بقلم غليب إيفانوف
المصدر:
ترجمة عادل حبه
غليب ايفانوف
“باربودوس تعني” الثوار الملتحون. لقد تمت صياغة المصطلح لوصف القوات المتمردة للثورة الكوبية. “دخل رجال ملتحون وخرجوا من مكتب سيينفويغوس ، وكانت البنادق تقذف للخلف وللأمام”
كانت موجة الاحتجاجات في كوبا من أبرز الأحداث التي وقعت في شهر تموز، والتي اتضح أنها الأكبر في هذا البلد منذ عام 1994. قبل ذلك، هزت الاضطرابات فنزويلا الاشتراكية، وهُزمت القوى اليسارية في الانتخابات في الأرجنتين وأوروغواي والبرازيل ، وأجبر على ترك منصب حتى إيفو موراليس زعيم بوليفيا على المدى الطويل . وطرح موقع ” حجج وحقائق” الروسي على مدير معهد أمريكا اللاتينية الأكاديمية الروسية للعلوم ديمتري فياجيسسلافوفيتش رازوموفسكي السؤال التالي:
-ما الذي يحدث في كوبا، لقد شهدت كوبا احتجاجات منذ عام 1959، ولكن لماذا إندلعت هذه الأحداث الآن؟
ديمتري رازوموفسكي: من الصعب للغاية إيعازها إلى سبب واحد. في رأيي، إن الاحتجاجات الكوبية هي حالة عاصفة مثالية تحصل عندما تتوفر ثلاثة عوامل: النتائج المتراكمة للأزمة الاقتصادية، وبشكل أساسي بسبب العقوبات الأمريكية، والقيود التي فرضت على السياحة بسبب فيروس كورونا حيث انخفضت عائدات الميزانية جراء ذلك بأكثر من 10 مرات، من 5-6 مليار دولار في 2018 إلى 200 مليون في النصف الأول من عام 2021. وانهيار إحدى محطات الطاقة الحرارية، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي في عدد من مناطق كوبا. وأثار الحدث الأخير احتجاجات في مدينة سان أنطونيو دي لوس بانوس، ثم في جميع أنحاء البلاد.
مظاهرات الاحتجاج الشعبي في العاصمة الكوبية هافانا في شهر تموز عام 2021
ويعتمد سكان الجزيرة على الكهرباء بسبب ندرة الطعام، فإن الاحتفاظ به في الثلاجة هو وسيلة لبقاء الأسرة على قيد الحياة. وإذا لم يتوفر الكهرباء ويتدهور حال الغذاء، فستكون الأسر على شفا كارثة إنسانية. في غضون ذلك، وبسبب أزمة الوقود في فنزويلا التي كانت المورد الرئيسي لموارد الطاقة الرخيصة لكوبا، تعاني الجزيرة من مشاكل تأمين الوقود لمحطات الطاقة. ونتيجة لذلك، فإن العديد منها لم يعد يعمل بكامل طاقته. لكن في الوقت نفسه، ضمنت السلطات دائماً عدم ترك القطاع السكني بدون كهرباء. ولم تشهد البلاد حالة من هذا القبيل في كوبا كما هو الحال في فنزويلا .
ومع ذلك، جرى حادث في محطة حرارية لتوليد الطاقة. ولم تعد الطاقة المنتجة في جميع المرافق كافية، واضطرت السلطات إلى قطع التيار الكهربائي عن المباني السكنية حتى لا تفقد المستشفيات حاجتها من التيار الكهربائي. وعاش المواطنون الكوبيون بلا ضوء ولا كهرباء. ويضاف إلى ذلك مشاكل أخرى، حيث عانت الجزيرة من أزمة اقتصادية لفترة طويلة، ونتيجة لذلك نزل الناس إلى الشوار إحاجاجاً هلى تردي أوضاعهم.
لقد كان من الواضح أن هذا الاحتجاج كان عفوياً في البداية. ولم يتم إعداد أي لافتات أو ملصقات ، وفي أحسن الأحوال تمت كتابتها على عجل. وكانت معظم المطالب ذات طابع إنساني: “نريد طعاماً ، لا نريد ثورة”. وفي وقت لاحق، عندما إمتد الاحتجاج إلى20 مدينة، بدأت الشعارات السياسية بالظهور، ثم برزت إلى الواجهة. ومع ذلك، لم يكن هذا هو الحال في البداية.
– ما سبب الأزمة الاقتصادية في كوبا؟
– تعمقت الأزمة جراء تشديد ترامب العقوبات الأمريكية الحادة والقاسية ضد كوبا في عام 2019. ولهذا السبب ، في نفس العام ، بدأ الناتج المحلي الإجمالي لكوبا في الانخفاض. وتسارع ذلك في عام 2020 بسبب جائحة فيروس كورونا.
لقد خفضت العقوبات التي اتخذها ترامب بشكل حاد من المساهمات التي يمكن أن يرسلها المهاجرون الكوبيون إلى أوطانهم. وإضافة إلى ذلك، فإن العقوبات التي ألغاها أوباما أو قلصها، أعيد العمل بها إلى أقصى حد. و أدى هذا بدوره إلى انخفاض كبير في تدفقات رأس المال من أوروبا. أخيراً، تم تشديد القيود على التجارة مع كوبا. ونتيجة لذلك، انخفض تدفق العملات الأجنبية إلى البلاد بشكل كبير. ولم تتمكن كوبا من استلام البضائع التي تعتمد عليها على الواردات. وإضطرت السلطات الكوبية إلى إجراء إصلاح مؤلم للعملة، مما تسبب أيضاً في إثارة الاستياء لدى السكان.
كما لعب وباء كوفيد -19 دوراً سلبياً أيضاً. حتى وقت قريب ، كان حجم الوباء محدود على نطاق الجزيرة. ونجت كوبا من الموجتين الأولى والثانية من العدوى تقريباً. كان معدل الوفيات النسبي من فيروس كورونا من أدنى المعدلات في العالم – 0.6٪، وهي نسبة أقل من معدل الوفيات الناجمة عن الأنفلونزا الموسمية في أي بلد. وتمكنت كوبا من تطوير العديد من اللقاحات الخاصة بها وبدأت في التطعيم. وبحلول نهاية العام، خططت السلطات لتطعيم جميع المواطنين. وسار كل شيء على ما يرام ، لا سيما بالمقارنة مع دول أخرى في المنطقة.
لكن في حزيران، فتحت كوبا أبوابها من جديد للسياح ، بما في ذلك السياح الروس. وبدأت موجة من الإصابات، من 8 إلى 10 آلاف شخص يومياً. ويعد ذلك بالنسبة لكوبا التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة ، أعداد ضخمة. وقد ساهم ذلك أيضاً في إندلاع موجة السخط.
– حدثت أكبر الاحتجاجات بعد رحيل راؤول كاسترو عن السلطة، آخر ممثل لثورة الملتحون (باربودوس). فهل هذه مجرد صدفة؟
– نعم، ربما لا يتمتع الرئيس الحالي ميغيل دياز كانيل بالسلطة التي كان يتمتع بها الجيل السابق من الثوار الكوبيين. يمكنك أن تتذكر كيف أنه في التسعينيات، عندما واجهت كوبا صعوبات هائلة بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي ، تواصل فيدل كاسترو مع الناس شخصياً، وقام بشرح المشاكل للناس وصدقوه. كانت سلطة القائد آنذاك عاملاً هاماً من عوامل الاستقرار.
إن ميغيل دياز كانيل لا يملك مثل هذه القدرة حتى الآن. لكن من المهم ملاحظة أنه توجه على الفور إلى سان أنطونيو دي لوس بانوس، المدينة التي بدأت فيها الاحتجاجات. ولم يختفي عن الأنظار، وتواصل مع السكان المحليين. في هذا الصدد، كان مخلصاً للسياسة التي اتبعها الأخوان كاسترو.
لكن ربما لم تفعل السلطات الكوبية بما يكفي الآن. يوهناك إعتقاد بأنه كان ينبغي عليها بذل المزيد من الجهود لشرح أسباب المشاكل التي نشأت للسكان في مجال إمدادات الطاقة وإصلاح العملة. لقد إعتاد الشعب الكوبيون على الصعوبات وشد الأحزمة. إذا كان جوهر ما كان يحدث واضحاً وصريحاً لهم، فأعتقد أنه بالنسبة للكثيرين سيكون عاملاً مخففاً.
– بدأ باراك أوباما التقارب مع كوبا وأوقفه ترامب وأعاد فرض العقوبات. لماذا أراد أوباما تحسين العلاقات مع الجزيرة؟ وماذا سيحدث في عهد بايدن؟
– في الولايات المتحدة ، منذ الستينيات، كان هناك نهجان تجاه المشكلة الكوبية. الأول هو موقف “الصقور” القائم على ضرورة الضغط على الجزيرة “المتمردة”. ولقد تم الضغط بهذا الإتجاه من قبل الشتات الكوبي في الولايات المتحدة، المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالجناح المحافظ للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة. إنهم يدافعون عن أقصى درجات الإجراءات الصارمة والخنق الاقتصادي والإطاحة بالنظام الحالي في هافانا في نهاية المطاف.
لكن كان هناك دائماً موقف ثان، الجناح “البناء”. وهؤلاء هم في الأساس الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي واللوبيات الصناعية التابعة له، وعلى سبيل المثال ، الزراعية أو الصيدلانية، وكذلك مشغلي الرحلات البحرية الكبيرة. لقد دافع هؤلاء دائماً عن تخفيف نهج واشنطن والحاجة إلى إقامة تعاون تجاري واقتصادي مع الجزيرة. وتعد كوبا، من وجهة نظرهم، سوقًا كبيراً، ومن الخطيئة الابتعاد عنها. واعتمد أوباما على هذا الجناح في فترة رئاسته. وبفضل هذا، كان من الممكن الانتقال إلى سياسة بناءة. إذ كان هذا مفيداً جداً للشركات الأمريكية التي بدأت في التوسع في السوق الكوبية.
لقد وعد بايدن خلال الحملة الانتخابية بإعادة سياسة أوباما للتطبيع مع كوبا. ربما كان يريد الدخول في مفاوضات حول تطبيع جديد من شأنه أن يقوي موقفه، على قاعدة كلما ضعف العدو زادت تنازلاته الممكنة. أو ربما تم التوقف بسبب انتخابات الكونجرس النصفية المقبلة في عام 2022. ويدرك بايدن أن إتباع سياسة أكثر صرامة ضد كوبا ستقلل من الدعم الذي يتلقاه من الديمقراطيين اليساريين. وإذا ما تصرف على العكس من ذلك، فإن هذا سيهدد بفقدان الأصوات المؤيدة له في ولاية فلوريدا، حيث يعيش عدد كبير من الكوبيين في الشتات. لذلك، من المفيد الآن أن لا يتخذ بايدن أي إجراء.
– وماذا عن روسيا؟ ما هو حجم تعاوننا مع كوبا الآن؟ هل هناك مصلحة لنا في الجزيرة؟
– بالطبع ، ليست هناك حاجة للحديث عن العودة إلى النطاق السوفيتي للتعاون. كانت كوبا الشريك التجاري الرئيسي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في نصف الكرة الغربي بأكمله. هذه الشراكة التي تعد أكثر أهمية من الولايات المتحدة من جميع دول أمريكا اللاتينية مجتمعة. بالطبع ، هذا سوف لن يحدث.
أعتقد أن السياسة الروسية في العقود الماضية فيما يتعلق بالجزيرة كانت بناءة للغاية ، بالنظر إلى أنه كان من الممكن الاتفاق على إعادة هيكلة ديون بمليارات الدولارات. كان هذا إلى حد ما شكلاً من أشكال دعم الكرملين لهافانا. ولعبت روسيا دوراً نشطاً في مشاريع البنية التحتية في قطاع الطاقة وفي بناء السكك الحديدية.
لسوء الحظ ، فإن تجارة اليوم مع كوبا ليست كبيرة. لقد جرى الحديث كثيراً عن الحاجة إلى زيادة الإمدادات المتبادلة، لكن هناك عدداً من الصعوبات الناجمة عن العقوبات. وتفاقمت مشكلة التسويات المتبادلة. بالنسبة للشركات الروسية التي عملت مع الكوبيين، فهذه مشكلة كبيرة ، لأنها خسائر وخسائر مالية. نحن نبحث عن خيارات مختلفة مقبولة لكلا الطرفين. على أي حال، نحن مصممون على الدعم، ولكن مع الأخذ في الاعتبار الفرص الموضوعية التي لدينا الآن.
– عندما نتحدث عن أمريكا اللاتينية، يجري في الإتحاد السوفييتي على الفور، تخيل الشخص الثوري الملتحي ببندقيته الآلية في الغابة (البربودوس). ومع ذلك، لم نعد نسمع الآن بطريقة ما عن الكفاح المسلح من أجل التحرير في تلك الأماكن. وتغادر الأنظمة اليسارية المشهد السياسي تدريجياً. هل العصر الثوري في هذه المنطقة من العالم أصبح أخيراً شيئًا من الماضي؟
– إن تطرف الحركة الثورية في منتصف القرن الماضي، عندما تم تشكيل مثل هذه الحركات المسلحة على نطاق واسع، لم تحقق شيئاً. وأصبحت الحركة البيرونية سينديرو لومينوسو وتوباماروس في أوروجواي والمونتونير الأرجنتيني كلها في الماضي. ولم تعد الرومانسية الثورية التي نشأ عليها العديد من مواطنينا ذات صلة بأمريكا اللاتينية.
إن مواجهة الجماعات اليسارية مع الحكومات، أو في بعض الحالات، مع المنظمات العسكرية اليمينية هي خصوصية حقبة الستينيات والسبعينيات. وتبعتها في العديد من البلدان موجة من الأنظمة العسكرية التي وصلت إلى السلطة. وفي نهاية الثمانينيات، بدأت في وقت لاحق عملية التحول الديمقراطي التدريجي في عدد من البلدان (تشيلي، الأرجنتين ، أوروغواي) ، وتحديداً في 2000. ووصل اليسار إلى السلطة ولم يعد مسلحاً، بل ديمقراطياً، من خلال الانتخابات في العديد من البلدان. كما هو الحال، على سبيل المثال ، في تشيلي. كما تغير العداء التقليدي بين اليسار وبين الجيش في كثير من البلدان. فاليوم من الصعب بالفعل تخيل أنهم، أي العسكريون، يلعبون ذات الدور في سياسات دول أمريكا اللاتينية الذي لعبوه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما قاموا بتدبير الانقلابات العسكرية. كان ذلك ردهم على النزاعات الداخلية ، بما في ذلك النزاعات العنيفة. وحدثت كل هذه الانقلابات العسكرية تحت شعار الدفاع عن الوطن في مواجهة الماركسيين، ومثال ذلك وصول بينوشيه إلى سدة الحكم في تشيلي. فقد تراجعت الآن راديكالية النضال السياسي عند كلا الجانبين.
– أي لم تعد هناك مواجهة كلاسيكية بين اليسار واليمين؟
– لم يعد التقسيم المعتاد إلى “يمين” و “يسار” قادراً على وصف جوهر ما يحدث. فالحياة أكثر ثراءً. حتى خلال سنوات الحرب الباردة، عندما كان لهذا الانقسام الحق في الوجود ، كان من الواضح أن العديد من السياسيين اليمينيين لا يخجلون من بعض الأفكار اليسارية في الاقتصاد، والعكس صحيح.
– كيف يختلف اليسار الأمريكي اللاتيني الحالي عن السابق؟
– لم تلين أيديولوجيتهم في نواح كثيرة فحسب ، بل تطورت أيضاً. من الواضح أنه في العالم الحديث، على عكس منتصف القرن العشرين لا يتحدث أحد عن إضفاء الطابع الاجتماعي على الملكية، حتى كوبا تبتعد عنها. ربما بقي هذا فقط في دول مثل كوريا الشمالية. إن أحدث نسخة من الدستور في كوبا، والتي تسمح بأشكال جديدة من الملكية والعديد من أشكال الانغمار لتمكين الأعمال الخاصة، هي خير مثال على تطور اليسار الراديكالي. ولم يتحدث الفنزويلي هوغو شافيز أبداً عن الإجراءات الراديكالية لإضفاء الطابع الاجتماعي على الملكية، فهو يعلم جيداً أنها لن تجد أي دعم له الآن.
– شأنهم في ذلك شيوعييننا المعاصرين.
– نعم ، هذا اتجاه عالمي. كما توقف حزبنا الشيوعي لروسيا الاتحادية لفترة طويلة عن الحديث عن إلغاء الملكية الخاصة.
من الضروري فصل مظاهر السياسة اليسارية في الاقتصاد عن السياسة اليسارية في السياسة. لأن العديد من اليساريين في أمريكا اللاتينية أظهروا يساريتهم بشكل أكبر في السياسة الداخلية والخارجية، لكنهم في الاقتصاد أحياناً يختلفون قليلاً جداً عن البلدان ذات المسار الصحيح النيوليبرالي. حتى السياسة الاقتصادية لإيفو موراليس ، بصرف النظر عن تأميم صناعة الغاز ، كانت متحررة بشكل عام. هذه سياسة نقدية حديثة وليبرالية وجذب نشط لرأس المال الأجنبي. وأصبحت بوليفيا تحت حكم موراليس واحدة من الدول الرائدة في المنطقة من حيث جاذبية المستثمرين الأجانب. وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، حيث يوجد اليمين في السلطة، فإن حجم الإنفاق الاجتماعي أعلى حتى من جيرانه مع أحزاب يسارية في السلطة. لأن السلطات هناك تدرك أنه بدون الإنفاق الاجتماعي من المستحيل تحقيق الشعبية بين السكان.
– هل يمكننا أن نقول أن أمريكا اللاتينية الآن تعاني من أزمة الأفكار اليسارية؟ بالنظر إلى وجود العديد من المشاكل في البلدان ذات الحكومات اليسارية الآن.
– في 2018-2019 ، عندما اندلعت الأزمة في فنزويلا، وعندما وقعت الأحداث في بوليفيا، بدا حقاً أن المنطقة قد تحسنت بشكل كبير. ومع ذلك ، في نهاية عام 2019 ، كان هناك انتصار للسياسي اليساري البرتو فرنانديز في الأرجنتين، وانتصار لنفس اليساري أوبرادور في المكسيك. ثم بدأ العديد من الخبراء يتحدثون عن نهضة الفكرة اليسارية. لكننا نفهم أنه عندما يحدث انعطاف يميناً أو يساراً عدة مرات خلال العام ، فإن هذا يعني التقادم المطلق لمفهوم الدورية السياسية بين اليمين واليسار. فهو لم يعد قادراً على وصف العمليات الجارية في المنطقة بشكل كامل.
الآن في بيرو فاز المرشح اليساري في الانتخابات الرئاسية. لكن هل يمكن أن نتحدث عن انعطاف يسار في بيرو، إذا حصل الفائز هناك على بضع عشرات الآلاف من الأصوات أكثر من منافسه،40 ألف صوت، في بلد يبلغ عدد سكانه مليون نسمة؟ أعتقد لا . بشكل عام ، تجري نفس العمليات في قوى اليسار واليمين في أمريكا اللاتينية كما يجري في أي مكان آخر في العالم. يتم طمس هويتهم، فهم يتبنون الأفكار الاقتصادية لبعضهم البعض. ويعلن السياسيون المنتصرون في الغالب عن مواقف وسطية. وهذا اتجاه عالمي، وينطبق أيضاً على أمريكا اللاتينية.
ما هي آفاق روسيا في أمريكا اللاتينية؟
– خلال الحرب الباردة ، لاحظنا المواجهة في أمريكا اللاتينية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ، وراح كل طرف يدعم أنظمة كانت قريبة إيديولوجياً منه. في سياق التغييرات التي تحدثنا عنها، هل تعززت مواقف روسيا في المنطقة أم ضعفت على العكس؟
– أود دحض الأسطورة الرئيسية حول الاتحاد السوفياتي في أمريكا اللاتينية: أن علاقاتنا مع هذه المنطقة كانت أيديولوجية للغاية. اتبع الاتحاد السوفياتي هناك، باستثناء كوبا وتشيلي بعد الإطاحة بأليندي، سياسة براغماتية في الغالب. على سبيل المثال ، نحن تعاونا بشكل فعال مع الأرجنتين في عهد سيطرة العسكر على السلطة، الذين لم يكونوا بأي حال من الأحوال ماركسيين. اشترينا منها كميات ضخمة من الحبوب، وبالمقابل قمنا بتوريد معدات لمشاريع بناء الطاقة الكهرومائية في البلاد. أو تذكر العلاقات التجارية الوثيقة مع البرازيل خلال الديكتاتورية العسكرية في الثمانينيات.
وهكذا هو الآن. يمكننا القول إن روسيا تهدف إلى بناء حوار عملي مع جميع الدول ، بغض النظر عمن في السلطة هناك.
– وكيف ينظرالأمريكيون اللاتينيون أنفسهم إلى النهج الذي نتبعه؟
– في أمريكا اللاتينية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استمر الجمود في تصور روسيا باعتبارها وريثة الاتحاد السوفياتي، ليس فقط من الناحية القانونية، ولكن أيضاً بالمعنى الأيديولوجي. استمر النظر إلى روسيا كدولة يسارية، على الرغم من حقيقة أننا كنا نتطور بالفعل على طول مسار السوق الرأسمالي. عندما حدث “انعطاف يساري” في المنطقة في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رأت النخب الجديدة في روسيا حليفاً محتملاً، قريباً منهم في الروح وفي وجهات النظر حول القضايا الرئيسية في جدول الأعمال العالمي.
بالتوازي مع ذلك، أعلنت روسيا ثلاثة مبادئ أساسية في السياسة الخارجية: البراغماتية، ونزع الأيديولوجية، والاعتماد على المصالح الوطنية. أردنا بناء علاقات بناءة طبيعية مع جميع البلدان. وجاءت المبادرة الرئيسية للتقارب في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أكثر من بلدان أمريكا اللاتينية. لقد استجبنا لمبادراتهم بدلاً من استجابتنا لهم بمقترحات.
– هل كان هناك خطأ في هذا؟ هل عزلنا أكثر الشركاء أيديولوجياً؟
– في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، كان المرء يسمع في كثير من الأحيان انتقادات بأن روسيا، كما يقولون ، تبني علاقات ليس مع الشعوب، ولكن مع النخب. لنفترض أن النخب ستتغير وستنهار كل الاتفاقيات. لكن يبدو لي أن هذه لم تكن مطالبة عادلة لنا، لأن الأحداث اللاحقة أظهرت أننا كنا على حق.
في عام 2015، غادرت حكومة كيرشنر اليسارية في الأرجنتين، التي عملنا معها بشكل جيد. وكان الزعيم الجديد موريسيو ماكري، وهو سياسي يميني لم يخف توجهه الموالي لأمريكا. وتوقع الكثير أن تشهد العلاقات بين روسيا والأرجنتين تراجعاً في حجم التعاون. ولكن هذا لم يحدث. وأظهرت الدبلوماسية الروسية كفاءة عالية ، وبسرعة كبيرة كان من الممكن بناء علاقات مع ماكري على أساس عملي. توم الحفاظ على الكثير من أوجه التعاون الاقتصادي. وظهرت مشاريع جديدة. أدرك ماكري بسرعة أن التعاون مع روسيا مفيد للأرجنتين.
ويتجلى الشيء نفسه في تجربة البرازيل، حيث لم يؤد رحيل اليسارية ديلما روسيف ووصول الجناح اليميني تامر، ومن ثم بولسونارو اليميني المتطرف، إلى تدهور العلاقات. وحدث هذا لأن النهج البراغماتي القائم على احترام المصالح المتبادلة ساد من الجانب الروسي.
-وماذا عن الأمريكيين؟ بعد كل شيء ، لم يغيروا نهجهم الأيديولوجي. بالنسبة لهم ، لا تزال كل من كوبا وفنزويلا عدوتين. قهل أثر هذا بطريقة ما على وضعهم في المنطقة؟
– نعم ، تميل الولايات المتحدة تقليدياً إلى تقسيم المنطقة إلى معسكر من الحلفاء ومعسكر من المعارضين الأيديولوجيين، الذين يستحيل التواصل معهم بشكل قاطع. لكن هذه القاعدة ليست مطلقة. في مثال كوبا، رأينا تغييراً في المقاربات المختلفة اعتماداً على الإدارة الرئاسية.
وعلى الرغم من الخطاب القاسي وتجميد الاتصالات السياسية، ففيما يتعلق بالاقتصاد ، أظهر الأمريكيون أيضاً البراغماتية. بالنسبة لفنزويلا أو نيكاراغوا أو كوبا ، فإن الولايات المتحدة هي أكبر سوق. وانضمت نيكاراغوا بالكامل إلى منطقة التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وقد تم ذلك في عهد حكومة دانيال أورتيجا اليسارية. ولم تنوي أمريكا أبداً عزل البلدان اليسارية اقتصادياً تماماً.
إنه من الصعب تحديد سياسة بايدن في هذا الصدد. فلم يقم بصياغة هذه السياسة بشكل كامل. لكن أصوات أولئك الذين يطالبون البيت الأبيض بإضفاء المرونة في السياسة تُسمع الآن بصوت عالٍ للغاية. لأن التقسيم إلى اليمين واليسار والتأكيد على التعاون مع اليمين فقط يؤدي أحياناً إلى نتائج سلبية.
ومن الأمثلة النموذجية هي جانين أغنيس، التي أصبحت رئيسة للحكومة المؤقتة في بوليفيا بعد استقالة إيفو موراليس، فقد دعمها الأمريكيون. ومع ذلك ، فقد أثبتت الحكومة تحت قيادتها فشلها. وكان هناك عدد كبير من الفضائح بسبب الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وتساءلت أصوات المنتقدين عن سبب دعم مثل هذه الحكومة حتى في الولايات المتحدة. كما يقولون في روسيا ، “ليست هناك حاجة لمثل هؤلاء الأصدقاء والأعداء”.
– كتبت وزارة الصحة الأمريكية في تقرير لها عام 2020 أنها تمكنت من إقناع البرازيل بعدم شراء سبوتنيك الخامس. هل هناك العديد من قصص المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا في المنطقة الآن؟
– بالطبع جرت محاولات من قبل الأمريكيين لكبح تمدد روسيا أو الصين في المنطقة. لم يذهب تصور واشنطن تجاه أمريكا اللاتينية كمنطقة مصالحها الجيوسياسية الحصرية. لكن يبدو لي أن دور هذه المنافسة غالباً ما يكون مبالغاً فيه بعض الشيء. يبدو أن وزارة الصحة الأمريكية أفادت بأنها لم تسمح بشراء اللقاح الروسي ، لكن بعد فترة وقعت روسيا والبرازيل اتفاقية توريد. وبدأ إنتاج لقاحنا هناك. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن البرازيل في حاجة ماسة إلى اللقاحات ، وإمدادات الولايات المتحدة غير قادرة على تغطية كل الطلب.
– إذن ، روسيا الآن مستعدة للتعاون مع الجميع، إذا كان ذلك فقط يعود بالنفع على المصالح الوطنية؟
– في نهاية التسعينيات، شغل يفغيني ماكسيموفيتش بريماكوف منصب وزير الخارجية الروسية. وقام بجولة في أمريكا اللاتينية ، وزار عدداً كبيراً من البلدان. خلال هذه الرحلة، أعلنا مساراً نحو بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب ومتعدد المراكز. في هذا تزامننا تماماً مع الأمريكيين اللاتينيين ، الذين دافعوا تاريخياً عن أفكار تعددالمراكز، والحق في احترام سيادتهم. وهذا ما يوحد اليسار واليمين في أمريكا اللاتينية.
أعتقد أننا سنواصل بناء علاقات عملية قائمة على الاحترام المتبادل مع جميع دول أمريكا اللاتينية، بغض النظر عن القوى الموجودة في السلطة هناك.