محطات جمالية في..
( منمنمات دمشقية )
قراءة / حامد كعيد الجبوري
صدر عن وزارة الثقافة السورية / الهيئة العامة السورية للكتاب ( منمنمات دمشقية) وهو ( نصوص في الحب والحنين) للشاعرة ( ليندا إبراهيم)، برقم إيداع ٨١٨،٠٤ إ ب ر م /، عام ٢٠١٩ م، مكتبة الأسد.
يقع الكتاب ب ١٣٦ صفحة من الحجم المتوسط وبورق يميل للاصفرار، واشتملت المنمنمات على ثمانية فصول إبداعية غير الإهداء ، صلاة لأجل سوريا، نصوص في الحب والحنين، فرح أقصى.. أقل، قمر الشمال، أمي، قصيدة القصائد، للرجل الأخير في حقول الغبطة ، وأخيرا، أيها الشعر .
صمم الغلاف (عبد العزيز محمد) الذي لم أجده موفقا تمام التوفيق بالتصميم ، وأسجل أكثر من ملاحظة بتصميم الغلاف ، كنت أتمنى على المصمم أن يعرف معنى المصطلح (منمنمات) وجذره الإسلامي ، والتي كانت المنمنمات تزين قصور خلفاء بني أمية وبني العباس ، وهي زخارف أبدع بها النقاشون المسلمون، فزينت بها قصور الخلفاء، والمنمنمات لغة تعني أكثر من معنى ، ومنها ما تتركه الرياح من أثر على التراب أو الرمال، إذن لم اختار المصمم جسرا معلقا من الإسفلت ، ونافورة ماء ربما رأيت شبيهتها بساحة الأمويين بدمشق ، وترك الحارات الدمشقية القديمة وأزقتها ، وشناشيل بيوتها الأثرية ، وجامعها الأموي، ومراقد أولياءها، ومرافقها التاريخية الشاخصة ، ثم لم اختار اللون البنفسجي للغلاف ، حتى أنه أعطى بياض البياض الياسميني الدمشقي لونا بنفسجيا غامقا وبلونه الفاتح ، ثم أعطى اللون البنفسجي الغامق لعنوان النصوص المثبت على الغلاف ، ولم يبرزها بلون ابيض، أو حتى اللون الأسود .
أعتاد الشعراء والمؤلفون والكتاب أن يكتبوا إهداء ما ينتجونه من إبداع بأقلامهم ، واختارت الشاعرة ليندا إبراهيم إهداء منمنماتها الدمشقية قصيدة لشاعر رومانسي وروائي وصحافي من رومانيا، ( ميهاي إيمينسكو)، عاش ومات في القرن الماضي ، واحتملُ أن ما تريد قوله أتى على لسان الشاعر الذي حوّل الثوابت الفلكية الكونية لنص شعري ، (إلى النجمة التي أشرقت..
درب طويل جدا
آلاف السنين احتاج الضوء كي يصل إلينا..
من الممكن أن تكون انطفأت في الدرب..
منذ زمن طويل.. في البعد الأزرق ) ، وتخلص وهو ما تريده ، ( كذلك هو الحب..
يغيب في الليل المعتم العميق
ضوء حبنا الذي انطفأ
مازال يتبعنا بعد الذكرى) .
تبدأ الشاعرة ال (منمنمات) ب ( صلاة لأجل سوريا)، وبداية موفقة جدا ، من لا يصلي لسوريا الياسمين ، وعندي شخصيا لا صلاة لمن لا يصلي على سوريا ، ( أشهد أن لا حب إلا للشام
أشهد أن الشام حبيبة الله..
حيّ على الشآاااام…
حيّ على الشآم )،
نصوص ( منمنمات دمشقية) كتب جميع ما جاء فيها بلغة نثرية ترتقي لمصاف الشعر ، ومن نافل القول التذكير أن الشعر الذي وصل لنا بدءاً مموسقا – موزون – وبقافية واحدة، القصيدة العمودية ، والبشر بطبعه ميال للتجديد والابتكار، فجاء التغير الحداثوي، ولعب بشكل القصيدة ، وأطلقها من قيد قافيتها السياب بدر على رأي، والملائكة نازك على رأي آخر، وسميت قصيدة التفعيلة ، أو – الشعر الحديث -، ولم يقف الشعراء عند حدود حداثتهم تلك فابتكرت قصائد الشعر الحر ، وثم لما بعد الحداثة ابتكرت قصيدة النثر، وأخذت مسميات كثيرة ، الشعر المنثور، النثر الفني، الكتابة الحرة، الجنس الثالث، النثيرة الخ، والجميل أن لا يحاول جنس من أجناس الشعر إلغاء الجنس الذي ما قبله ، بل الكثير من الشعراء تبني جميع الأجناس الأدبية الشعرية وكتبوا فيها ، كما هو عند الشاعرة ليندا إبراهيم ، واذكر جوابا للشاعر العراقي (مصطفى جمال الدين) عن رأيه بالشعر الحديث فقال ، ( يولد الشعر كيف شاء وتبقى الـخمر خمراً مهما استجد الإناء ) والجميل أيضا أن لكل جنس أدبي كتابه ، وله من يقرأه ويعجب به ، وظهرت دراسات متأخرة تذهب إلى أن القصيدة العمودية سوف لن تصمد أمام التيارات الحداثوية الجديدة ، واجد أن ذلك زعما لا يصمد أمام الحقائق كما أجاب الشاعر جمال الدين، وبين أيدينا (منمنمات دمشقية) كتبت بجنس قصيدة النثر مسبلة عليه ، ترافة، وطرواة، ورقة، ولغة الشاعرة ليندا إبراهيم الصافية البعيدة عن اللحن والعجمة ، وإن وجدنا هنا أو هناك شطرا مموسقا فلا يقدح عند القراء بآليات قصائد النثر.
هكذا أحبت الشاعرة دمشقها، وهكذا تتغنى بها، ( طفلة من حنين… أدرج على طرقاتك وكل شئ من حولي شاهق كدهشتي بك : الحارات، الدروب) ، وسايكولوجية الشاعرة يعيد بذاكرتها، ( المخيم الفلسطيني…، جارتنا (( ام عادل)) الحورانية، الداية (( أم إبراهيم))،.. وطرقات المخيم التي باتت كحلم في الحلم)، وتأنف الشاعرة ذكر من تسبب في القبح الذي عبث بدمشق من الوحوش البشرية التي باعت القيم والتأريخ بحفنة دراهم، وقّع على دناءة النفوس من استلم ذلته بخراب بلاده ، ولا تشكو بل تتمسك بشرف وصبر ، ( وأبناؤها الشهداء يُضوِّؤُن فجرها الآتي) ، وتستعير من القرآن الكريم ، ( لا الشمس ينبغي لها أن .. تغيب ، ولا ليل بعد الآن )، وتعرج، ( لفرط روحي.. نسيت..، وبكيتُك… يا وطن الروح)، ومن لا يبكي هكذا مواقف.
بين الخطاب المباشر الممجوج، وبين الخطاب الرمزي، بل الموغل بالرمزية، تضيع منا الكثير من جماليات القصائد، ولست براغب ذكر من يتبنى الخطابين، وما اكترهم ، شاعر الرمزية يطوق القارئ بطلاسم لا يقدر على تأويلها حتى الشاعر نفسه، وشاعرتنا ليندا إبراهيم تختار الوسطية وتلك لعمري فرط ذكاء وفطنة ، الشاعر إنما سمي بشاعر، لشعوره بما يحيط من حوله، والشاعر المتمرس الذي خبر مشاعر الناس ويكتب لهم، بلغتهم، بعاطفتهم، برؤاهم، بما يصارعون، وتلك رسالة سامية للشعر وللشعراء، ( أيها الشعاع الذي بقلبي..، أيها النور الذي بروحي…، أيها الضياء الذي في شغافي..، الثُموا حرير وجنتيه..، وقبِّلوا تبر عينيه..) ، حين تطيب النفس يبدأ الغناء، ( ومن طقوس الزهر… أن يتمشى عبيره أنى تطأ خطاك.. ذلك السر.. بين عينيك وروحي.. لا تدركه العصافير)، فالعصفور بطبعه سريع التنقل بين غصن وآخر، ( الفراشات أذكى..)، الفراشات تقف على الزهر، وتتوغل لتويج الزهرة وتمتص الرحيق، بل وتذهب لأكثر من ذلك، ( فراشاتك عالقات بقميصي)، ولا تصل فالشاعرة خبأت الرحيق بمخبأ آخر، ( وهناك… حيث سدرة منتهى الحب..، سأحيا ما تبقى لي من حنيني بعيدا عن عذابك)، ولا تقدر على ذلك، ( لقد قطعت إسار الشوق..، وكسّرت قيود المحبة..، وهاهي ذي روحي تحلق إليك)، ( الدرب إليك أقصر مما توقعت..، بل.. كيف يكون ثمة درب وانت بي) .
لم تخل المنمنمات الدمشقية من ميثولوجيا الأساطير الدمشقية، وأساطير كونية أخرى ، كيف لا وسوريا اليوم فيها أكثر من ٤٥٠٠ موقع آثاري ’ بدءاً من العصر الحجري مرورا بالعصر الفخاري وصولا ليومنا الآن، ( أتذكرك.. كأحد جيوش (الإسكندر) المنكسرين أمام روحي)، و(تأتي فارسا من ملاحم روما.. أو الياذات الإغريق)، وستنتظر الشاعرة حبيبها، كما انتظرت ( بينيلوبي) زوجها ( اوديسيوس) القائد الذي أقترح الحصان الطروادي الذي دخل حاضرة طروادة، وهزم الطرواديين ، كما جاء في الأساطير الاغريقية في أوديسا هوميروس، وبينيلوبي تعد رمز الوفاء الذي تسلكه الشاعرة ليندا، وبينيلوبي حفظت عهد زوج غاب طويلا عنها وترك بحجرها طفلا رضيعا، وعاد اوديسيوس ووجد ابنه شابا ، وهي ( هيلين)، وهي (أثينا)، وهي ( المجدلية)، وهي العاشقة ( زليخا)، وتحلم بثوب اللقاء، وتنسجه على ما تشتهي، وتعيد تكوين وبعث حبيبها، لتهبه اللذة المشتهاة والحنين، وتصحو من ذلك الحلم ، ( سارفو روحي المتهرئة من عذاب انتظارك.. وأنضو عنها الثوب تلو الآخر .
لابد وأن نختم محطات الجمال المنمنة بقصيدة أمي، وأجد أن الشاعرة بوتقت لغتها بنار الفقد ، وصبته لغة حنين مصفاة ، خالية من الحشو ، وغلفت الموت بمسحة القداسة وأحاديث ومرويات عقائدية، استخلصت لنا بمرويات الغياب الأبدي، ( انتبهت روحك وسارت وراء مليكها حيث النور الذي يستحق ويحتفي بنور روحك..)، وتتحدث عن عذاب أمها، وصراعها مع المرض الذي واجهته راضية بقضاء الله ، مرضية لتمضي روحها خالصة للبارئ الكريم، ومرويات الميثولوجيا الدينية – لكل الأديان تشترك بذلك – أن المتوفى يضحك لضيفه – مليك الموت – ويرحب به ( أهلا بك على رحب الروح وسعتها )، إن كانت أفعاله مرضاة للبارئ، ومرضية لعباده، ( كنتِ تبسمين لطيف ما.. خيال ما.. مليك ما.. لا يراه احد غيرك..)، وإن افترضنا أن الراحلة لم تترك وصايا مدونة، فيكفي بريق روحها، وفطنة قلبها، ليعلما الشاعرة كيف، ( يُخلصُ الجسد للروح.. الفاني للباقي..، التراب للنور)، وكل لحظة تتنفس أمها، وتفتح رئتيها علها تحتويها، ولا تهرب منها لحظة الشهقة الأخيرة، ( ها أنذي روح تهوِّمُ بلا جسد، عند مفارق النسيم الشذية تزاور روحك .
ليندا إبراهيم / ببلوغرافيا :
ليندا سلمان إبراهيم
مواليد دمشق / إجازة في الهندسة
صدر لها :
لدمشق هذا الياسمين / مجموعة شعرية
فصول الحب والوحشة / مجموعة شعرية
لحضرة الرسولة / مجموعة شعرية
أنا امرأة الأرض / مجموعة شعرية
لسيدة الضوء / مجموعة شعرية
على الجسر العتيق / سرد
الجوائز التي حصلت عليها :
جائزة المجاهد الشيخ صالح العلي / سوريا
جائزة مسابقة أمير الشعراء – الإمارات العربية المتحدة
جائزة نازك الملائكة / العراق
جائزة عمر ابو ريشة / سوريا