الديمقراطية والسلطة والشعب
عناوين ثلاثة تشكل اليوم العمود الفقري لكل الأدب السياسي بشقيه السلطوي أو الجماهيري , وهي الثالوث الذي تفترق عنده المفاهيم والنظريات والأسس البنائية للمجتمعات وصورتها التنظيمية ,كما أنها تشكل بترابطاتها الكيفية المعيارية الحقيقية للتفريق بين النظم السياسية وأوصافها ومن كونها وصف قانوني دستوري بحت إلى وصف العلاقة الأجتماعية التي تفرضها على علاقات المجتمع بالسلطة الحاكمة وبالعكس.
كثيرا ما تعلمنا وتثقفت أجيال منا على مقولة أن الديمقراطية تعني حكم الشعب لنفسه , ومرة أخرى بأن الشعب هو مصدر السلطات , وهذا التثقيف جرى في دوائر أكاديمية أولا ثم أنتقل إلى أواسط المثقفين والساسة منذ بدايات القرن الماضي دون مراجعة للمعاني ولا نقد للمفاهيم الخاطئة التي جاءت بها , بل أصبح اليوم من الصعب على شخص ما أن تقنعه أن الديمقراطية لا تعني في الحقيقة حكم الشعب لنفسه ويعتبر ما تود أن تطرحه مجرد هراء لا يستحق المناقشة , فأصبح التبجح والانتماء للمقولة أساس صحتها دون فسح المجال لإعادة الفهم لا سيما وأن قرنا من الزمان على الأقل يفصلنا بين نشأة المفهوم في مجتمعنا والتطور الفكري والقانوني الدستوري والتجربة العالمية الحقيقة والتي هي جديرة بإستيلاد الكثير من المفاهيم المتطورة والمحدثة لمعنى الديمقراطية.
هناك مجموعة مفاهيم ومصطلحات وأفكار بنيت على أنها شيء واحد وأخذ الناس يتعاملون مع هذه المجموعة من المدركات المعرفية كبدائل دون أن يفرقوا ما بين مدلول ومؤدى وأساس تكويني لكل واحد على حدة, فمثلا السلطة غير النظام وغير معنى الحاكمية , والديمقراطية كمفهوم سياسي يختلف عنه كنظرية مجردة تعتني بكيفية توصيف العلاقة بين السلطة والشعب .
مقولة أن الديمقراطية تعني سلطة الشعب لا تنطبق مع الحال الواقعي ولا مع الوصف الدستوري كما أن افتراضها عمومي غير دقيق ,هناك أطراف ثلاثة في المعادلة الحاكمة للمجتمعات وهي الشعب الذي يجب ومن حيث الأساس أن ينتظم بموجب رؤية مميزة إن لم تكن غالبة بالحقيقة فلا بد أن تشكل الطيف الأعم والأكثر تناسبا مع المزاج العام , وعلى كلية المجتمع هنا الالتزام بهذه الرؤية ليس التزاما قانونيا فقط بل ويكون هذا الالتزام يتعلق بالوجود ومراعاة حاجة المجتمع للانتظام فهي تنشأ من حاجة ولا تنشأ من قانون لأنه لا قانون حقيقي قبل تبلور وجهة المجتمع نحو رؤية ما.
الشعب صاحب المصلحة الأولى في الانتظام ولا بد لهذه المصلحة من تجسيد واقعي مقنن ومشرع على نحو منظم وملزم كما بينا سابقا يتولى ادارة وتنظيم حركة المجتمع من خلال جملة من الحدود تتسوق أخيرا وفق نفس الرؤية الأصلية التي أوجدت وأوجبت التجسيد ,بمعنى أن وجود السلطة المنظمة لا بد أن يتماثل ويتناسب مع شكلية تنفيذ وأداء السلطة هذه لواجباتها ,حتى لا تكون مبررات وجودها تتهدم وتنهار أو تتعارض مع علة السلطة وهذا ما يسمى بالفقه القانوني والدستوري مشروعية السلطة وشرعية الممارسة , هنا نشترط أن تتماثل المشروعية مع الشرعية وفق رؤية موحدة.
هنا نشأ وجود أخر مادي ومستقل هو السلطة من وجود مادي اخر هو الشعب كما نشأت بينهما علاقة معللة ومشروطة تسمى الحاكمية تفسرها وتبررها رؤية عامة تسمى نظام الحكم يمارس من خلالها اعضاء السلطة مهامهم تحت وصف دقيق يسمى نظرية الحكم تستند إلى حيثية توضيحية تسمى نظرية السلطة لتشكل جميعا ما يسمى بالنظام السياسي الذي يفصح عن وجود القوة الضابطة وممارستها للمسؤولية تحت عنوان حكومة ,أي أن السلطة تمارس ترجمة النظرية الحاكمة إلى واقع من خلال ضرورة أن ينتظم المجتمع تحت مظهر تكاملي بين الحاكم والمحكوم بين مانح السلطة ومستعملها, هنا يكون أمامنا كتلتين مختلفتين بالوصف وغير متداخلتين بالمسؤولية كتلة الشعب وكتلة السلطة الحاكمة فلا هذا يمكنه أن يحل محل هذا ولا هذا يكون بديلا لذاك , فلا الشعب يمكنه أن يحكم نفسه بنفسه وهذا محال عقلا إلا من خلال نخبة السلطة أو النخبة المفرزة للحكم.
إذن مفهوم الديمقراطية على أنه حكم الشعب بنفسه أو لنفسه في فارق في التوصيف القانوني وفي التوصيف الواقعي ,فلس من المعقول أن الشعب ككل يحكم الشعب ككل لأن هذا يمثل نوع من التوصيف العابث الغير حقيقي ,ولكن يمكن تحرير الوصف على أنه حكم الشعب لنفسه من خلال التخويل العام لا الغالب ولا الجمعي , فلو كان التخويل حسب الاغلبية فلا بد من معرفة ماهية الاغلبية هل هي الاغلبية القادرة على الاختيار وهي نسبة قليلة عموما من الشعب باعتبار مفهوم الغالبية التي تعني النصف زائد واحد ومثال ذلك الشعب العراقي خمسة وثلاثون مليون كتلته الانتخابية واحد وعشون مليون ,يكون النصف زائد واخد هو عشرة ملايين وخمسمائة الف وواحد ,وهي نسبة تقارب أقل من الثلث وهو غالبية وهمية لا تمثل كل الشعب بل تمثل أقلية وما ينتج عنها من اختيار هو حكم الاقلية على الاكثرية وليس تجسيدا لحكم الشعب لنفسه.
أما إذا اعتبرنا أن الغالبية الحقيقية تعني من منحه المجتمع حق التحدث والتفويض نيابة عنه ,هنا لا بد أن نثبت ذلك واقعا وبالكيفية والزمان والشكل وهذا ما لا يمكن تحديده أو اثباته على وجه الدقة , إذن المسألة هي ليست بتحديد الغالبية لمن تمنحه التفويض بل بالأساسيات الضرورية لذلك الوجود , أي أن الضرورة هي التي تمنح المشروعية أو كما قال الإمام علي عليه السلام في حربه ضد الخوارج أن المجتمع بحاجة إلى أمير بر أو فاجر ردا على مقولة أن الحكم إلا لله ,نظرية الامام علي تحاكي الواقع العقلاني ونظرية الخوارج تمثل الفرض المثالي لأننا لا يمكن أن نتلمس واقعا إرادة الله إلا من خلال الانتظام تحت حكم الله وبالتالي خرجنا من موضوع الضروريات العملية الى المثاليات الفقهية.
إذن الديمقراطية ليست نتيجة خيار بل أستجابة للضرورة ومن هنا يمكننا أن نصف علاقة المواطن مع السلطة هي علاقة أفترضها الواقع ولم تكن نتيجة لا على مبدأ قانوني عقدي ولا هي تخويل شرعي مثلها مثل بقية نظريات الحكم مثل الملكية او الجمهورية العسكرياتية بفارق أن للديمقراطية فضيلة أن للشعب قدرة على ممارسة نوع من أنواع الرقابة السلطوية أيضا باعتباره صاحب سلطة استثنائية يمكن له أن يمارسها بنفس الترتيب النسقي للسلطة الحاكمة ,أي أن بإمكان الشعب الخضوع للمنتج الديمقراطي ,وعلى السلطة التي أتت بالنهج الديمقراطي أن تخضع لنفس شروط هذه اللعبة ومن هنا أمكن وجوبا لا فرضا أن تتوازن القوتان الاجتماعيتان السلطة والشعب تحت اطار ما يسمى بالنهج الديمقراطي ويتبادلان الأثر والتأثير فيما بينهما أيضا أستجابة للضرورة الحتمية المتمثلة بالقراءة الواقعية التي أشار لها الإمام علي عليه السلام ( لا بد من أمير بر أو صالح ).
عليه فإن السلطة من حيث هي ناظمة ومسيرة ومنضبطة في النظرية الديمفراطية يعني أنها وليدة تراتيب ونسق ذو وجهين نشأ الوجه الأول من الحاجة له كونه ضرورة , ونشأ الوجه الثاني كونه الأقرب للعدل النسبي لذا كان التمسك بالديمقراطية كخيار شعبي ليس انتصارا لنظرية مؤدلجة ومسبقة ,بل كانت انتصار لمسيرة الإنسان نحو التألف وانتصار لطبعه المدني , ومحاولة البحث عن الأنسب والأصلح , ولكن هذا لا يعني أن ممارسة الديمقراطية هي أخر المشوار الإنساني ,فهناك إرهاصات لفكرة أو نظرية أقرب للديمقراطية وقريبة من التصور الأفلاطوني وهي نظرية التكافل المجتمعي التي تعني حق الأفضل دوما في أن يكون بالمحل الأمثل والأنسب وفق نظرية العقد الدستوري القائم على التفويض المقنن وهو ما جاء بمقولة الخليفة الاول (إن رأيتموني أزيغ عن الحق فقوموني) وهي نظرية تبادل وتكامل المسؤولية.