في واحدة من أصعب العقليات السياسة في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى وظهور عالم جديد من التشكيلات الدولية على أنقاض النظام الدولي القديم لما قبلها، هي إشكالية بناء العقل السياسي فيها وتحديدا في تجاهلها للمعطيات الجديدة من تشكيل عالم في طور النشوء هو نظام القطبين الدوليين أخذة البلورة شيئا فشيئا، فحتى الدول التي خرجت منتصرة في الحرب تلك أو التي خسرتها تغيرت المفاهيم كما تغيرت مراكز القوى مما حتم ظهور نظريات سياسية جديدة في إدارة بلدانها على النحو الذي يؤمن المصالح العليا لها بما فيها تعزيز شكل الدولة وإعادة نمذجة العلاقات السياسية من جديد، بعض بلدان العالم الثالث ومنها مثلا العراق ومصر تحصلت على أستقلال وطني من الدولة العثمانية أو حتى من سلطات الدول المنتصرة، وعرفت نظاما أشبه بالحكم الذاتي تحت رعاية دول الأحتلال (نظام المندوب السامي) الذي نقل جزء مهم من فلسفة إدارة الدولة لها بما يوافق أولا المصالح الأجتماعية لتلك البلدان مع حفظ مصالح دول الانتداب.
كان من مظاهر هذا التطور مثلا وبعد أن أستقر النظام السياسي الدولي نشوء عصبة الأمم المتحدة التي ساهمت بشكل أو بأخر في وضع لبنات عالم ما بعد الحرب توزعت فيه مصادر القوة والهيمنة على محاور عدة كل منها يحاول أن يقدم النموذج المحتذى به في إدارة ما عرف لاحقا في العالم الناشئ أو العالم الثالث، ساهمت عصبة الأمم المتحدة أيضا في مأسسة العلاقات الدولية عبر العديد من المعاهدات والاتفاقيات أو جرت المصادقة على ما كان البعض منها قائما ولا يتعارض مع أهداف ومشروع العصبة، وهذا بحد ذاته فسح المجال واسعا لما عرف أيضا ولاحقا بالقانون الدولي العام الذي ينظم العلاقات الدولية، وبالرغم من كل ذلك لم تتمكن هذه المؤسسة الأممية من أحتواء تهديدات والخلل في النظام الدولي العالمي فحدثت الحرب العالمية الثانية وما جرت بعدها من تغيرات سياسية وجغرافية جديدة ونشوء دول ومجتمعات جديدة على أنقاض عالم ما قبل الحرب أيضا.
كان تأريخ أنتهاء الحرب العالمية الثاني مؤشرا حقيقا على عالم ثنائي القطبية بشكل واضح مما أتاح لظهور تنافس وصراع دولي جديد بشكل أخر ومن ضمن أطار صراع القوتيين العالميتين أمريكا ممثلة للغرب الليبرالي وروسيا ذات النظام الاشتراكي وفق أستراتيجية حولت الصراع من مسلح يدور على أراضيهما إلى صراع مصالح وأيديولوجيات واسعة تعتمد ف فلسفتها على ما يعرف الصراع بالإنابة أو صراع الحلفاء، فنشأت تبع لذلك تقسيمات سياسية عالمية ضبطت المنظمة الناشئة الجديدة التي ورثت عصبة الأمم المتحدة مسئولية (الأمم المتحدة) مهم تنظيم العلاقات الدولية دون الإنزلاق إلى حرب عالمية جديدة أو ما يعرف بالحد من مخاطر الصراع الدولي وحفظ السلام والأمن العالميين، كما ساهمت المنظمة الجديدة في أحيان كثيرة وعبر نضال الشعوب وإنقسام العالم حينذاك بين المعسكرين الشرقي والغربي في ظهور دول وكيانات سياسية وأجتماعية جديدة لتنظم إلى عالم الصراعات من حيث أرادت أو مرغمة تبعا لفلسفة الحكم وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها، إلا أنها في المجمل أن تلك الدول الجديدة لم تستطيع من بيان وتأسيس توجه عالمي جديد لتكون طرفا أو محورا مهما يساهم في تعزيز الأمن والسلم الدوليين، بل كانت في معظم الأحيان هي القربان الجاهز للمصالح الدولية.
نشأت تلك الدول والمجتمعات وهي تعاني في جوانب عديدة وخلل بنيوي حقيقي ساهم في تعثرها وعدم ترسيخ سياسة المصالح الوطنية لديها، فأكثر هذه الدول أستقلت وهي تفتقد لثلاثة عناوين رئيسية تساهم في تعزز استقلالها الوطني وهي:.
• غياب تأطير حقيقي لرؤية وطنية جامعة تقدم مصالحها خارج الصراعات الدولية وذلك لفقدان العناصر المكونة لهذه المصالح وهي السياسة المالية والأقتصادية السليمة مع عدم وجود طبقة برجوازية وطنية نشطة تتحول لاحقا إلى منتج إيجابي من خلال تركيم وإثراء الثروة الوطنية القادرة على إدارة مجالات التنمية والتصنيع ودعم وتطوير نظم الزراعة والري أو ما يسمى بالاستثمارات طويلة الأجل، ساهم في ذلك أيضا غياب دور الديمقراطية الأجتماعية الحقيقية التي تمكنها من رسم السياسة العامة للدولة وتنظيم المجتمع وفقا لمبدأ المواطنة والعدالة الأجتماعية، وأخيرا فقدانها الخبرة والبنية التحتية السياسية اللازمة لإدارة ديمقراطية سليمة تناسب خصائص المجتمع المحلي وتراعي التطور السياسي العالمي.
• الفقر المادي الفردي والجمعي وتفشي الأمراض والأمية التعلمية، وكذل فقدان التخطيط المنظم لوسائل الأنتاج وتوجيهها نحو تفعيل التنمية الوطنية المستدامة عبر مفهوم (صيانة الأستقلال الوطني مرهون بتحرير القرار الأقتصادي الوطني) وتشجيعه على بناء منظمة متكاملة ومترادفة وتطورية تعزز من أسباب التحرر السياسي وتديمه ليكون المعبر إلى عالم مستقر ومنافس جاد وفاعل، في ظل نظام دولي أقتصادي عالمي يعتمد المنافسة الشرسة على الأسواق وأضعاف الخصم.
• الحروب والنزاعات المسلحة والانخراط في ما عرف بعد ذلك في الحرب الباردة مع هذا وضد ذاك، مما زاد من حالات الأنفاق العسكري الذي أستنفذ الثروة الوطنية وعدم توجيهها إلى مجالات التنمية الأجتماعية والأقتصادية، عزز من ذلك ظهور الديكتاتوريات العسكرية وأنظمة الحكم الشمولي التي قمعت كل محاولات الإصلاح وتحت حماية أحد طرفي الصراع الدولي، مما يتعارض مع مصالح هذه البلدان ويفرض عليها إلتزام عالمية ومسئوليات لا تتناسب مع المصلحة الوطنية العليا لها، أفقدها حتى المكاسب المتواضعة التي حققتها في ظل مراحل بداية الأستقلال أو نتيجة الدعم الدولي الذي حصلت عليه، لقد دفعت دول العالم الثالث من مصالحها وثروتها الوطنية والبشرية أضعاف مضاعفة من الخسائر والتنازلات وفقدان شروط السيادة الوطنية نتيجة تلك الصراعات الثنائية أو الإقليمية وتحولت إلى دول تكافح وبعجز من إعادة شيء من الإستقلال الوطني نتيجة الديون والخسائر التي جنتها من الأنحياز لأحد المعسكرين وإن كان بدرجات متفاوتة، ولكن ديون العالم الثالث مجتمعة تناهز دخلها الوطني وتزيد عليه في أحيان كثيرة مما أدى إلى تعطيل كل برامج التنمية والأستثمار والتحديث في نظمها ومنه التعليم والصحة والبنى التحتية الضرورية.
هذه العوامل وبالتداخل وبالتشارك ومع وجود نظام عالمي يهيمن عليه كبار اللاعبين الدوليين أصحاب المشاريع الطويلة والاستراتيجيات الدولية المعقدة، ساهم في جزء كبير منه في فشل تحرك دول العالم الثالث ضمن أطار وطني وعالمي يمنحها القدرة ويدعمها لنشوء ديمقراطيات وأقتصاديا قادرة على النهوض بمجتمعاتها وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الأجتماعية، هذه المشكلة أو الإشكالية بالرغم من ظهور دول ومجتمعات على قدر من التحرر والقوة الذاتية لقيادة هذا العالم نحو تأطير أممي لجهودها مثل (منظمة دول عدم الإنحياز) وغيرها من التكتلات الدولية، لم تنجح كثيرا في تحقيق أي شيء منظور ممكن الإشارة له، والسبب غالبا أن الكثير من هذه الدول المؤسسة والمنظمة لها دخلت في مؤسساتها وهي تحمل معها أسباب الفشل والأنحياز لأحد المعسكرين، مما أدخلها في أتون الفشل وتلاشت نتيجة النزاعات والتدخلات بالإنابة في صياغة قرارتها وتوجهاتها لاحقا، بعدما كان الأمل معقود عليها في أن تكون عامل أستقرار وتنمية دوليين.
الإشكالية البنيوية في الفكر السياسي في دول العالم الثالث _العراق إنموذجا.ح1
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا