في ذكرى تشرين وكل أيام العراق المشرقة
ذكرى الفاتح من تشرين والتي تمر اليوم لا بد لنا من التطرق إلى الكثير من النقاط المضيئة في واقع العراق المعتم دون أن ننسى أن الحركة أيا كان شكلها أو هدفها أو مصدرها فعل منعزل عن مجموعة عوامل وغايات ونتائج، ثورة تشرين 2019 لم تكن خارجة عن هذا السياق المنطقي ولم تكن معزولة غي إطارها العام عن إرادة شعب وحتمية أنتصاره في مطلب تحقيق المصير بعيدا عن التأثيرات القاهرة والمدمرة التي جرته إلى منطقة العتمة التأريخية، تأريخيا الوطن العراقي كجغرافية وتاريخ لم يهدأ يوما في تفاعله مع وجوده لا في الإيجابي منه وهو القليل ولا في السلبي وهو الكثير، الأرض العراقية التي يمكن إطلاق تسمية أرض الرمال المتحركة أجتماعيا ودينيا وسياسيا وفكريا على مر تأريخية جعلته وطن متحرك لا يثبت على شيء ولا يمكن الركون إلى واقعه المنظور وكأنه نتائج حاسمة، أرض العراق أرض الثورات والتمرد والإنعتاق في كل مرة من حالات الأختناق لينطلق من جديد إلى ما يريد.
قد يكون هذا الواقع واحدة من النتائج التي بنيت عليها أفكار خاطئة وتفسيرات مضللة لا تليق ولا تتوافق مع الحقيقية التاريخية المجردة من أن شعب العراق شعب صعب المراس، وشديد في تطرفه نحو قضايا وأتجاهات معينة على النحو الذي جلب له أنطباعا عاما هو كراهيته للسلطة حينما لا تفهم مضمون هذا الواقع وهذه الشخصية الفريدة، حتى مع العصور التي تقرب الحكام فيها من الشعب نجد صعوبة التعامل مع الواقع العراقي واضحة وتنتهي دائما بطلاق كاثوليكي بينه وبين الحاكم مهما كانت عناوينه وأهدافه، هذا ليس عيبا في الشعب ولا منقصة له ولكنه عيب في قدرة الحاكم على إستيعاب الوعي العراقي الفردي والجمعي والتعامل معها على أنها ضروريات التوافق بينه وبين الشعب، لذلك نسب البعض حكايات وخرافات مفادها أن الشعب العراقي حلت عليه لعنة السماء لأنه لا يرضي الولاة عليه أبدا.
لقد غاب عن الكثير من دارسي التاريخ وعلم الاجتماع ومتتبعي حركات السياسة ودورها في بناء المجتمعات والعكس أن هذه الطبيعة الكامنة في التمرد وعدم الخضوع لمنطق القوة والسلطة مردها إلى أن العراقي شخص ينطلق من وعي بعيد جدا في حقه أن يكون ضمن عراقيته التكوينية فقط، لا يمكنه القبول أبدا أن يخضع لأي سلطة تأت من الخارج حتى لو كانت ترتبط معه أو به بوشائج يحترمها ويقدسها، ولا يقبل أيضا أن تفرض عليه رؤية لم يتبناها بما فيها من روح تنتمي له أو لا تثير فيه عوامل الأستفزاز، حتى النظم الدينية التي حكمت العراق بالرغم من إيمان غالبية الشعب العراقي لهذا الدين أو ذاك إلا أنه في النهاية يتمرد عليها ويحاول الفكاك منه لأنه ليس عراقيا بالروح، يمكن أن ينخدع العراقي بالشعارات ويمكن أن يخضع لفترة تحت تأثيرات شد الحماسة والأنتماء لتوجه معين لكنه سرعان ما يكتشف الحقيقية ويعود لتمرده السابق ويعلن الثورة، هذه الوقائع والحقائق ليست أفتراضات أو تخيلات، العراقي كأمه وكفرد لا يطيق الخضوع لسلطة دائمة ولا يرى في دوام رؤية أو فكر ما على أنه أساس ممكن التفاهم عليه، روح التمرد تفرض عليه الرغبة في التجدد والرغبة في تبديل القواعد كلما كان الأمر قد مر عليه زمن ما.
النتيجة التي نستخلصها هنا أن الطبيعة العراقية كشخصية وكتاريخ لم تدرك ولم تفهم على حقيقتها، لذا تأصلت النظرة الخاطئة بدل المعرفة الحقيقية بها والتعامل معها وفقا لما تطرحه من نتائج على الواقع، لو تتبعنا كل الحركات والثورات والانتفاضات التي حدثت في الأرض العرقية منذ نشأت المجتمع الحضاري العراقي ولليوم نجد أن صبغة الأستقرار والركون والمهادنة هي الفترات التي تنعدم وتنسلخ فيها قوة الشخصية العراقية نتيجة المرض الاجتماعي الذي يصيب المجتمع من فقر وقهر وظلم وأستبداد وإن كانت هذه الأمراض عوامل مهمة ومحورية في أستعادة الشخصية العراقية لزمام أمرها مرة أخرى، ولكن اللافت للنظر أيضا أن العراق كشعب ووطن هو أكثر الشعوب حركة في المنطقة وأكثرها حضورا في التاريخ بشقيه السياسي والحضاري وهذا ما حافظ على الهوية العراقية من الضياع والانصهار مع كل الغزوات لتي حاول فيها المستعمر والمستثمر الواقع أن يفعلها لكسر إرادة هذا الشعب والوطن.
هذا الدرس لم يستوعبه حكام العراق الجدد ولم يفهم أهل السلطة الحالية فيه كما فعل السابقون أولا أن يستثمروا حالة القبول الغالب بالتحولات لمسايرة طبيعة الشعب ورغبته في الخلاص من الظلم والأضطهاد تحت عنوان بعث القيمة العراقية للهوية الشخصية، فأنسم الحكام فريقين منهم من توجه شرقا ومنهم من توجه غربا دون أن يدركوا أيضا أن العراقي لا يمكنه أن يكون غير عراقي وأن تشوشت لديه الصورة وأختلطت عليه الألوان ففي الاخر سيصحو ويفتح كلتا عينه على الواقع فيبدأ دورة التمرد من جديد حتى لو كان الحاكم يدعي أنه رسول السماء له، فتوهموا أن الرغبة العارمة التي كانت تجتاح المجتمع العراقي بالتخلص من الحكم الصدامي هي مفتاح السيطرة والهيمنة على العراق، وعملوا على ترجمة خاطئة ومخطئة في التعامل مع شعب ووطن أعادوه تحت شعارات المظلومية والفردية إلى عصور متأخرة ظنا منهم أنهم أمسكوا بالمفتاح الصحيح.
لقد ولدت ثورة تشرين منذ أول يوم وطأ فيه المحتل الأجنبي أرض العراق ودنس كبرياء الحضارة والتجدد والخلاص، ونمت أول بذورها حين رفض العراقيون صيغة الأحتلال في إدارة الوضع السياسي والأجتماعي فيه، وكنت جازما أن الأحتلال في عمق فكرته كان يدرك أن وضع العراقيين بعضهم في وجه بعض قد ينفعهم في السيطرة المؤقتة على الأمور لكنه في النهاية لا بد من أن يواجه أستحقاقات أكبر من مجرد محاولة الحفاظ على بقاء دائم له، فعمد على تأسيس التجزئة وأشاع ثقافة المكونات والطائفية وحتى المناطقية العرقية لعله يؤجل خيار التمرد فترة قد تتيح له تأسيس رؤية أعمق، لكنه ومع مرور الزمن فشل في هذا الخيار واحس أن الكثير من العراقيين لم يعد لهم ثقة بالشعارات التي جاء بها وعليها وأن تحولات دراماتيكيه قادمة في المستقبل قد تضطره لركوب مراكب اصعب مما يواجهها في حينه، العراق إذا كان يتطور في تمرده كلما فشل الأحتلال والسلطة التي جاء بها لإدارة واقع متحرك مضطرب لا يقر له قرار، وتعاظم الصوت الداخلي الرافض لكل ما يدور شرقيا كان أم غريبا حتى وصل إلى مرحلة المخاض الوطني الذي تفجر يوم 30-7-2015 وما تلاها حتى بلغت الذروة في لفاتح من تشرين 2019.