*قصيدة رثاء لمحمود درويش، نشرها سالم جبران باسم سعيد حيفاوي*
في الثامن آب 2008 ودعنا بألم ودموع شاعر فلسطين الكبير محمود درويش، الذي توفي على إثر عملية قلب معقدة في الولايات المتحدة.
ولد محمود درويش 13 آذار 1941، ومنذ كان طالبا ثانويا بدأت تبرز واهبه الشعرية وشارك وهو شاب يافع بمهرجانات شعرية كانت تنظم كما اذكر في كفرياسيف. حيث كان يتعلم بمدرستها الثانوية.
خبر وفاة محمود درويش كان أشبه بكارثة تسونامي. لدقائق جلست بلا حراك. بلا قدرة على استيعاب صحة الخبر. كان يشغل فكري في نفس الوقت الشاعر سالم جبران الذي يعاني أيضا من وضع صحي لا يقل خطرا عن وضع صديقه محمود درويش. سالم جبران كان أحد أكثر المقربين لمحمود درويش والذي لا ينفك يحدثني بحب غير عادي لمحمود وشعره وانسانيته وشفافيته والطفل الذي يشكل جانبا كبيرا من شخصيته. وقد حدثني عن زيارة محمود الأخيرة له في بيته قبل توجهه لأجراء عملية القلب الخطرة في أمريكا. كان قلقه على محمود أكبر من قلقه على وضعه الصحي الشخصي. ولم يكن وضع سالم الصحي مطمئنا إطلاقا.
حضر اللقاء الأخير بين سالم ومحمود المحامي جواد بولس، ويبدو ان ما سجله جواد بولس هو الوثيقة التي تنقل تفاصيل اللقاء الأخير وعليه أقتبس ما سجله جواد بولس عن ذلك اللقاء:
” وصلنا بيت أبي السعيد (سالم جبران) وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء “عتاقي”، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد …ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.
كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.
لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه.
رغم محاولته إخفاء ذلك، إلا أن الوَهن كان باديًا على أبي السعيد. أقلقَنا ضعفه وأخافنا حزنُه البادي. نبرة من يأس خالطت حديثه الممتع وكلما حاول إبعادها عاودَت وسقطَت من طرف لسانه غمّة وهمًّا.
بعد أكثر من ساعة غادرنا بيتَ سالم. الذي تمنى لمحمود عودة سليمة وهو معافى من مرض ومن منفى، ومحمود تمنى لسالم شفاءً كاملًا وراحة بال مصحوبة بسيادة جسد. كانا كنحلتين في مهب الريح محلّقتين على جناحي قدر”. انتهى الاقتباس.
سالم نقل لي مشاعره أكثر من تفاصيل اللقاء التي اوردها جواد بولس في مقاله. كان يتحدث شعرا عن محمود وصفاته الانسانية ويستعيد ايامهما المشتركة، أيام الدراسة والشباب المبكر والعمل بالصحافة واللقاء الفكري الأيديولوجي الذي وحد بينهما، والهم الوطني الذي شكل مسارا لإبداعهما الشعري والسياسي. واللقاءات بعد انتقال محمود للعالم العربي.
هكذا تعرفت على محمود درويش
في أواخر سنة 1969، وكنت حينها أدرس في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو-الاتحاد السوفييتي آنذاك، وصل لعلمنا ان محمود درويش حصل أخيرا على جواز سفر مؤقت، لمدة سنة واحدة أو أقل قليلا لمغادرة اسرائيل الى موسكو .. الى معهدنا. (معهد الأحزاب الشيوعية كما كان يعرف).
هذا الخبر شدني بشكل خاص. كنت أعلم وانا في الوطن، ان السلطات الاسرائيلية ترفض منحه جواز سفر اسرائيليا، لأنها لا تعتبره مواطنا، انما مقيما، ربما نزل من السماء في دولة إسرائيل. هذه المشكلة عانى منها الكثير من الفلسطينيين الذين هربوا من التصفيات العرقية في العام 1948 التي كانت تنفذ ضد المواطنين العرب الباقين في وطنهم، ثم عادوا بعد هدوء الأحداث الى وطنهم، لاجئين، مشردين في وطنهم بعد ان هدمت قراهم وصودرت اراضيهم ومنعوا من العودة اليها. وكان الجيش الاسرائيلي غالبا ما يجمع العائدين الذين لم يقتلوا على الحدود، ويقذفهم من جديد وراء الحدود نحو الدول العربية.
كانت قصائد محمود درويش قد بدأت تتحول الى محفوظات وطنية نرددها. وما زلت أذكر قصيدته (سجل أنا عربي) التي ألهبت الجماهير، في معركة التحدي ضد الحكم العسكري المفروض على العرب في اسرائيل، حين قررت السلطات انشاء قوائم سوداء ضد “السلبيين ” من العرب، والقصد ضد القوى الشيوعية والوطنية التي تناضل بلا كلل وبطولة، ضد سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري. وكانت تفرض على هذه القوى الاقامات الجبرية وتحديد التنقل واثبات الوجود في مراكز الشرطة، وهو ما عانى منه محمود درويش والعشرات من رفاقه لسنوات طويلة. وقد قيدت حرية تنقلي أيضا ولم أكن قد تخرجت حديثا من المدرسة الثانوية وابحث عن عمل.
لم تكن معرفة سابقة شخصية بيني وبين محمود درويش، رغم اننا كنا من نفس الموقع السياسي، وكان محررا للمجلة التي اعتبرت فخر ثقافتنا المحلية. مجلة “الجديد” التي تعتبر ايضا من أفضل المجلات الثقافية العربية على الأطلاق. ولا ابلغ بالقول ان الجديد كانت جامعة ثقافية لعشرات المثقفين. ما زلت أعتبر نفسي خريج هذه الجامعة الثقافية، التي لعبت دورا ثقافيا سياسيا هاما، في كسر دائرة التجهيل بتراثنا العربي، وكسر عزلنا عن الثقافة العربية .. وتنشئة جيل جديد من المثقفين بعد النكبة.
وصل محمود درويش الى موسكو، ونقلوه كالعادة الى “الداتشا ” – قصر للنقاهة في الجبال. حيث كانت تجرى الفحوصات الطبية لكل الوافدين للمدرسة الحزبية في موسكو.. قبل نقلهم الى الداخلية وبدء برامج التعليم في المعهد.
ذهبنا، نحن الطلاب – الرفاق العرب من اسرائيل لزيارة محمود درويش ورفاقه في ” الداتا “. كانت تلك اول مرة ألتقي به وجها لوجه، ونتعارف، ونتبادل التصافح بالأيدي.
راقبت كل حركات محمود درويش لسبب لا أفهمه، ربما لأفهم العلاقة بين هذا الانسان الهادئ الوديع، الذي اسمه محمود، وله مظهر الانسان الحالم … وبين شعره المتفجر بنار الغضب والثورة والجرأة. توقعت ان أرى انسانا حديديا رهيبا لكلماته فعل الرصاص … ولكني وجدت انسانا حلو المعشر، حديثه عذب جذاب ربما، يحب الحياة، يضحك بطلاقة، رقيق لأقصى ما تحمله الرقة والدماثة من معنى. له مظهر حالم كما قلت، وربما حتى بعض الحياء.
هذا هو انطباعي الأول عنه.
بعد الفحوصات وانتهاء الترتيبات المختلفة، التحق محمود بمعهدنا.
لا أدري كيف ذاب الثلج بيننا، وكيف استقرت العلاقة الفريدة التي جمعتني به في المعهد. ولكنها لم تستغرق غير اسابيع قليلة على ما اذكر، حتى استطعت التخلص من ارتباكي والحديث الحر معه ..
سحرتني شخصيته بوداعته التي تبلغ حد الطفولة.ومع ازدياد معرفتي به ، كنت أكتشف أمامي معدنا صلبا نقيا ، انسانا حقيقيا لا تتنازعه الميول الطارئة ، ولا يبني علاقاته الا على اساس الاحترام .
من الواضح ان وجودنا في نفس بيت الطلبة، وفي نفس المعهد، وفي نفس طبقة بيت الطلبة، وفي فرقة واحدة لا يتعدى أفرادها الثمانية … جعل المسافة بيننا تتقلص، واللقاء اليومي بدا يولد تفاهما في الذوق والميول وحب الحياة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني .. الى جانب معرفتي الجيدة نسبيا باللغة الروسية وبالعاصمة موسكو ومطاعمها الجيدة وحدائقها الجميلة وشوارعها وسائر تفاصيلها … وقد اكتشفت ان هذا الانسان الحالم لا يحفظ الشوارع بسهولة، ولا يحب التقيد بنظام بيت الطلبة الذي يحدد ساعات بقائنا خارج المنزل حتى الحادية عشرة مثلا، حيث كان الحارس للمبنى يغلق الأبواب ومن يتأخر يواجه مشكلة الدخول، ثم تنبيها وانتقادا.. ألخ. في أول سهراتنا بالخارج أخبرت محمود بهذا التحديد.. فرفضه ضاحكا معبرا عن امنيته التي طالت بقضاء سهراته خارج غرفته لساعات الفجر. ففهمت انه يعني ان هذه فرصة العمر، فبعد سنة سيعود الى حيفا والى الحبس المنزلي بعد غروب الشمس وحتى شروقها، حسب قانون الطوارئ الانتدابي الذي واصلت اسرائيل فرضه على “المشاغبين” أمثال محمود درويش!!
كان جليا ان متعته الكبرى ان لا يعود للمنزل قبل الفجر. كأنه يقهر شرطة اسرائيل بسهراته حتى الفجر هنا في موسكو.
في موسكو التقى محود درويش بالناقد والمفكر اللبناني الشهيد حسين مروة، الذي كان يعد رسالة الدكتوراه في نفس المعهد. والذي اعتبر في وقته (1969) محمود درويش كأبرز شاعر عربي معاصر. في مداخلة قدمها في إطار المعهد امام اساتذة وطلاب المعهد.
التقى محمود درويش في موسكو بعدد من ادباء العربية، بقي في ذهني منهم الكاتب السوري سعيد حورانية، الذي كان يحرر اسبوعية ” انباء موسكو ” باللغة العربية، حيث كنت أنشر قصصا ونشر محمود أحد قصائده الجديدة التي كتبها في موسكو، وأظن انها كانت انتقادا لأنظمة عربية تعاملت معنا كعملاء للصهيونية. كذلك التقى مع الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، ومع الناشر اللبناني، من دار العودة، محمد سعيد محمدية، والأديب اللبناني د. سهيل ادريس صاحب الآداب اللبنانية، والكاتب اللبناني محمد دكروب، محرر مجلة “الطريق” اللبنانية وغيرهم تفوتني أسمائهم …
قضيت أكثر من نصف سنة مع محمود درويش، في لقاء يومي وأحاديث يومية، للأسف لم أسجل أيا منها، وبعضها كان يتعلق بأدبنا المحلي، مشاكله ومشاكل تطويره، والتجديد في الشعر، وقد بدأت ألمس من وقتها انطلاقة محمود درويش نحو ما بات يعرف في شعره اليوم بالفضاء الانساني العالمي … خارجا من مرحلة الشعر الوطني التقليدي. وقبلها شعره الغنائي الغزلي بمعظمه …
لا أقول هذا للتقليل من مرحلة الشعر الوطني، أو أن محمودا لم يعد يكتب شعرا وطنيا، ولكن حتى في شعره الوطني بدأت ملامح الفكر الانساني الشمولي تأخذ مساحة هامة في كتاباته.
عندما سمعت، بعد عودتي بشهر أو أكثر محمود درويش يعلن عبر اذاعة القاهرة (1970) انتقاله لموقع آخر، حزنت وفرحت في نفس الوقت. حزنت لفقداننا هذا الركن الهام في شعرنا المحلي، وفرحت لانطلاقة النسر من أسره. بنفس الوقت لم أتفاجأ من خطوته. ربما يصعب على تفسير ذلك، ولن أحاول تفسير خطوته التي لم تفاجئني ايضا.
اليوم حين ننظر لخارطة العالم العربي الثقافية، نرى المكانة المرموقة لمحمود درويش، ودوره الطليعي في خريطة الشعر العربي، واسمه الذي صار عنوانا لقضية، وطنية وانسانية في نفس الوقت.
سيبقى محمود درويش علامة فاصلة لشعرنا، لثقافتنا، لإنسانيتنا، ولقدرتنا على مواصلة الابداع. ومواصلة التحدي والنضال لتحقيق الحلم الكبير لمحمود ولشعب محمود، بإقامة دولة فلسطين الدمقراطية، بيتا دافئا للشعب الفلسطيني، ويكفي فخرا لشعب فلسطين شاعرهم القومي الانساني، الذي صار اسمه مرادفا لما هو جميل وراق في الأدب العربي والعالمي كله.
وفي هذه المناسبة أسجل قصيدة لسالم جبران يرثي فيها صديق العمر والأخ بالروح محمود درويش.
قصيدة رثاء لمحمود درويش. نشرها سالم جبران باسم سعيد حيفاوي
” القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير ”
هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا
” هنالك ورد أقلُّ ُ”
” أنا يوسف يا أبي ”
أمامي طقوس ٌ كثار ٌ وليلٌ طويلٌ طويلْ
” أنا يوسف يا أبي ”
ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي
من الطيبين،
من البسطاء،
من الصادقين
ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين
فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم
وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان
بجانب نعشي، وتتلو صلاة الغياب
يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي
ولو بإزاحة أمي واخوتي الطيبين
وحولي من الزعماء اناسٌ
يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي
ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي
ليبقى لهم
وبه يعلنون ارتباطي بهم
عندما يقرب الانتخاب
ولو قدروا مزقوا لحم روحي
انا يوسف يا أبي
انا طيب، غير أنى
قليل السذاجة، يا أبتي
مثلما كنتُ دوما قليل العتاب
انا يوسف يا أبي
كل الناس بلادي وكل بلاد
رفاقي وأهلي
ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين
عدو الذباب!