جدلية العلاقة بين الثقافة والسياسة
لقد قال عز من قائل في كتابه الكريم: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وكذلك قال النبي عيسى (ع): (ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه) ولكن ما اكثر العبر واقل الاعتبار كما يقول الامام علي بن ابي طالب (ع) .. لذلك يفترض بالسياسي ان يكون ملماً ومتعمقاً في الثقافة قبل ان يكون سياسياً . وهنا ايضا يدخل موضوع الثقافة اية ثقافة نريدها ولمن هذه الثقافة؟ وكيف تكون الثقافة ولماذا؟ وهذا ايضا يتطلب البحث فيه مساحة كبيرة لايسع البحث فيه في مثل هذا المجال.. ونرجع ونقول ان الانطلاق هو من الثقافة لان الناس كما يقال: اعداء ما جهلوا فالمعرفة والدراية في اي حقل او مجال او وظيفة.. تتطلب الاحاطة والدراية الشاملة بالموضوع نطاق القيادة، ولان القيادة وكما يصفها علماء النفس والادارة بانها: الجهد المبذول للتأثير على الافراد لتحقيق تعاونهم في سبيل هدف مرغوب. والتلازم يفترض ان يكون قائماً وجامعاً بين صفة المثقف وصفة السياسي، ولكن هذا الامر لا يتحقق في اغلب الاحوال لان السياسي هو غير المثقف وهذا الاخير هو غير سياسي.
واذا كان الامر هكذا فان التعاون بين المثقف والسياسي يجب ان لا ينقطع مادام المراد في المطلب الاخير هو خدمة الشعب والبلد الذي يتعايش فيه المثقف والسياسي وبقية افراد الشعب. ولكون الثقافة حسب القول الشائع: (هي جيش غير منظور) والثقافة ايضاً (هو وسيلة الانسان لامتلاك العالم) فقاعدة هذا الامتلاك هي المعرفة الشاملة لكل الجوانب الحياتية ولان السياسة تتضمن في مضامينها الثقافية ولكنها ليست الثقافة الشاملة لكل الجوانب الحياتية ولان السياسة تتضمن في مضامينها الثقافة ولكنها ليست الثقافة الشاملة لان الثقافة هي العجلة التي تسير ويتكئ عليها السياسي للهدف المرسوم كما ان المثقف بطبيعته ينفر من السياسة وخاصة مثقفي الدول النامية فيتطلب من السياسي الاستفادة من ثقافة المثقف وجره الى العملية السياسة ولان السياسية شاملة لاوجه الحياة وتحتاج ايضا الى التمرس والتجربة العميقة في الحياة وفي عمقها وفي خضمها حتى تكون تجربة السياسي مؤثرة او فاعلة في الناس باتجاه الهدف المرسوم للعمل السياسي والا عد العمل السياسي نظرياً والعمل النظري هو غير العمل التجريبي والتطبيقي في مختبر الحياة السياسية والمنطلق للعمل السياسي اوالثقافي هو وعي الذات وبناؤها بناء محكماً حتى لا تكون هناك فجوة بين الفعل والقول، اي بين النظرية والتطبيق ومن هنا قول علي بن ابي طالب في مجال قيادة الناس: (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه ان يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبهم) ولان علياً (ع) عاش في حجر الرسول محمد (ص) وعاش في كنف القران وتربى في ظله فإن قوله ربما مأخوذ من قول الله تعالى (كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالا تفعلون ) وتعليم الناس سياسة، وهدف وهذه السياسة يجب ان تنطلق من وعي الذات الذي هو المعرفة العميقة بنتائج التصرف بحكمة ودراية.. وكثيراً ما وعد السياسي وهو خارج منطقة الحكم بالوعود والبرامج البراقة والمفيدة والصائبة وحين الوصول الى سدة الحكم واعتلى موقعه في سياسة السلطة تنصل عن ما وعد به..!! وبذلك نكث بالوعود والعهود التي قطعها وخان ضميره.. متشبثاً بمصلحته الانانية الضيقة وهو في منطقة البروز والوصول الى القمة في نظر السياسي بالطبع بينما هو يعيش في الحضيض من ضمير الشعب الذي اوصله الى هذا المستوى المرموق.
وسينال مقت الله اولاً ومقت الشعب ثانياً لان السياسي لم يفعل ماوعد به الله وضميره ولهذا يقول الامام علي بن ابي طالب (معلم نفسه ومؤدبها احق بالاجلال من معلم الناس) ومعلم نفسه هو المثقف الذي هو ابن دائرة الضوء والبروز.. لان من يعلم نفسه محاسن الاخلاق اعظم قدراً ممن يتعاطى تعليم الناس وهو غير عامل بشيء منه فاما من علم نفسه وعلم الناس فهو افضل واجل ممن اقتصر على تعليم نفسه فقط ولا يشبهه في ذلك كما يقول ابن ابي الحديد المعتزلي شارح نهج البلاغة.
وفي هذا السياق مقولة ماركس الشهيرة: (شرف الغاية من شرف الوسيلة) فالمثقف المتمسك بالأخلاق وحين يتطابق قوله مع سلوكه يقود السياسي وكذلك السياسي النظيف الذي لايخون ضميره وشعبه واخلاقه قد يقود المثقف لان كلاهما يصنعان الحياة الجميلة الزاهية لشعبهما.
ولنستمع الى المحاورة التي دارت بين مكسيم غوركي ورمانوس الاوكراني السياسي العائد من المنفى للدلالة ليس الا . والذي اصطحب غوركي معه الى قرية كراسندوف في حوض الفولغا فقد علمه الرأفة بالضعفاء وضرروة ايقاظ الفلاحين وتنظيمهم كان رومانوس يدير متجراً صغيراً وله مهمة اخرى وهي نشر الوعي بين الناس وقد حرض أصحاب الاملاك الفلاحين على رومانوس وضللوهم. فراح الفلاحون الذين جاء رومانوس لايقاظهم يكيدون له ويضعون البارود في حطب الموقد ويقتلون من يميل اليه ثم احرقوا المتجر وضربوا رومانوس ضرباً موجعاً وقذفوا غوركي بحجر على صدره فغضب هذا وكره الفلاحين لكن رومانوس قال له: أكرهت الفلاحين؟ لاتكرههم ان خبثهم ليس الا بلاهة.
وشرح رومانوس لغوركي لماذا يقدم الشعب على الشر فقال : ان الشعب يا صاحبي يتذكر الشر وحده، وذلك ان الشر هو كل ما يجده ويتلقاه في حياته ليتذكره. وطلب رومانوس من غوركي ان يبقى في القرية بعد ان اصبح هو مضطرا الى الرحيل عنها فقال غوركي: انا لا اعرف بل لا استطيع ان اعيش بين هؤلاء الناس الذين يقتلون منقذيهم، فلاحظ رومانوس وهما يفترقان هذه الملاحظة وهو يلوم غوركي: تلك احكام لم تنضج ولكن ما العمل اذا كنت قد انتهيت اليها؟
فاجاب رومانوس: تلك احكام جائرة لا اساس لها. لاتعجل في الحكم ان الحكم سهل فلا تخدعنك سهولته لاحظ كل ماهو حولك بهدوء وضع نصب عينيك ان كل شيء يمضي، كل شيء يسير في اتجاه ارقى واحسن واسمى, اتريد الاناة نعم الاناة المثمرة السائرة في ثبات؟ امتحن كل شيء ولا تخف و لاتعجل في الحكم والى اللقاء يا صديقي. ولكن رومانوس هذا المعلم العملي الصبور الدقيق الملاحظة قد قال لغوركي المفتون بقراءة الكتب والذي يضيع بلا فائدة ايام شبابه: انت حقاً ذو مواهب عنيد تملؤك الارادة الصالحة. لقد قال حكيم وكان على صواب الانسان مصدر كل علم نعم ان الناس يعلمون الناس في الم وقسوة ولكن هذا العلم وحده الذي يبقى وسنراه حين يصبح كاتباً يكرس حياته لأجلهم كي يكشف ما في حياتهم من زيف وشر ويبدأ نصيحة رومانوس فهتف ذات يوم (تقولون ماركسي؟ وما في ذلك.. ولكن ليس جريي وراء ماركس بل لان جلدي قد دبغ هكذا.
وقد تعلمت الماركسية من سيمونوف الخباز في قازان بافضل مما لو تعلمتها من الكتب.
ومن هذا اطلق غوركي صيحته المدوية: ليس في مقدور الانسان ان يكشف معنى الحياة وان يفهمها الا اذا احب الانسانية حباً قوياً عنيفاً وان هذا الحب القوي العنيف وحده هو القادر على ان يمنح بما يتطلبه اكتشاف الحياة وفهم مغزاها من طاقة وجهد.
وهكذا فقد ادرك هو نفسه ان حب الانسانية يجب ان يكون حباً واعياً مرشداً وان على صاحبه المستعد في كل لحظة لان يقدم نفسه فدية عن الانسانية المعذبة وان يكون مستعدا في كل لحظة لان يحمل النصل المستقيم ضد كل خداع وضلالة وجهل وكل ما هو ضار ناتج عن التقاليد او العادات او الكسل الذهني او الخوف او لذة الخضوع والنفاق.
فالمثقف والسياسي كلاهما معاً كجناحي الطائر الذي يحلق في اعالي الانسانية الرحبة.