بين ” صرخة الحقيقة ” و” صرخة الحق “, حقوق لم تُسترد !
احسان جواد كاظم
بين “صرخة الحقيقة ” و” صرخة الحق ” سنوات تفصلها أحداث ووقائع متخمة بمعاناة شعب من الظلم والظلامية والضلالة وأنهار دماء ودمار شامل.
كان ” أبو تحسين ” قد أوجز آلام العراقيين في صرخته أمام كاميرا في لقطة قصيرة لم تتجاوز الدقيقة الواحدة – نقلتها وسائل الإعلام العالمية, دارت حول العالم وهو يجلد وجه الدكتاتور بنعله – حقيقة المظالم التي عاشها العراقيون خلال فترة حكمه الدموي, بعد هروبه المخزي أمام الغازي الأمريكي في 9 نيسان 2003 وتهاوي كل مظاهر جبروته واقتداره المتمثلة بسطوة اجهزته الامنية التي إنفض عنه أفرادها طلباً للسلامة, كما ” فص ملح وذاب “.
لكن كل ما تضمنته صرخته الصادقة من نزوع نحو الانعتاق من جور لتدشين عهد جديد مشرق قوامه العدل والسلام بقيت كما حلم أخضر, تمناه وحلم به كل العراقيين وانتظروا تحققه.
لكن ما ظنوه حلماً أخضراً تمخض عن كابوس رعب !
لم نشهد بديلاً حقيقياً للطغمة الدكتاتورية المنهارة بل قامت بعدها طغمة للمحاصصة الطائفية – العرقية فاسدة, امتطت الديمقراطية وأبرزت نيوبها المسلحة ثم أدخلت البلاد في مآزق وأزمات, لا تقل مأساوية عما ورطنا بها نظام المقبور السابق. ولم تمح سنوات حكمهم العجاف الطويلة, المظالم السابقة بل عمقت ندوبها وجعلتها أكثر ايلاماً, شملتْ الجميع, وعم الجدب وانتشر الفساد, وتكللت بطغمة جشعة نصّبت نفسها راعياً لمكونات وطوائف وعرقيات وأفخاذ. وفرّخت ميليشياتها… همّها وهمّتها منصبّة على سرقة المال العام وتعزيز شبكة فسادها… أفضى ذلك لأن يسيء الشعب الظن بسياسييه وبالخصوص المتلفعين بعباءة التدين والتقوى.
لكل ما حدث وصار واستمراء طغمة الفساد والمحاصصة لتعسفها بحق الشعب وامعانها في إذلاله وجعله خانعا بليداً, تعالت ” صرخة الحق ” المدوية !
” صرخة الحق ” أطلقها شباب انتفاضة شعبية أذهلت العالم بجبروتها ونبلها ومبادئها السامية وباندفاع شبابها وحبهم للوطن وتفانيهم من أجله, ورفضوا أن “يذوبوا بمن هو خارج الحدود بل ذابوا بوطنهم “.
انتفاضة تشرين 2019 التي جاءت ” لتعديل الميلة ” أفرزت واقعاً جديداً وتوزيعاً وتراصاً واعداً للقوى الاجتماعية التي تنادي بالتغيير من جهة, وهم يمثلون طبقات وشرائح اجتماعية طحنها فسادهم وقوى طارئة قفزت إلى السلطة, في غفلة من التاريخ, تمثل كومبرادور مشوه ومافيات تحاول تعويق هذه العملية التاريخية المتناغمة مع التطور, من جهة أخرى, مستثمرة تشويهات التأثير الديني لطأفنة المجتمع ولنفي وجود الفوارق الطبقية وتنافر مصالح القوى الأجتماعية …
وأصبحت الانتفاضة بذلك بداية النهاية لحقبة تاريخية سوداء ونمط تفكير رجعي متخلف ومنظومة فساد متسلطة لكن مأزومة متناحرة, متشبثة بمخالبها ونيوبها بالسلطة باعتبارها متراسها الأخير, وفرضت نمط تفكير تنويري علماني بديل.
نكران الذات العالي لدى المنتفضين وروح المسؤولية العالية اتجاه وطنهم وعزمهم على التغيير وشرعية مطالبهم وسلمية تحركهم, جابهته قوى السلطة واذرعها المسلحة, بجبن وخسة, مستخدمة كل ما في جعبتها من وسائل القتل وتقنيات التصفية الجسدية وبقسوة مفرطة تضاهي الإعدامات الميدانية الممنهجة للمنتفضين العزل السلميين.
ولأن طغمة الفساد والتخلف بدأت تشعر بأن زمانها آيل للأفول, وقد تأتي الأنتخابات القادمة, فيما لو أجريت, إلى ما لا تُحمد عقباه, لجأت لاغتيال بعض رموز المنتفضين او اتهامهم بأتهامات كيدية لتعطيل مشاركتهم بالتنافس الانتخابي واجبارهم على مغادرة مدنهم لتلك الأسباب وامتشاقها لسلاح التشويه والتسقيط برميهم باتهامات من جنس سلوكها هي : العمالة والتبعية, ونعتهم بأبناء السفارات والجوكرية وغيرها من اتهامات للإيحاء بأن الجميع على شاكلتها في عمالتها وولائها للأجنبي, والجميع ” في الهوا سوا ! ” و ” ماكو واحد أحسن من واحد ! “.
أن هذه المواقف تعبر في حقيقتها عن أزمة القوى المتنفذة وفشل نظام المحاصصة السائد وعقم تفكيرها وعقدة المتبنين لها.
أن السقوط المتواتر لبعض حلقات منظومة فسادها وصراعاتها الفئوية على النفوذ وتغوّل ميليشياتها ثم تنامي الغضب الشعبي, وانخراط فئات اجتماعية جديدة في الأحتجاجات المطلبية بسبب تردي الأوضاع المعيشية المزمن وفشل الأجراءات الحكومية في مواجهة جائحة كورونا والتي كان الحريق في مستشفى ابن الخطيب في بغداد احدى دلائلها الفاضحة !
أدى إلى ان أوساط متزايدة من المصنفين تقليدياً عليها بدأت تغادرها وأصبحت ترفض استغفالها لهم باسم الدين.
كما انها في محضر التهيؤ للانتخابات المحتملة القادمة, تجد, اليوم, صعوبة في إيجاد شخصيات محترمة تقبل الترشح بأسمها خوفاً من تلوث سمعتها, بعد أن تراجعت حظوظ الوجوه القيادات التقليدية في الفوز, والتي بات المجتمع العراقي يمقتها ويطالب بمحاسبتها قضائياً على سنين الشقاء التي ساموه فيها العذاب !
لذا فليس أمام الحركة الديمقراطية ومنتفضو تشرين وجموع المتضررين من استمرار الفاسدين, سوى مواصلة مساعيهم في رص الصفوف وشد العزم لإنتزاع حقوقهم واسترجاع وطنهم… وبذلك فلن تضيع صرخة ” أبو تحسين ” أو صرخات وتضحيات شباب انتفاضة تشرين المجيدة, هباءً.
في توحدكم الخلاص !