سأجعل مارتن هايدجر Martin Heidegger يستهل هذه المقالة، لأني لا أعتقد أن من بين مثقفي العالم من كان أكثر قناعة بمركزية الجامعة في التطور و الرقي غيره، خصوصا إبان توليه رئاسة جامعة (فرايبور الألمانية) سنة 1933. فهو يقول : [إن إرادة ماهية الجامعة هي إرادة العلم كونها إرادة لرسالة الروحية التاريخية لشعب].
وبدوري كم صارعت التردد و أنا أحاول الكتابة و النبش في هذا الموضوع “المصيري”، (جامعة بالصحراء الغربية) لأن الأمر وما فيه مشاكسة دامية لحقيقة غير عادية. نعم، لأنه لو إطلاعنا على المسار الكرونولوجي لهذا المطلب أو دعوني أنعته [حق] وللحجم الهائل من التضحيات التي بدلها الطلبة الصحراويون تاريخيا، لخرجنا باستنتاج واحد تسطع حقيقته في كبد السماء : نظرة النظام السياسي القائم بالمغرب لمطلب الجامعة بالصحراء الغربية، هي ذات النظرة التي ترى بها “تل أبيب” عدوتها اللدودة (طهران)؟!!
فلماذا تتعنت الدولة المغربية تارة، وتمارس شطحات الحرباء تارة أخرى على المطلب (الحق)، ألا وهو جامعة مستقلة وذات الاستقطاب المفتوح و متعددة الشعب بالصحراء الغربية؟
قبل الخوض في صلب موضوعنا الأساس، سأنعطف قليلا لإثارة السجال حول الجامعة المغربية وما ألت إليه اليوم؛ بعد أن راكمت 63 سنة من تجارب الفشل و الفشل الذريع أو ما يصح لنا تسميته (إصلاح الإصلاح)، فالمتتبع للخط الكرونولوجي لمجموع التجارب التي قامت بها الوزارة الوصية من أجل إخراج الجامعة من غرفة الإنعاش : (اللجنة العليا لتعليم/1957، اللجنة الملكية لإصلاح التعليم/ 1958، المجلس الأعلى لتعليم/ 1959، مناظرة المعمورة/ 14 نيسان 1964، المخطط الثلاثي/ 1965_1967، مناظرة إفران الأولى/1970، مناظرة إفران الثانية/1980، اللجنة الوطنية لتعليم/1994، اللجنة الملكية لتربية و التكوين/1999،اللجنة الخاصة بالتربية و التكوين أو ما يعرف بميثاق الوطني لتربية و التكوين/2001، المخطط الإستراتيجي/2002_2009، الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التربية و التكوين للمجلس الأعلى لتربية و التكوين/2015_2030)،الحوصلة النهائية لمسلسل ’’الإصلاح’’ هذا كانت صفر مكور، وخير دليل ممكن أن نتشبث به هو مؤشر QS Index التابع لمؤسسة Quacquarelli Symonds الذي حل علينا بقائمة تميز أفضل الجامعات لعام 2021، إذ تغيب الجامعات المغربية كلية باعتبارها [وراء صيرورة التاريخ الحديث] نظرا لانحدار المستوى الأكاديمي و المعرفي و موت درجة البحث العلمي (الذي يعتبر ترف و أخر الأولويات).بل ارتكان الجامعة المغربية بزاوية “التيه الأندراغوجي” أو إن صح لي التوصيف (الإصابة بقلق وجودي منهجي و استلاب أخلاقي حاد) و فتح أبوابها على مصراعيها لمختلف الأجهزة “الأمنية” و جعلها مطبخ سياسي يراعي حميمية التوجه الرسمي للمخزن لا أقل ولا أكثر.
بالمختصر؛ اليوم تتحقق صرخة جسوس محمد Mohamed Guessou إنهم يريدون جيل من الضباع” بعد أن أصبحت قلاع الفكر النقدي الإبستيمي الوضاء مجرد أوكار للفساد الإداري و الأخلاقي، مجرد حصون ورقية تُروج لبضاعة ’’فكرية’’ مُقمقمة و معلبة وسط الشواهد، مجرد مستنبت لخلق أخر صيحات ” الغش”، الظاهرة التي أصبحت لصيقة بقوام الجامعة المغربية اليوم.
سنرجع تدحرج عجلة النقاش إلى صلب الإشكالية المبنية على ناصيتها هذه المقالة؛ ونعيد طرح حزمة أسئلة مؤرقة :
لماذا يمارس النظام السياسي المغربي سياسة ’’تكسير العظام’’ مع مطلب الجامعة الصحراوية بكلياتها و معاهدها و مراكزها البحثية؟
هل يجعلنا نستحضر مبدأ ’’المفاضلة’’ و ثنائية هم و نحن؟
أم أن الأمر وما فيه هاجس (طابو) ’’امني / استخباراتي’’ نظرا لوضعية إقليم الصحراء الغربية سياسيا؟
إذا أردنا النبش في تجليات التاريخ بمعول إمبريقي/ إبستيمي بعيدا عن أي “ضيق أو تحيز أيديولوجي”، سنرى أن الطلبة الصحراويون دافعوا باستماتة قل نظيرها عن مطلب الجامعة في جل الانتفاضات الشعبية التي شهدتها مختلف ربوع الصحراء الغربية (إنتفاضة اسا/1992، مظاهرات 1995 بكل من السمارة و العيون، مظاهرات المسيد/1997، أحداث العيون/1999…) بل وجعلوا حرمة الجامعة المغربية منصات (في وضعية هجوم) لدفاع و الذود عن هذا الحق المهضوم و استحضاره في كل المناسبات، وفي كل مرة يصطدمون بسياسات صنيعة المخزن المغربي تختلف باختلاف الظرفية الزمنية و المتعلقة بشكل مباشر بتطورات قضية الصحراء الغربية؛ فتارة _وفي غالب الأحيان_ لا صوت يعلو على ثنائية القمع و الردع، وتارة يُطلق عندليب (أنصاف الحلول “سكن جامعي، منحة، أذينات النقل…”) ليدوي صوته في الأفق، وتارة أخرى ما يمكن أن نسميه (التفريخ أو المحاباة) وهي محاولة الالتفاف حول أحقية بناء جامعة صحراوية مستقلة وذات الاستقطاب المفتوح و تعدد الشعب وذلك بخلق عدة أنوية / أقطاب جامعية موزعة بمختلف حواضر الصحراء الغربية (المدرسة العليا لتكنولوجيا و مركز الدراسات الاقتصادية بكليميم/ 2011، المدرسة العليا للتكنولوجيا بالعيون/2014 ، مدرسة التجارة والتسيير بالداخلة/2014 ، مركز الدراسات في مهن الطبيعة و التنمية المستدامة بأسا/2017 ، مركز الدراسات و التكوين بالوطية/2018 …)، أنوية جامعية ذات استقطاب جد محتشم أنشئت بإسقاطات فوقية (جهات أمنية). ذات تواصل محدود مع محيطها الاجتماعي و الاقتصادي لأنها تابعة لجامعة إبن زهر. بل الأكثر من هذا، إذا أردنا تصفح القاسم المشترك لطبيعة تخصصات بمختلف هذه الأنوية / الأقطاب الجامعية المحدثة، نجدها ذي طبيعة “تقنية” لا غير وهنا أستحضر ’’غرامشي’’ قائلا : (إن هنالك نوعين من التعليم، تعليم عضوي و تعليم تقني. الطبقة البورجوازية المتحكمة لكي تضمن استدامة موقعها المتحكم تشجع أبناءها على التعليم العضوي، حيث العلوم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي ستورث أبنائهم علوم الإنسان و بروتوكولات البورجوازية و ستفتح هذا الطبقة الباب على مصراعيه لأبناء الطبقة الكادحة أمام التعليم التقني الذي سيؤهلهم ليكونوا عبيدا أكفاء في مصانع الرأسماليين و شراكاتهم).
إن سؤال مؤسسات التعليم العالي بالصحراء الغربية سيبقى جاثما على هيكل التاريخ، وسيبقى يسائل في كل وقت وحين الدولة المغربية عن فرقعاتها الصابونية الكاذبة (الجهوية المتقدمة، العدالة المجالية، التنمية المستدامة…) وستبقى معاناة الطلبة الصحراويون تزداد يوما بعد أخر _ولكرة الثلج حديث_، أما سلة الحلول الترقيعية هاته لأجل رتق الثقب _الذي يتسع_ في ظل غياب إرادة حقيقة و جادة من طرف النظام السياسي المغربي الذي لم يتخلص من بوثقة (الطابو السياسي) و بعبع (الهاجس الأمني / الإستخبارتي) بالصحراء الغربية. كل هذا و أكثر لن يزيل عن الحق و (طالبي الحق) ثوبه الناصع.