمنظومة الفاسدة وبالتالي لا تستدرك مدايات وسقف مطاليبها الى أين !!!.