مبدأ الأغلبیة السیاسیة في العراق و زيف الشراكة
بما أن الشراكة السياسية في عصر العولمة هي أقرب الطرق وأقصرها لتحقيق إستقرار المجتمع والذي ينتح عنه تنمية ونهضة، قوامها فتح المجال أمام إستيعاب آراء المکونات والکيانات المختلفة وتنظيمها، ليشعر كل مكون أو كيان بأن له دور في بناء المجتمع الذي يعيش فیه، شاهدنا أن غياب نظرية الشراكة والمشاركة السياسية عن الواقع العراقي أدی إلى نتائج سلبية للغاية على مستوى الدولة والأحزاب والنخب السياسية، إضافةً إلى مؤسسات المجتمع المدني.
نعم الشراكة السياسية هي أحد تجليات الأنظمة السياسية المعاصرة، يوسع مفهوم وآثر الديمقراطية، بشرط القبول بالتعددية و تبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع، بالإضافة الی إحترام القانون وحرية التعبير وحرية الإعتقاد، ولم تكن الشراكة السياسية ولا مصطلحها متوفراﹰ في النظام الدکتاتوري البائد، الذي لم يؤمن بالتعددية بحکم تطبيق فکرة الحزب الواحد والقائد الأوحد.
رئاسة إقلیم کوردستان و منذ بناء العراق الفدرالي الجدید أكدت في أكثر من مناسبة علی إلتزامها بالدستور العراقي المصدق في عام ٢٠٠٥، إضافة إلی مبدأ الشراکة السیاسیة في إدارة البلاد، بل عارضت وحاربت بشتی الطرق والوسائل فکرة الأغلبية العددية والأغلبية السياسية في العراق.
إن تهميش دور ممثلي الشعب الكوردستاني بأديانه و طوائفه و قومیاته المتنوعة في إدارة العراق الإتحادي و تمرير قرارات سياسية و قوانين مثيرة للجدل في البرلمان (كقانون الإقتراض و التصويت علی فقرة الدوائر المتعددة ضمن قانون الإنتخابات الجديد و منح الثقة لعدد من وزراء حکومة السيد الکاظمي و قانون إخراج القوات الأمريكية في العراق) بشکل منفرد من قبل طائفة أو قومية معینة من دون مراعاة المكونات الأساسية الأخرى و إستخدام لغة التهميش و فرض الإرادة عن طريق الأغلبية العددية تهديد صریح لمسألة التوافق والشراكة بين المكونات و الكيانات، بالتأكيد هذا يضعف الکيان الإتحادي و لايخدم بناء الدولة العراقية الحديثة.
إقليم كوردستان يتمتع منذ عام ١٩٩١ بإستقلال واقعي شبه تام، لە حکومة منتخبة و سلطات و صلاحيات واسعة في إدراة شؤوونه و رسم سياسته.
من حق الإقليم، خاصة بعد أن أخذت صلاحياته بمصادقة الدستور عام ٢٠٠٥ طابعاﹰ دستورياﹰ و قانونياﹰ وبعد أن حصل علی ورقة الإستفتاء من أجل الإستقلال عام ٢٠١٧ الحفاظ علی صلاحیاته و تعزيزه في المجالين الداخلي والخارجي.
إقلیم كوردستان، کما يؤکد علیه رئیس حکومة الإقليم مسرور بارزاني، کیان إتحادي ودستوري داخل دولة العراق الإتحادية، له حقوق و واجبات، لكن عدم تطبيق الدستور كما يجب هو الذي جلب المشاکل التي يشهدها العراق الیوم.
مانراه اليوم في العراق هو فشل التجربة الحداثية للدولة و فقدان إمكانات البناء الذاتي، بعد أن وصل أمور العبث الی مرحلة شتت کل الخطط التي تهدف الی إعادة بناء الدولة.
إن إدارة العراق بروح طائفية و مذهبية مقيتة جعلت من المجتمعات العراقية تعيش في مأساة سياسية وإقتصادية وثقافية وطائفية متقاتلة ومتصارعة فيما بينها وفق مبدأ الأفضلية لهذا المكون أو لتلك الطائفة، هذە الفلسفة جعلت من العراق أن يغرق اليوم في حالة من التنافر المجتمعي، الذي وصل ذروته في السنوات الأخيرة وما نعيشه من فوضى سقوط هيبة الدولة وضعف في أداءها خير دليل علی مانقوله.
إذن كيف يمكن لشعب کوردستان في ظل حکم العقلية الاقصائية المتواجدة، التي لا يعترف فيها أصحاب الأكثرية العددية بشركائهم في الحکم، أن يؤمن بأنه يعيش في عراق إتحادي فدرالي؟
لقد وصل مسار العملية السياسية في العراق إلى طريق مسدود، فهناك إحتقان شعبي و هناك عدم الرضی بالنظام السياسي الحالي بسبب تجاهله حقوق المکونات، حالة عدم الرضی تعمّ الشارع الشيعي والسني والكوردي على حد سواء.
الطبقة السياسية الشيعية بالتحديد، التي تسلّطت بفعل الأمر الواقع المتسم بالانهيار المجتمعي الشامل، مستندة إلى حالة اجتماعية مستحدثة، قوامها طبقة طفيفة من المستفيدين من مميّزات السلطة، ونهب المال العام الذي وصل إلى مستويات قياسية، لم تستثمر الفرص الكبيرة التي أُتيحت لها لبناء العراق ديمقراطي فيدرالي تعددي وتعويض العراقيين عما مرّوا به من حروب وحرمان طيلة اكثر من خمسة عقود، بل قامت ببناء دولة موازية و سلاح موازي، عن طريق تسليح ميليشيات خارجة عن القانون والدستور لزعزعة الإستقرار وإقصاء مستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع والإطاحة بالتجربة الديمقراطية.
التظاهرات الشبابية التي انطلقت في الأول من تشرين أول/أكتوبر ٢٠١٩ التي أرادت في البداية إصلاح النظام و تغييره بالكامل أخيراﹰ، بعد أن فقدت الأمل بالإصلاح، لإعادة ترتيب الوضع السياسي من جديد، تعکس الفشل الاقتصادي والأمني بالطبيعة الدينية للأحزاب الحاكمة، التي لا تمتلك سوى الخطاب الطائفي والغيبي، لتغطية فشلها وفسادها وتبعيتها.
حکومة إقلیم كوردستان، رغم كل ماذکرناه من عوائق، تؤمن بالحوار والوفاق والتفاهم وإستخدام الدبلوماسية والطرق السلمية لحل المشاكل العالقة بين الإقليم والحکومة، فالتوافق والتوازن والشراكة هي أدوات حيوية و ضامنة للعيش المشترك و السير نحو التغيير الإيجابي بعيداﹰ عن الصراعات والحروب والإنهيار المجتمعي الشامل و لایمکن للعراق أن يحصل علی الاستقرار السياسي والأمني ولایمکن له أن يبني اقتصادە،إذا ما لم تعمل الحکومة في بغداد بجدية علی خلق هذا التوازن والحفاظ علیە.
ختاما نقول: لا بديل عن التعاون والشراكة والتضامن. فالتعددية نعمة وليست نقمة والسياسة هي منذ قرون فن إدارة الإختلاف، وعلی صانعي القرار في بغداد أن يعرفوا بأن القيادة الكوردستانية تمتلك إنضباط أخلاقي وعقلاني و روحي و إرادة التعايش، تغرسها بالتعلیم والتربية.
فلا شيء يدمر القضايا والمشاريع أكثر من أحادية المرجع والقطب والرأي والصوت والطاغية دوماً تصنعها الثقافة، وسیبقی التحقيق بین الثابت والمتحول هو المحنة والمهمة لکل الشعوب عبر التاريخ، للوصول الی الانسجام والتکامل بین الثابت والمتحول.
الدکتور سامان سوراني